صديق عبد الهادي في مقالٍ موسوم نشرته فصلية "المنثلي ريفيو"، في عددها رقم 57-1 في مايو 2007م، وتحت عنوان جاذب، صيغت كلماته بعناية: " رأب الصدع....تجديد وإعادة تأهيل الزراعة في كوبا"، وتحت عنوانٍ جانبي يقول، " الأرض هي الكنز، والعمل هو المفتاح"، لخصتْ الباحثة "ريبكا كلاوسن"، الدارسة لعلم الاجتماع البيئي في جامعة كلورادو بالولايات المتحدةالأمريكية، لخصتْ وبيسرٍ مدهش، ذلك المفهوم الاقتصادي الفلسفي الشائك الخاص بأحد اهم علاقات الانسان بالطبيعة، حيث أشارتْ وأبانتْ كيف أن عاملي "الأرض" و"العمل" في جدلية تشابكهما، يمثلان المصدر الاساس للثروة بمعناها الإقتصادي الحقيقي. إن حقيقة هذه العلاقة التي اشارتْ إليها الباحثة، يتلمسها القارئ، ودون شك، حين الإطلاع على المكتوب المفيد الذي أعده مكتب البحوث والمعلومات التابع لتحالف مزارعي الجزيرة والمناقل، والذي نشره في أغسطس 2014م، في رده على التقرير الذي اعدته لجنة د. تاج السر مصطفى، والتي عُرِفتْ، وستندرج ايضاً في تاريخ الاقتصاد السياسي لمشروع الجزيرة، تحت إسم "لجنة مراجعة الأداء بمشروع الجزيرة". إذ في معرض ردهم على السؤال، الذي إفتتحوا به تقريرهم، من اين جاءت رؤاهم ومفاهيمهم كتحالف؟، إجابوا قائلين بأنه، "قد تأخذ الاجابة على هذا السؤال منحى أكاديمي عند المتخصصين في مجال منهجية البحث، لكن نحن كتحالف تسيطر علينا ثقافة المجتمعات الزراعية وتؤثر في تكويناتنا الفكرية والثقافية والإجتماعية، لذلك تتسم رؤانا بالواقعية والمعقولية المرتبطة بالأرض، الماء، الزرع، وطبيعة العمل الزراعية"(من الديباجة، ص 3). هناك ملاحظتان تبرزان عند مقام هذا المقتطف، الأولى هي، أن هذا النوع من الكتابة الواضحة والمباشرة لا تنتجه إلا التجربة الحياتية ومعايشة الواقع. أما الملاحظة الثانية فهي، أن تلك هي الكتابة التي تساعد على فك طلاسم المفاهيم النظرية وفهمها مهما إستعصتْ، مثل ذلك المفهوم الذي عالجته الباحثة "ربيكا كلاوسن" حول العلاقة بين الارض والعمل، وإنتاج الثروة، كما سلف. تناول تحالف المزارعين في رده، وبالفحص المتأني، المحاور السبعة التي تضمنها تقرير لجنة تاج السر. إتسم رد التحالف بالموضوعية والصرامة في آنٍ معاً، إذ لم يبخس مجهودات اللجنة او ينتقص من قدر اي من معالجاتها الصادقة اومقترحاتها، حيث قال،"2- تكوين اللجنة به من الخبرات والكفاءات رغم انهم من ابناء حفرة النظام الذي ساهم في التدهور، والمفارقة ان رئيسها من منظري الخصخصة وبرامج الهيكلة في المشروع. رغم هذا كان التقرير موضوعياً ومهنياً في معظمه، فلهم التقدير والاحترام." (رد التحالف ص 10). هذا فيما يتعلق بشأن الموضوعية، اما فيما يختص بالصرامة بل والمبدئية فقد ذكر التحالف وفي مطلع مكتوبه للجنة، قائلاً، "ظل التحالف سداً منيعاً في وجه برامج الخصخصة والفساد التي دأبت على إفتراس مقدرات المشروع وأصوله متخذة كل الحيل المسنودة بقوة السلطة ومشروعها الرأسمالي الذي يهدف إلى تحويل المشروع إلى إقطاعيات في أيدي قلة نافذة" (رد التحالف ص 4). هذا المدخل مهم في تناولنا وتقيمنا لرد التحالف على تقرير لجنة تاج السر. أوضح التحالف، ومما لايدع مجالاً للشك، بانه مُلِمٌ بقضايا المشروع. وانه يمتلك المعرفة الصلبة بالاسباب الحقيقية من وراء محاولة القضاء على المشروع. فلقد كان التحالف على قدرٍ كبيرٍ من وضوح الرؤية حين أشار لتلك الحقيقة التاريخية الفاقعة والمعاصرة، التي لم تكن سبباً للقضاء على مشروع الجزيرة وحسب وانما سبباً ودافعاً للقضاء على مجمل إقتصاد السودان، إذ قال، "حتى جاءت السلطة الحاكمة التي تحمل نفس آمال واهداف الرأسمالية في ضرب العمل العام والمشروع لمصلحة مشروعها الحضاري الداعي للتمكين الاقتصادي للجماعة على حساب جموع الشعب".(رد التحالف ص 6). لقد اصاب التحالف بذلك كبد الحقيقة. لأن حقيقة "التمكين الاقتصادي" هذه، والتي لم يتردد التحالف لحظةً في الوقوف عندها، لم تَجْرُ ايٍ من اللجان على القول بها. وما من سببٍ لذلك سوى ممالأة تلك اللجان وموالاتها غير المعلنة للسلطة الحاكمة، هذا إن لم يكن بداعي الخوف وإتقاء اليد الطولى. وهنا لابد من الإضاءة. إنه، ومن المهم القول بأن بدعة "التمكين الإقتصادي" التي إجترحتها الحركة الاسلامية في السودان، هي في جوهرها سلوك إستعماري، تحاشاه حتى وكلاء الإستعمار بعد جلائه من البلدان التي كان يديرها.وقد كان ذلك التحاشي بسبب تطور المفاهيم الاقتصادية المرتبطة باساليب الاستغلال الحديثة، حيث رفع الاستعمار يده من إمتلاك مقدرات الشعوب ومواردها بالشكل المباشر، وإستعاض عنه بخلق إرتباطات وعلاقات جعلت مجمل انتاج تلك الشعوب يدور في رحاه. فأما ما قامت به الحركة الاسلامية هو ان وضعت يدها بشكل مباشر على الممتلكات العامة والخاصة، إذ إستخدمت سلطان الدولة في نزع ممتلكات الدولة نفسها والممتلكات الخاصة ومن ثمّ مكنت منها الاسلاميين، اي افراد الجماعة، كما اورد تحالف المزارعين وبشكل دقيق، معتبراً ذلك "التمكين" هو العلة من وراء "ضرب العمل العام والمشروع"!!!. تعددت أشكال التمكين، وتباينت نتائجه المدمرة حسب القطاعات الإقتصادية المختلفة. وعلى ضوء ذلك فإن شكل التمكين الذي ارادت الحركة الاسلامية تطبيقه في مشروع الجزيرة كان مختلفاً عما سواه في اي قطاعٍ إقتصاديٍ آخر، ومن ثمّ كانت نتائجه كارثية!!!. ونواصل.... [email protected]