'ستقابله آلاف المرات غدا بعد ألف عام ربما قابلته ألف مرة يتسربل بالأوهام جناحاه خيمتا ظلام فمه بركان يلفظ حمم الريّبة لهيب الخيمة قدماه رحى يداه الباطشتان عيون أصابعه عيون تعبث بفرائصك تتناسل في ذهنك غيلان الخوف رأيته خذلته القداح تلفظه الملاذات تطارده الأشباح تتقاذفه المتاهات باعه الخصيان والأنصار براثن متربصة في كل مكان يستصرخ شعبا شرده بعسفه لا يلقى غير خوار رأيته يتكور في جحر دون قرار هوان في عينيه يسلمه فرار لفرار رأيته رأيته رأيته مات خوفا'. هذه الأبيات من قصيدة 'مدن الخوف' المنشورة في ديوان كامل سنة 2009 عن دار نشر 'الفضيل' في ليبيا، وهي للمحامي عبد السلام المسماري، وهو شاعر أيضا، ويكتب في الصحافة الليبية، وكان المسماري قد اشترك في عدة احتجاجات على بعض قوانين القذافي قبل بداية التظاهرات في 17 شباط/فبراير، التي تحولت بعد ذلك إلى ثورة شعبية عارمة شارك فيها المسماري مع المحامي الشاب فتحي تربل وجمال بنور، وآخرين من المحامين والكتاب والصحافيين الليبيين، الذين عانوا سنين طويلة في سجون القذافي، والذين انضموا للثورة الشعبية منذ لحظاتها الأولى، حيث تكون بعد ذلك 'ائتلاف ثورة 17 فبراير'. وكان عبد السلام المسماري مسؤول إدارة الأزمات التي أنيط بها إدارة الحياة اليومية للثورة وفي مدينة بنغازي، وبهذه الأبيات من قصيدة 'مدن الخوف' سوف تظهر ما يمكن أن تكون عليه مدينة بنغازي حاليا، التي يمكن اعتبارها المركز الأساسي لثورة 17 فبراير في ليبيا، والتي قضت قضاء مبرما ونهائيا على مصطلح 'ثورة الفاتح' التي مثلت - للشعب الليبي على الأقل- اثنين وأربعين عاما من الطغيان والفساد ونهب ثروات الشعب الليبي، وسنوات من القهر وكبت الحريات والتصفية الجسدية للخصوم من جميع الأطياف السياسية (مع تجاوزنا عن جماليات الشعر في القصيدة واهتمامنا بالصورة السياسية/الاجتماعية التي يعكسها مجمل القصيدة، فليس هذا مجال التقييم الفني بقدر ما هو استقبال لصورة سياسية يعكسها الجو العام للقصيدة، التي لا تخلو من جمال قد يشيعه الموقف السياسي أكثر مما يشيعه الموقف الجمالي للشاعر/ المناضل). فإذا كان المسماري يدير الأزمات اليومية في بنغازي، فإن الدكتور محمد سالم المنفي يدير المركز الإعلامي لثورة 17 فبراير، وقد عاصرت بناء هذا المركز منذ اليوم التالي لبدايته. ولإنشائه حكايات عجيبة سوف نكون حريصين على حكايتها بكل تفاصيلها، أما ما يمكننا قوله هنا الآن فهو أن هذا المركز الإعلامي قام على أكتاف شباب ثورة 17 فبراير الذين اختاروا الدكتور المنفي عميد كلية الإعلام في جامعة 'قار يونس'، وقد عرف عنه معارضته وكراهيته الشديدة للقذافي، وقد استطاع هؤلاء الشباب إصدار جريدة يومية (ليبيا 17 فبراير) كان من أبرز ما فيها الرسوم الكاريكاتورية التي كان يرسمها قيس الهلالي، وكانت رسومه الساخرة عن القذافي سببا في اغتياله على يد أفراد اللجان الثورية التابعة للقذافي، فاستشهد قيس الهلالي، في الثلاثين من عمره برصاصة اخترقت رقبته وهرب القتلة. وقيس الهلالي على ما أذكر هو ثاني رسام كاريكاتير بعد الشهيد ناجي العلي يقتل من أجل رسومه المعادية للحكام الطغاة، وتقتله يد الخونة من أبناء وطنه وجلدته الذين باعوا أنفسهم وأرواحهم للحكام الفاسدين، وقام الشباب بتأسيس وكالة أنباء ليبيا (و.أ.