بأفق دلالي يستند إلى إيقاع تكويني ضمن مفارقة مقصودة، يشتغل الفنان العراقي المغترب جاسم محمد في تجربته الحروفية، فهو يحاول أخذ الحرف العربي بكل بهائه وتكامله إلى فضاء صوري ليكون جزءا متكاملا مع اللون وملمس السطح، نحو حداثة اللوحة المسندية المعاصرة، التي تنتمي إلى خصوصية الفن العربي الإسلامي المستفيد من روح الموروث الكتابي والفلسفي للحرف وصياغته. ليؤكد على فاعلية الحركة الكامنة لروح الحرف وقدرته الانسيابية والجمالية، في مسعى لاستغلال الإيقاعات المتشابهة لترتيب التكوين الفني ولخلق صدى أنغام مرئية، تتخللها فراغات لونية صامتة تتحدث عن روح حكائية مشبعة بالشاعرية. الفنان يحافظ على الشكل الواقعي للحرف المقروء ولا يتجاوز واقعيته البنائية وهندسته الشكلية توكيدا لروحانية الحرف كثيمة لها قدسية في ذاكرة المتلقي، وتقربا من تجسيدها لروح الجملة الشعرية، أو الحكائية المقدسة التي تطرحها . فهو بخبرته المتراكمة يدرك القيمة الجدلية لتكامل عناصر البناء الفني للوحة والمغزى التشويقي في لذة الاكتشاف لقراءة النص. إن الحرف في لوحة الفنان جاسم محمد يجسد مضامين إنسانية في التعبير عن معنى الجملة ورمزية القول، بعيدا عن المتعارف عليه في صراحة القول ومباشرته في اللوحة الخطية. كذلك يبتعد ببساطتها عن التجريد المغرق في إذابة روح الحرف وتحويله إلى مرموز مدغم استلهامي، لمعان تبتعد عن معنى ما يشتغل عليه من مقاصد الجملة القولية، ومما يحسب له قدرته على احترام قدسية وبناء الحرف والمحافظة الجادة على رسم الشكل المثالي للحرف، وفق مدارس الخط العربي المعروفة والاستفادة منه في مختبره البصري كقيمة تجريبية مبتعدة عن الانفصام بين ذاكرة الكتابة وذاكرة الصورة، تلك المعادلة التي شغلت نقاد الحروفية في تخليص الحرف من ذاكرة الطراز التقليدي لمدارس الخطوط وتفريغه من بعده الروحي لصالح الحداثة التشكيلية في محاولة لإبعاد الفنان الحروفي عن كونه خطاطا يمتهن الكتابة فقط. فصياغته للوحة تأتي كأنجاز تعبيري عن روح المعنى والتحديث مضمونا وشكلا، بخلق صور ذهنية ذات إيقاعات شعرية، مستمدة من امتداد تاريخي موروث، فالحفر الغائر للتكوين الشكلي للحرف هو ذلك الامتداد الإبداعي الطبيعي لما انتجته الثقافة العراقية القديمة، منذ ابتكار الحرف الأول للكتابة محفورا على الصخور والرقم الطينية، وما تلاه من تطور في صياغة الحرف والتفنن في تجويده لاستغلاله وظيفيا في الحياة الاجتماعية مرورا بفكرة الوظيفة الدينية وقدسية الحرف. إن أغلب الدراسات المهتمة بتركيب الصورة وبلاغتها وقيمتها الجمالية والبصرية أكدت على الدلالة بشكلها اللحظي والتأملي، غير متجاوزة لوظيفة الفن في ايصال روح الفكرة ومن ثم تأثيرها على المتلقي، لذلك فإن الطرح من خلال إيجاد علاقة إدراكية تطرحها تلك العلامات الأيقونية غير الاعتباطية المنتشرة بوضوح في كل أعماله التشكيلية، فهي معللة بقصدية واضحة كي تأخذ معناها ليس من الاتفاق التماثلي، بل بإعادة إنتاج المدرك، من خلال مرجعية النسق السيميائي وصياغته بشكل مغاير لا يخرج عن الواقع البصري المتجذر في الذاكرة الجمعية، فالأيقونة الموجودة في أعماله مستوحاة من رمز خطابي ملتصق بالذاكرة كصورة ذهنية، فهو اذن يحاول أن يجمع أشياء مدركة حسيا ولها معادل موضوعي متاثر ومؤثر مرتبط بالواقع، ليستدرج ذهنية المتلقي – وإن اختلفت ثقافته عبر تلك العلاقة الاستذكارية للنص الكتابي وبطريقة شبه تلقائية، من خلال الربط الإدراكي اللاإرادي، بغية استثارة المخزون الذهني للمتلقي وخلق حالة من الإدهاش، وهو أول النجاح الإبداعي للوصول إلى المتلقي. محققا بتجربته الحروفية حساً جمالياً يجمع بين مجموعة من التوافقات بين الشكل والمضمون، كذلك بين التوظيف اللوني بجمالياته ودفئه، وكذا بين تناسبية الحروف المستخدمة من ناحية اتساعها واحتوائها على جملة العناصر الإيحائية والإيهامية المستخدمة. ناقد تشكيلي عراقي المملكة المتحدة محسن الذهبي القدس العربي