كتاب «الكويت: جدلية السلطة والثروة» لأحمد العنزي كتاب تاريخي سردي، من نوع السرديات التاريخية، إذا كانت السردية بأدق تعاريفها عند هومي بابا «مجموعة من الأحداث»، وهذا هو الجامع بينها وبين سرد القصة، ويختلف عنها في سرد الأحداث الحقيقية مشكلا مفهوم السردية في الدراسات الثقافية، فيما يكون السرد القصصي هو سرد تخييلي يحاكي الواقع ولا يتطابق معه». كتاب «السلطة والثروة» ينطلق من جدلية تذكرنا بجدليات الأب الروحي لهذا المشروع البحثي فوكو وكتابه «السلطة والمعرفة «وتفترض مبحثا آخر بعنوان آخر مفترض: السلطة والشعب كما سأوضح بعد قليل. الكتاب صيغ بلغة تتكئ على فكر ما بعد حداثي بقالب سردي تاريخي طبع بروح المراجع التاريخية التي استند إليها، حرمتنا من قراءة لغة حية ومعاصرة ونابضة بعيدة عن أسلوب الروايات التاريخية، ذات قفزات تحليلية نقدية تعلق على بعض الآراء التاريخية منقلبة على فكرة المسلمة التاريخية والمعطى والمنجز والمعاد، من دون تفكير وتحقيق تاريخي جاد غير محاب أو مجامل. كما ينطلق من منهجية باحثة عن المسكوت عنه والثانوي في فكر الخطاب المهيمن، لفترات طويلة على السرديات التاريخية الرسمية بالكويت، كما يؤكد: «إن تاريخ الكويت الذي علينا سبر أغواره في هذا العمل ليس تاريخ «السير الذاتية» أو التاريخ الذي تتبناه وتكرسه مؤسساتنا الأكاديمية الرسمية، ولا ذلك التاريخ الذي يعتمد على سرد وتدوين ووصف وتفخيم وتقديس شخصيات ومؤسسات بعينها دون سواها، إن تاريخنا هو تلك الأحداث التي «صمت» عنها المؤرخون الأوائل، أو من سار على هديهم التي تكشف، بل تضعنا أمام مدلولات وحقائق أخرى ظلت غائبة عن القراء ردحا من الزمن». (الكتاب ص 11). وما يرمي إليه الكاتب كما سيتضح لنا إن فئة البسطاء عامة الشعب كانت غائبة عن وعي السلطة والتجار، وهما يصوغان علاقتهما المنفعية المتبادلة، مما يثير لدي سؤالا مهما يكمن في طبيعة التجار وانطلاقتهم، هل هي انطلاقة تاجر رأسمالي يبحث عما يخدم مصالحه، أم انطلاقة تاجر يحمل هموم العامة التي يتحدث باسمها من خلال الانتماء لها، على وجه الخصوص. إن المجتمع كان صغيرا وذا علاقات اجتماعية مترابطة، وإذا كان الأمر بخلاف ذلك، فما الذي يجعل هؤلاء البسطاء معزولين وسلبيين وهامشيين ويشغلون دور المفعول به المغيب وصامتين عن المطالبة بحقوق تمثيل مصالحهم في المجالس النيابية. أعود لجدلية الكتاب المفصلية الخاصة بالتقصي لعلاقات السلطة والاقتصاد في التاريخ الكويتي، القائلة بأن نشأة المجالس التشريعية وبداية العمل الديمقراطي بدأت لتنظيم العلاقة بين السلطة والتجار، للحد من تحكم السلطة المفرد بمقدرات الدولة، كما أنها محاولة تنبثق من محاولة فهم تأثير السلطة على الثروة، وبالتبادل تأثير الثروة على السلطة. وهو أمر مهم وشائك لا تقل أهميته عن علاقات السلطة بالأطراف الأخرى التي تتبادل شبكة العلاقات فيها. منهجيا توزعت دراسة الجدلية تاريخيا وفق الترتيب الزمني المتعاقب على ثلاث حقب زمنية : 1 حقبة الشيخ مبارك، 