أتذكرون تلك القصة الشهيرة بين المزارع والثعبان التي تحكي عن لدغ الثعبان لإبن المزارع الذي يقيم بمزرعته مما أدى لقتل ذلك الإبن الذي حزن عليه والده كثيراً والذي هَمَّ على الإنتقام له فتربص بالثعبان ولكنه نجح فقط بقطع ذيل ذلك الثعبان. وهكذا ظل الصراع بينهما طويلاً كل يترصد الآخر، إلى أن جاء يومٌ وبادر المزارع بطرح مبادرة للتعايش السلمي وعفا الله عمَّا سلف، وهنا انطلقت من فم الثعبان حكمة إذ قال مخاطباً المزارع أنت لن تنسى موت أبنك وأنا لن أنسى قطع ذيلي. هذه المقولة التي تدعو للتأمل والتفكير تسقط بكل ظلالها على ما نشهده من صراعٍ مريرٍ على السلطة بين فصائل الإخوان المسلمين ويتجسَّد ذلك بتقارب وتصالح البشير والترابي بعد أن قبض الأخير عربون هذا التقارب بإبعاد علي عثمان ونافع وعوض الجاز. فقد أوهم الترابي البشير بأن هؤلاء هم أعداءه ولا عداء بينه والرئيس مطلقاً. فهل نجح في تسويق هذا الزعم المفخخ؟. أكاد أجزم بالعشرة بأن الطرف الآخر لم ولن تنطلي عليه حيلة ومكر أستاذه ، لكن البشير- تصنَّع التفاؤل لفك أزمته المستحكمة ولا بأس من الإستعانة بأستاذه مرةً أخرى .ولكن شهوة السلطة وحلاوتها علمته أن يكون حذراً ومستعداً لردة الفعل من الطرف الآخر. فهذا التصالح الظاهر للعيان ما هو إلا صراعٌ طويلٌ ومكتومٌ، وهذا ليس رجماً بالغيب ولكن كل مراقب لنهج الإخوان المسلمين يستطيع أن يستنتج ذلك بكل بساطة ،وسيزداد دفاع المؤتمر الشعبي ضراوة عن فشل المؤتمر الوطني لإقناعه بمدى حسن نواياه إلى حين إقتناص الفرصة المناسبة. ولكن المؤسف حقاً أن هذا الصراع سوف يعاني منه الشعب السوداني قبل أن ينتهي أو ينتقم طرف من الآخر فالعاقبة ستكون وخيمة بكل معنى الكلمة. السؤال هل من سبيل لتجنيب هذا الشعب الآبي من مثل هذا المآل؟ والإجابة على هذا السؤال تتطلب طرح سؤالٍ جوهريٍ لماذا ظلت هذه السلطة أكثر من ربع قرن قابلة للزيادة بعض سنوات؟. ومن هذا السؤال ستتولَّدُ تساؤلاتٍ عدة أسئلة أخرى قد تساعد في إجابة تشفي الغليل على شاكلة هل لأن غالبية جماهير الشعب السوداني ملتفة حول هذا النظام الغاشم ولا تريد له بديلا؟ أو لأن هذه السلطة قد أتت عبر صناديق الإنتخابات ولم تقم قط بتزويرها ،وأن هذه السلطة مطلقاً لم تعتد على الشرعية التي كانت قائمة وأتت على ظهر دبابة ومازالت قابعة عند مداخل الكباري وبالإذاعة والتلفزيون .أم لأن هذا النظام قد قام بإعمار البلاد عبر مشاريع التنمية المتوازنة التي ننعم بخيراتها الآن؟ وتصدي بقوة لكل محاولات المعارضة الفاشلة لتدمير الخدمة المدنية ومشروع الجزيرة والسكة الحديد وهلمجرا ؟ أم يا ترى لأنه بسط عدالة وسماحة الإسلام؟ ولم يسكت على جرائم القتل والتعذيب والإغتصاب وإشعال نيران الحروب الأهلية والنزاعات القبلية من لدن أميريكا وحلفائها الخونة بالداخل. إذا ما هو سرُّ قُوَّة هذا النظام الذي مكنه من البقاء جاثماً على صدر الشعب كل هذه السنوات العجاف؟. في رأيي أن سر بقاء هذا النظام يكَّمن في التكتيكات التي اعتمدها وظل يستخدمها ويكررها بإستمرار. ورغم بساطة هذه التكيكات وتكرارها إلا أن الأمر الغريب والمحير نجد أن المعارضة في شقيها السياسي وحملة السلاح تبتلع وبإستمرار هذا الطعم ،ولم تتعظ بل لم تمنح نفسها فرصة التفكير والتأمل قبل الإنجرار نحو شراكة السلطة المنصوبة كل مرة. منذ استولت هذه الطغمة على السلطة في البلاد بليل بهيم وبشعور السارق الجبان استخدمت كل أساليب وصنوف البطش والتنكيل من إعتقال وتعذيب وقتل وتشريد وإذلال وعمدت على مصادرة الحريات العامة فحظرت النشاط السياسي وهجمت على العمل النقابي بشكل جنوني في محاولة لتدجينها وإفراغها من محتواها ومحو كل الإرث النضالي والنقابي المطلبي. وعندما لم تنكسر شوكة الشعب الأبي بعد كل الممارسات البغيضة وحاصرتها الأزمات من كل جانب ابتدعت بدعة التوالي لصرف الأنظار ببذل الوعود الديمقراطية قادمة. ومن بعد انحنى النظام أمام