ل)، وقناة فضائية (ليبيا الحرة) وقد أسسها محمد نبوس، الذي لم يكن قد تجاوز سنته الثامنة والعشرين، وقد قام أعضاء اللجان الثورية التابعة للقذافي أيضا بتصفيته جسديا، فقنصه أحدهم بطلقتين في رأسه، لكن مازالت جريدة 'ليبيا 17 فبراير' تصدر، ومازالت فضائية 'ليبيا الحرة' تبث برامجها ليس بعد استشهاد مؤسسها فقط ولكن بعد أن ألغى المرتشون في قمر النايلسات ترددها، فانتقلت للقمر عربسات وتحاول الآن العودة للنايلسات، بنغازي الآن تولد من رحم القتل والدمار، تخرج من سجن الطاغية إلى أفق الحرية، بنغازي التي تأسست قبل سنة 525 ق.م كمستعمرة إغريقية باسم 'يوسبيريديس'، كما لو كانت تولد من جديد، ففي يوم الخميس (17 آذار/مارس) كان هناك ما يقارب السبعمئة ألف مواطن ليبي مهددين بالإبادة علنا، في واحد من أكثر خطابات القذافي الأخيرة سخونة، وفي اليوم التالي (الجمعة 18 مارس) امتلأ ميدان الشهداء (المحكمة سابقا) بعشرات الآلاف لتأدية صلاة الجمعة، فيما كانت جحافل كتائب القذافي في طريقها باتجاه بنغازي لتحاصرها بالدبابات ومدفعية الميدان الثقيلة وصواريخ (غراد)، فيما كان سيف الإسلام نجل القذافي يؤكد لمحطة (A.B.C) التلفزيونية، أن 'الأسرة الحاكمة لا تشعر بالخوف، وأحذر من أن الضربات الجوية على بلادنا ستقتل مدنيين'. وقال ان أسرته في بلدها ووسط ناسها، ولذلك هي لا تشعر بالخوف، محذرا من أن قصف ليبيا لن يساعد شعبها، بل سيقتله ويدمر البلد، و'لا أحد سيكون سعيدا بذلك'، وقال سيف الإسلام انهم غيروا التكتيك لمهاجمة بنغازي، حيث سيتمركز الجيش حول المدينة ولن يدخلها، وسيرسل الشرطة وقوات خاصة لمكافحة الإرهاب إلى داخل المدينة بهدف نزع أسلحة 'المتمردين'، وأنهم يتوقعون نزوحا لسكان بنغازي بسبب خوفهم مما سيحصل، وسيعمل الجيش على مساعدة الناس على الخروج منها، مع أن معمر القذافي نفسه كان قد توعد بمهاجمة بنغازي قبل صدور قرار مجلس الأمن رقم 1973 الذي يقضي بفرض الحظر الجوي، وأن قواته لن تظهر أي رحمة مع المتمردين، كانت خطة القذافي التي وضعها لاجتياح بنغازي، تقضي كما جاء بعد ذلك في اعترافات أعضاء اللجان الثورية في بنغازي (قوات مكافحة الإرهاب كما قال سيف الإسلام الذين تم أسرهم وهم مختبئون في مبنى جامعة قار يونس) بأن تحاصر قوات كتائب القذافي المدينة من الخارج وتهاجمها بالدبابات ومدفعية الميدان مدة معينة من الزمن، بعدها تنطلق مجموعات اللجان الثورية والأمن الداخلي التابعة لنظام القذافي من داخل بنغازي وتهاجم الثوار (17فبراير) من خلف ظهورهم، وبذلك يفتحون الطريق لقوات الكتائب لتدخل فوق جثث أهل بنغازي وبيوتهم المهدمة. في ذلك اليوم كان أغلب المصريين الموجودين في المدينة، الذين لم يرحلوا باتجاه الحدود الليبية المصرية، متحصنين داخل الأحواش (البيوت) التي يعيشون فيها أو في أماكن أعمالهم، وكنت موجودا مع الشاعر محمد المزوغي مدير تحرير جريدة 'ليبيا 17 فبراير'، كنت أحاول إقناعه بالسفر إلى مدينة اجدابيا معه ومع الصديق عبد اللطيف الترهوني، في صحبة الكاتب الألماني الشهير تود هوفر الذي كتب كتابه 'لماذا تقتل يا زيد؟' عن الحرب في العراق، لكن عبد اللطيف الترهوني أصر على أن يصحب هوفر وحده، فهو الذي أتى معه من ميدان التحرير في القاهرة إلى بنغازي وسوف يصحبه وحده في سيارته، وسافرا إلى اجدابيا وعاد الكاتب الألماني وحده بعد أن انفجرت السيارة بعبد اللطيف الترهوني فرثاه صديقه المزوغي: 'ما عاد يجدي القول/ يخجل كل حرف أن يقول/ شتان بين الحبر إذ يروي/ وبين دم يسيل/ قد كنت أعزل كالصباح/ وكنت كالظل الظليل/ الحب في عينيك شمس/ ليس يدركها الأفول/ يا صاحبي لست القتيل/ أنا بفقدي لك القتيل/ ما مت أنت الحي/ في كل الضمائر والعقول/ يأبى الشهيد سوى الخلود/ وكل طاغية يزول'. إذا كانت هذه بعض من 'زنقة' بنغازي فماذا عن 'زنقة' القذافي في باب العزيزية؟ زنقة القذافي لافتة تحمل عنوان 'حماية المدنيين'، وتحت هذه اللافتة يتم الآن ضرب 'زنقة' القذافي بطائرات وصواريخ التحالف الغربي، وفي ذروة 'زنقة' بنغازي وحصارها التام بقوات القذافي تمهيدا لاجتياحها قال رئيس المجلس الوطني الانتقالي مصطفى عبد الجليل، ان المجلس يرحب بأي عمل يهدف لحماية المدنيين، لكنه أكد أن حظر الطيران لا يكفي، وطالب بضرورة توجيه ضربات استباقية لكتائب القذافي، وبدأ الرعب يجتاح المراسلين الأجانب فغادر الجميع فنادق 'تيبستي' و'أوزو' و'الحديقة' إلى طبرق والبيضا، لدرجة أن رولا مراسلة قناة العربية كانت تصر على مغادرة الفندق في المساء مع أن 'اللجان الثورية' أو 'جواسيس القذافي' - كما يطلق عليهم الليبيون أنفسهم - لا ينشطون إلا مساء، حيث يطلقون النار من سياراتهم على الناس في الشوارع من دون تمييز، وبدأت 'زنقة' القذافي بقصف لقواته وامتد القصف لوكره الأخير في باب العزيزية، وبدأت التحليلات السياسية تجتاح الفضائيات بالمحللين: منهم المؤيدون وهم الغالبية الذين يؤيدون تنفيذ التحالف لقرار مجلس الأمن رقم 1973 الذي يقضي بفرض منطقة حظر جوي فوق ليبيا، ومنهم الرافضون وهم أصحاب وجهة نظر تعارض التدخل الأجنبي، وهي وجهة نظر لا تدين أصحابها ولا تتهمهم بمعاداة الشعب الليبي بقدر ما تدعو للتحاور معهم، فتدخل التحالف في العراق معروفة نتائجه للجميع من الدمار الشامل الذي لحق ببلد عربي يكن له كل العرب محبة كبيرة، كما أن التحالف لم يقدم للشعب الفلسطيني هذه الحماية في مواجهة إسرائيل التي تقتل وتبيد الشعب الفلسطيني كل يوم وكل ساعة، ولم نسمع عن رقة قلب التحالف ورغبته في حماية المدنيين الفلسطينيين، بل إنهم قاموا بحماية المعتدين القتلة ووجهوا اتهاماتهم للضحية، كل هذا صحيح ويجعل البعض يتساءل: 'هل تحول التحالف فجأة فوق ليبيا من شيطان إلى ملاك؟' ويجيبك البعض في بنغازي أن المسألة ليست شياطين أو ملائكة، بل هي المصالح، وبالتحديد المصالح النفطية، وسوف يوافقك الجميع في بنغازي، وفي مقدمتهم أعضاء المجلس الوطني الانتقالي، وسوف يقولون لك، نعم، التحالف يساعدنا من أجل تحقيق مصالحه وتحديدا في النفط، وسوف يقولون لك انهم يعرفون هذه الحقيقة ويعرفون أيضا الحقيقة التي تقول لولا التحالف لتم هدم بنغازي عن بكرة أبيها ولتم ذبح الجميع، وسوف يقولون لك ان الليبيين لن يشربوا نفطهم، بل سوف يبيعونه بالأسعار العالمية لمن ساعدهم وأغاثهم من الذبح وهتك العرض على يد كتائب القذافي، اليوم مصالح التحالف في الحصول على النفط تتلاقى مع مصالح ثوار 17 فبراير في ليبيا، وهذه 'زنقة' القذافي الحقيقية، فقد أدرك التحالف أن مصالحه في نفط ليبيا سوف تكون مع الشعب الليبي، بعد التخلص من القذافي وإن لم تدرك روسيا هذه الحقيقة فسوف لن تحصل لنفسها على برميل نفط واحد، وعلى روسيا أن تدرك أن مصالحها النفطية لم تعد مع القذافي، فالقذافي الآن في الأيام الأخيرة من 'زنقته'. ' روائي مصري القدس العربي