2 حقبة الشيخ أحمد الجابر، و3 حقبة الشيخ عبدالله السالم، مستقصيا هذه العلاقة خلال الفترات الزمنية الثلاث، كاشفا تعرجات وانثناءات هذه العلاقة التي لم تكن مستقرة على خط زمني متتابع، فمرة تنتصر السلطة في فرض سطوتها بالاستعانة بمن يسميهم الباحث بالبسطاء من العاملين في البحر أو رجال العشائر، ومرة أخرى تكون صلاتها أقوى مع التجار. بنظرة تبحث في المسكوت عنه في التاريخ تؤكد أن سبب نشأة الدستور هو سبب اقتصادي براغماتي يخدم مصالح التجار، تؤكد على أن الاقتصاد هو عصب الحياة وأن السلطة لا تستطيع الانفراد بالحكم بنفسها بمعزل عن الاقتصاد، مما يثير الشك حول دور الاقتصاديين في حكم أي نظام رأسمالي. كما يتضمن بين طياته رغبة الباحث في تحقيق العدالة الاجتماعية بنفس ماركسي لا يتحقق إلا بدخول الشعب في هذه المعادلة، لتحقق له المزيد من الحقوق، وأن يكون أحد أهم المكونات في وعي السلطة بشكل إيجابي بدلا من بقائه في لا وعي المكونين السابقين، وهذا ما ننتظره من العنزي بأن يلحق هذا الجهد بكتاب عنه يختص بدراسة علاقة السلطة والشعب، السلطة والمعرفة لكي تكتمل سلسلته النقدية المهمة في قراءة الجدليات المسيطرة على اللاوعي السياسي المعاصر، وإن بدأت تعلن عن نفسها بين طروحات متفرقة من كتاب آخر بحاجة إلى أن تتكثف وتنتظم بخطاب سياسي معاصر أهم ثيماته هو علاقة السلطة بالشعب والاقتصاد، يبحث في نظرة السلطة للشعب. ويثير الأسئلة التالية: هل هم رعية مسؤولة عنها أم مجرد أداة سياسية لتحقيق أجندات سياسية، كما يبحث في نظرة الشعب وبتدرج تاريخي للسلطة وفق الحقب الزمنية الثلاث المفصلية في تاريخ الكويت، هل هي علاقة ولاء مطلق أم علاقة مصالح متبادلة مثلما هي علاقة التجار بها، كما يهمنا أن نعرف بداية الوعي الديمقراطي عند هؤلاء البسطاء، وهل كانت هناك أي مطالبات من البسطاء وقت تشكل المجالس في الحقب الزمنية السابقة، أم كان هذا الأمر مغيبا عن الوعي ذاته في تلك الفترات التي تشهد على بساطة المطالب الشعبية المتوسعة لاحقا. وهل هذا المسكوت عنه لمدة طويلة منذ بدايات نشأة الكويت بدأ يظهر في وعي المعارضة الحالية في الكويت، القائمة على جهود أبناء القبائل، بينما بقي التجار للمفارقة هم صمام الأمان للسلطة مع شيوخ العشائر الذين حصل بينهم وبين أبناء قبائلهم شرخ خطير، مما يدل على أن العلاقة بين السلطة والتجار متوافقة. اللافت في الكتاب تفاصيله الدقيقة ولغته البعيدة عن التعقيدات، يفهمها القارئ العادي كسهل ممتنع ذي طبقات تحليلية متعددة، أعلاها تهم القارئ المختص لأنها تفكك التاريخ برؤية فلسفية عميقة تجلت بالمقدمة والخاتمة اللتين تختصران المباحث وتثيران طريقة تحليل نقدية، تستند إلى موتيفات العقل الباطن وأشكال السلطة المستدعاة من الخطاب الفلسفي الغربي، تنقلب عن المألوف وتقول بجدية وجرأة كاملة، نبارك للكاتب على امتلاكها وصراحة ومباشرة من دون مواربة هي نراها ما ينقص الخطاب النقدي الكويتي المعاصر. * كاتبة كويتية سعاد العنزي* القدس العربي