العاصفة ووقع على إتفاقية السلام ريثما يلتقط أنفاسه مُضمراً كعادة النكوص عنها عندما يحين الوقت المناسب لذلك ولتحقيق ذلك استخدم كل أساليب المراوغة والمغالطة والخداع. ومن أساليبه المعتمدة بقوة إستخدام أموال الشعب المنهوبة لتوطيد سلطانهم فتفشت ظاهرة شراء الذمم بأبخس الأثمان من أرخص النفوس وعن طريقه إستطاعت زراعة الفرقة والشتات وسط الأحزاب السياسية والحركات المسلحة على حد سواء. إستفاد النظام من المكتسبات التي تضمنت دستور 2005م الإنتقالي لتظهر للعالم وجهاً جميلاً مخالفاً توجهها الحقيقي في الداخل، فصار حق التنظيم وحرية الصحافة والإنتخابات مرهوناً بمباركة النظام وإلا تفعيل نصوص وفقاً للقانون أو حتى مخالفة الدستور بشكل واضح. شجع النظام إطلاق المبادرات سواء من بعض الوطنيين أو بواسطة وكلائه حتى أغرق الساحة السياسية في بحر متلاطم من المبادرات وزبانية النظام يوارون ضحكاتهم الصفراء في جلساتهم الخاصة وعليه يمكن تلخيص التكتيكات التي استخدمها النظام ومازال في الآتي:- إستخدام القوة بكافة أشكالها وفي كل الأوقات (الشهداء منذ علي فضل و28 رمضان وبورتسودان وكجبار والعيلفون وهبة سبتمبر 2013م...الخ). مصادرة الحريات دون إكتراث لنصوص دستور أوحقوق إنسان مع جرأة في الكذب وإدعاء خلو سجونها من المعتقلين السياسيين والمحكومين في مغالطة لا تصدر إلى من نفوس شائهة. إستخدام المال وسيلة لسياسة فرق تسد الإستعمارية وسط الأحزاب السياسية والحركات المسلحة بشراء ضعاف النفوس والعناصر الإنتهازية التي قدمت خدماتها لكل الأنظمة الشمولية التي مرت على السودان وعلى إستعداد لتقديمها للدكتاتور القادم أيضاً. إطلاق المبادرات دون دفع إستحقاقاتها وتشجيع الوكلاء لإطلاق المزيد من المبادرات لخلق ربكة في المشهد السياسي. إطلاق التصريحات المتضاربة حول موضوع واحد لمزيد من الإرباك. ما هو الخلاص؟ الخلاص من هذا النظام الفاسد الذي بينه وبين القيم عداء وجفاء يمكن في رأي في الآتي:- أولاً: توحيد صفوف المعارضة الوطنية الجادة وكشف المواقف المهتزة أو تلك التي تتلمظ لوعود النظام الكاذبة وهذا يتطلب عدة مراجعات منها الآتي:- تقييم جاد لتجربة قوى الإجماع ونشره على جماهير الشعب السوداني مع النقد الموضوعي لجوانب الفشل والإخفاق. إعادة النظر في هيكلة وتكتيكات تحالف قوى الإجماع الوطني. الدفع بعناصر جديدة ذات كفاءة لضخ الدماء في أوصال تحالف قوى الإجماع وهذا مسؤولية الأحزاب المنضوية تحت لوائه فيما يتعلق بمنسوبيها. مراجعة وثيقة البديل الديمقراطي بأفق يستوعب المستجدات. تحديد موقف واضح من حالة الديمقراطية واللاديمقراطية التي نعيشها. ثانياً: فرض عقوبات صارمة على النظام: لقد ظل هذا النظام دوماً يفرض أقسى العقوبات على الشعب السوداني سياسياً، إقتصادياً وإجتماعياً وقد حان الوقت أن يستخدم الشعب حقه في فرض عقوبات على النظام إلى جانب أساليبه المعروفة في النضال وإقترح للتداول ولإضافة عقوبات اقتصادية وسياسية ودبلوماسية على هذا النحو: 1/ العقوبات الاقتصادية ويمكن أن تبدأ بالآتي:- تقوم كل أسرة بتخفيض إستهلاكها من الكهرباء تبدأ بنسبة 10% ويمكن أن تزداد تدريجياً إلى الحد المعقول لكل لأسرة. يقوم كل صاحب عربة خاصة بتخفيض إستهلاكه من الوقود تبدأ ب 2 جالون أسبوعياً تندرج للحد الذي يستطيعه. يقوم كل مواطن بتخفيض من محادثاته عبر الهاتف إلى نسبة 50% أو حسب استطاعته ويمكن إبتداع أشكال أخرى أو تعديل هذه المقترحات حتى تؤدي الغرض المنشود منها. وغني عن القول أن نجاح هذه العقوبات رهين بمدى التعبئة حولها وهذا منوطٌ بالأحزاب. 2/ عقوبات سياسية التعبئة العامة لمقاطعة إيجابية للإنتخابات منذ الآن. مقاطعة كل فعاليات النظام في العاصمة والأقاليم. 3/ عقوبات دبلوماسية على تحالف قوى الإجماع وبقية مكونات المعارضة خارجه التنسيق لتكوين لجان من مقتدرين بالخارج للعمل على كشف وتعرية النظام وصولاً لعزله ما أمكن ذلك. الميدان