حرت كثيرا وأنا أهم بافتراع ورقة بيضاء عذراء كي أتحدث عن الكتابة الجديدة، حيث أجلت الكتابة عن الموضوع عدة مرات، حاولت أن أكتب بعض الفقرات لكنني سرعان ما مزقتها. الكتابة عن الكتابة أمر صعب للغاية، هكذا حاولت أن أفكر بوعي في الموضوع مدة طويلة، أفكر، وفي الوقت نفسه أنظر بسخرية إلى الكتب المكدسة، وأتساءل كم يلزمنا من الوقت لنعيد فهم ما قرأنا، هل نقرأ لنحقق لذة غامضة أم نقرأ لنتجسس على الآخرين؟ هل نقرأ لنفهم ذواتنا أم نقرأ لنتخلص من بعض الزيف الذي يسكننا؟ تعمقت حيرتي، وأنا أطرح هذه الأسئلة، أسخر من ذاتي، وأسخر أكثر من فوضاويتها، تركت الموضوع جانبا، أجلته، وانغمست في دروب الحياة باحثا عن الجدة خارج نوافذ الذات.. أبواب المدينة طردتني لأعود من جديد إلى أوراقي البيضاء التي تنتظرني.. طردتني دون رحمة. فتحت ورقة أولى، كتبت في أعلاها لماذا أكتب؟ تأملت مكتبتي الصغيرة، ومسوداتي المبعثرة، تأملت هذه الفوضى التي أعيش داخلها، وتساءلت من جديد لماذا أكتب؟ سمعت صوت ألبرتو مورافيا منبعثا من أقاصي الصحراء، يتردد الصدى: أكتب لأخفف قليلا من الذاكرة المثقلة، التفت ورائي، يختفي الصوت، أكتب لأخفف من ثقل هذا العالم باسمنتيته وضجيجه، أكتب لأشهد ولادتي من رحم السؤال، وأكتب لأرى حقيقتي البعيدة/ القريبة تزداد تشوها. يحدجني إدواردو غاليانو بنظرة مستفزة وكأنه بالكاد قد تحرر من منفاه، وخطط مسودة أفواه الزمن، أبتسم، وأقول له : أنا أكتب لأتمكن من الاستمرار في الحلم، أعلم أن الحلم مشروع إن ظل غامضا، قلقا، وسخا، ومؤجلا، هل ستظل مؤجلا طيلة حياتك؟ عش حياتك لترويها، بنبرة الواثق يتوعدني غبريال غارسيا ماركيز، وكأنني أرتكب خطيئة وأنا أبحث عن جواب شاف كاف لسؤالي، لعل الحياة كفيلة أن تقدم لنا أجوبة عن أسئلة الكتابة، ما دمنا نعيشها دون أقنعة، وكذلك الكتابة أن تكتب لتحرر أناك من أقنعتها المطاطية، يصيح يوكيو ميشيما: إنها روايتي، إنها روايتي، ألا تعرف «اعترافات قناع»؟ وأنت هل تعرف محض قناع؟ كلاكما تجلسان معا، المهدي أخريف الذي يعشق الحياة، وأنت الذي ترفض الحياة بعد الأربعين، أما أنا سأكتب، وسأعيش حتى تملني الحياة.. إذن أكتب لأحيا وأستمر على نحو مغالط، أكتب كي لا يقول لي خوليو كورتاثر: اذهب لتعلب الحجلة. أكتب لألعب بالعوالم التي أتخيلها وأصنعها، أشيدها, أهدمها دون أن أدعي أنني كفكاوي تأخر به الزمن، أو نيتشاوي نسي موعد القطار.. أشيد وأهدم، لأغفو قليلا في حضن الخالة، هل سأمتدحك كما فعل يوسا؟ الخالة التي لم تكن خالتي، ظلت دائما بطيبوبتها تحرضني لأكتب، تحرضني كي أتخلص من أقنعتي، في خاتمة المطاف، تيقنت أن الكتابة تحريض على الخطيئة. إنها محو، إنها محو، إنها محو.. ها هو بورخيس يلعب لعبة المرايا والمتاهات، رفقة أنتونيو غالا وهنري ميلير، بينما ألان بو يراقبهم بشغف، أرفع رأسي قليلا، تداهمني أصوات كتابي: ارحل، ارحل، هل نكتب كي لا يسكننا الرحيل؟ يطردونني من مملكتهم التي هي مملكتي، أخرج مرغما، أسمع صوت ارتطام الباب، أقترب منها قليلا، أسمع حركة دؤوبة، ربما هو موسم اللعب.. ألج مطبخي لأعد فنجان قهوة سوداء، أحبها بقليل من لاموند، وأنا أعصر قهوتي الليلية، يباغتني سؤال وراء النافذة الضبابية: كيف أكتب؟ أتأمله، وأشيح بنظري عنه لأكمل تجهيز قهوتي، يتحول السؤال إلى صوت: كيف أكتب؟ يتردد برتابة، أشغل سيمفونية «الفصول الأربعة»، بينما تجذبني أصوات فيولا، وكونتراباص، وكورنو، أحاول أن أميز صوت كل آلة، تطالعني موسيقى السؤال السابق: كيف أكتب؟ أقفل السيمفونية، وأعود لمواجهة سؤالي، سأشكك في السؤال عساه ينقذني من هذه الورطة: سؤال الكيف، يبقى دائما غامضا وناقصا، فمهما حاولنا تحديد الكيف، سيبقى الكيف مجهولا، لأن كيف تتخذ تمثلات مختلفة من كاتب إلى آخر، ولأنها هولامية، سأحاول أن أقبض على بعض منها، كما أراها، أو كما أمارسها. يبدأ النص جملة، تسكنني ردحا من الزمن، وهذا الردح قد يطول، وقد يقصر حسب مزاجي، أردد الجملة كثيرا، وأتخيلها تحمل فكرة، أتخيلها تبحث عن جمل أخرى لتسكن إليها، والجملة تتشابك مع رفيقاتها، وأنا أراقبها في المحطات والمقاهي والغرف والطرقات، أدعها تنكتب أو تسيل، أراقب ولادتها، وحينما تتكاثر الجمل الطويلة والقصيرة، استخرج مبضعي ليئد الجمل الناقصة تلك التي لا أطمئن إليها، أو لا تستجيب إليها ذائقتي، أشطب وأشطب، وأرمي المسودات حتى لا أعود إليها، أشذبها لتنمو، أنا خالقها ومانح وجودها.. أتركها لتستريح من عناء المبضع، وثقل الاستعارة، فالحكاية التي أحلم بها، تسكنني ولا أجد السبل كي تولد ولادة مشوهة، أكره اكتمالها، لهذا أؤجلها لتنضج، تسكنني الجملة، والفعل، والفاصلة، أحاول دائما، أن أكتب مقطوعة موسيقية مثل تلك التي أبدعها فيفالدي، أسعى أن تكون الأنغام متناسقة، ففي النهاية قلوبنا هي التي تقرأ، أما آذانها فهي مجرد ديكور لا أكثر.. ولأنني مهوس بالأفلام من طينة العراب، والقيامة الآن، وصمت الحملان، وسيد الخواتم.. فإن حلمي، أن أقبض على اللحظة المنفلتة بعدما أرصدها وهي تتحرك، أحلم أن تتحول عيني إلى كاميرة سينمائية متطورة تخترق الدواخل.. وأحلم أن تتحول أناملي إلى ريشة تشبه ريشة دالي أو بيكاوسو أو رينوار أو فان خوخ أو رامبرانت.. من يدري؟ لكنه حلم بعيد المنال يا صاحبي.. كيف أكتب؟ أكتب فكرتي بشعرية تضع مسافة مع الغموض، شعرية قابلة للتفسير على أنحاء احتمالية، أنا الذي ولدت في رحم القصيدة، وأعترف أن طريق الشعر شائك لا يسلكه إلا العلماء بأسرار الوجود، كم ترعبني فكرة أن أكون شاعرا، لهذا ابتعدت عن الشعر وعوضت فشلي بشعرنة الحكاية.. لحد الآن أحسني مازلت خفيفا لكي أحكي بعمق عن إشكال الكتابة وأسئلتها، يحدجني أستاذي العزيز: ماريو فارغاس يوسا وهو يتوسد رسائله الاثنتي عشرة التي كان قد أرسلها إلي، وينعتني بالخائن.. بينما أمبيرتو إيكو يطلب مني ألا أقدم تفسيرات لعملي، فالنص بمثابة آلة تخيلية لإثارة عمليات التفسير. وعندما يكون هناك تساؤل بخصوص نص ما، فمن غير المناسب التوجه به إلى المؤلف، ولمن سيوجه السؤال يا صاحبي؟ يجيب إميل سيوران: العقول السطحية تقترب دائما من الفكرة بلطف، ويغرق في مياهه التي تشبه الغرق. حسنا ولأنني فشلت فشلا ذريعا وأنا أحاول أن أتملص من «كيف»، سأدعي أنني قارئ ولست كاتبا، فما أكتبه كل نهار هو مجرد تمارين تساعدنا على البقاء أحياء، أكثر ما أكتبه هلوسات أو تداعيات تساعدنا على الوفاء للحرف حتى لا ينقرض، قلما تتحول هذه المسودات إلى نصوص حقيقية، وحتى إذا تحولت إلى نصوص سرعان ما أفقد ثقتي فيها، لتظل شاهدة على مرحلة ما، لهذا أقضي أغلب أوقاتي في القراءة، ومرافقة كتابي، أجادلهم، وأناقشهم، وأسخر منهم لأوسع رؤيتي لذاتي وللعالم. أطلت الجلوس في هذا المكان، صرير الريح يزداد عتوا، وظلال محمد زفزاف بدأت تخيم على الصالون، أشعل شمعة الطاهر وطار في دهليزي المظلم ككرة ثلج صرت، أتدحرج، أتدحرج، أتدحرج باتجاه سريري لأقاسمه أسراري المعلنة. وأنا أسير في الممر المظلم، يلاحقني خيال لا أتبينه جيدا، ألج غرفة النوم بخفة وأحكم الإغلاق، أجد فيرناندو بيسوا جالسا في حافة السرير، يقدم لي مخطوطة عنوانها: الكاتب والقارئ، أتفحص الصفحة الأولى، أجد سؤالا ماثلا أمامي: لمن تكتب؟ أقلب صفحات الكتاب، جلها فارغ، وبعضها مكتوب بخط غير مقروء، أجهد ذهني كي ألتقط بعض الإشارات.. وحده الفشل يعزف موسيقاه. لمن أكتب؟ أكتب لجميع الضمائر المتصلة، والمنفصلة، والمستترة، الضمائر الحية والميتة.. أكتب لك أنت خصيصا، أيها الحالم بعالم خيالي، الذي يعلم منذ البدء أنني كذاب كبير.. لكنه يقدر الكذب، أكتب لك أيتها المجهولة المعروفة العالمة بخبايا الألغام، أكتب إلى عجوز تحقق لذتها في القراءة، أكتب إليك أنت الذي تقرأ لترتاح، وأكتب إليك أيها المتلصص على خطاياي، أكتب لكم جميعا.. لأقيم في نزوة الكتابة. كاتب من المغرب عماد الورداني القدس العربي