يتزايد الاهتمام بالصحة من الأفراد والجماعات، كما تولي المنظمات العالمية كمنظمات الأممالمتحدة وغيرها من المنظومات العاملة في حقوق الإنسان أهمية قصوى لتطوير البرامج الصحية في البلاد النامية، ورغم أن مفهوم الرعاية الكاملة في مجال الصحة أمر نسبي ووصول درجة التميز عسير لأن الإنسان بطبعه لا يقبل درجة أقل من دون المعافاة الكاملة، وهو على الأقل في زماننا هذا أمر صعب المنال، ويكتفي سياسيو الصحة بما تسمى التغطية الشاملة وتعرّف بإمكانية حصول كل المواطنين على خدمات صحية كاملة. وكاملة هنا تعني وقاية من الأمراض ومنعاً لحدوثها وتوفر منافذ الخدمة والعلاج وإعادة التأهيل عند العجز الكلي أو الجزئي. ومن اهتمامات هذه المنظمات حسابات تكلفة العلاج التي تقع على كاهل المريض أو ذويه. وهي من المؤشرات المهمة التي تقاس بها جودة الخدمة والعدالة في توزيعها، خاصة إذا علمنا أن المرض والصرف عليه من أهم أسباب دخول المواطن دائرة الفقر. وتسعى كل الدول لإيجاد مؤسسات طبية علاجية فاعلة، ولا تكتفي بهذا، بل تهتم بأن تكون تكلفة الخدمة في متناول المقدرة المالية للمرضى. ومن هنا كان الاهتمام باقتصاديات الصحة وكيفية تمويلها. كيف تمول الخدمات الصحية في السودان؟ في عهود ماضية كانت تكلفة العلاج بكاملها تدفعها الدولة في مستشفيات الدولة المحدودة، ولم يكن هنالك وجود للقطاع الخاص غير عيادات الاختصاصيين الذين يعتمدون على مشافي الدولة في تكملة علاج مرضاهم لعدم وجود مستشفيات خاصة. ولم تكن تكلفة العلاج هاجساً للدولة لمحدودية العلاج والعقاقير. ثم جاء عهد تطلع فيه المواطن لعلاج أفضل، وتوسعت مقدرة الأطباء وارتفع سعر الدواء والتدخلات الطبية، مما حدا إلى إيجاد نظم لتلافي الارتفاع في ميزانية الصحة، فادخل النظام الاقتصادي ونظام الدواء الدوار الذي يكفل وجود الدواء بأسعار معقولة، وحتى هذا النظام رغم أن معالجات اجتماعية تمت للذين لا يستطيعون دفع فاتورة الدواء، الا أن تكلفة العلاج دفعت الكثيرين إلى دوائر الفقر. وفي منتصف التسعينيات من القرن الماضي أدخل نظام التأمين الصحي. وفي ظل حرص الدولة على معالجة أمر الصحة والتخفيف على المرضى من ثقل دفع فاتورة العلاج ابتدرت الدولة وعلى مستوياتها المختلفة، بما فيها رئاسة الجمهورية مبادرات للعلاج المجاني، فكان علاج الطوارئ بجميع المستشفيات «قرار رئاسة الجمهورية»، قرار علاج غسيل الكلى «قرار نائب رئيس الجمهورية»، ثم قرارات الولاة والتي شملت العلاج المجاني للولادات الطبيعية والقيصرية وعلاج الأطفال ما دون الخامسة، وفي ولاية الخرطوم أيضاً العلاج المجاني للعمليات الباردة، كالفتاق والبواسير والأورام. وعلى الرغم من أنها في مجملها تتم مجاناً إلا أن نقص الميزانيات دفع بعض المستشفيات في السودان لإدخال طريقة الدفع غير المباشر كوضع رسوم على فايل المرضى أو مطالبة المريض بشراء بعض مستلزمات العلاج، مما يدعو إلى مراجعة الأمر وفاعليته والخروج بتصور حتى لا يؤثر هذا في جودة العلاج المقدم، وفي الوقت الذي تمدد فيه العلاج المجاني تمددت فيه خدمة التأمين الصحي القومي والولائي، وهو نوع آخر من صيغ تمويل الصحة، بل مغاير وموازٍ لما تقدمه الدولة من علاجٍ مجاني. والتأمين الصحي نوع تكافلي يدفع المواطن وليس المريض، مساهمة عند الاشتراك في المنظومة تكفل له العلاج حين المرض، وقد سجل السودان تقدماً مشرفاً في تغطية التأمين الصحي، حيث بلغ المشتركون في ولاية الخرطوم 65% من المواطنين و40% في السودان ككل، والدخول تحت مظلة التأمين تكلف الأسرة بكاملها أربعين جنيهاً شهرياً، حتى ولو كانت الأسرة تضم عشرة أشخاص، ويغطي تكلفة علاج المرضى في أكثر من 80% من حاجاتهم الكاملة و 100% من العلاج على مستوى الرعاية الصحية الأولية إلا ما يدفع عن شراء الدواء «نسبة 25% من سعر الدواء». وفي ولاية الخرطوم قامت وزارة المالية والزكاة بدفع اشتراك التأمين الصحي لما يفوق «300.000» أسرة. فالدولة تمول علاج المرضى بطرق مختلفة، بل متضاربة، مما يهدر كثيراً من الموارد. فإذا كان المريض يتلقى علاجه مجاناً، فلماذا يساهم في التأمين الصحي، وكيف يتسنى للدولة مع ضيق مواردها دفع ما تدفعه عبر التأمين الصحي ومباشرة للمستشفيات لتغطية الخدمات التي ذكرناها. ففي مستشفى جعفر بن عوف، حيث العلاج حتى على مستوى الخدمة المرجعية مجاناً نجد أن ذكرى التأمين الصحي لا موقع له في زوايا المستشفى، رغم أن بعض من يطلبون العلاج هنالك من المؤمن عليهم ولا يتذكر حتى إبراز بطاقته. قامت وزارة المالية الاتحادية عبر وزارة الصحة الاتحادية بمبادرة شراء أدوية الأطفال ما دون الخامسة، بما يساوي «108» ملايين جنيه «14 مليون دولار» لتوزيعها على أطفال السودان، وفي الوقت نفسه فإن الولايات على الأقل ولاية الخرطوم تقدم العلاج المجاني أيضاً المدعوم من وزارة المالية الاتحادية والولائية مجاناً، مما يحدث تضارباً، بل هدراً للموارد، وقد طرحت هذه المسألة في الاجتماع التنسيقي لوزراء الصحة بالولايات، ونأمل أن تحدث مراجعة لهذا الشراء، وسمعنا أن مدير الإمدادات الطبية قد شكا لطوب الأرض من هذا لأن الولايات بما فيها الخرطوم تكاسلت في أخذ حصتها من هذا الدواء المجاني، إما نسبة لعدم الحاجة إليه أو لتكلفة توزيعه. ومجمل القول إننا نحتاج إلى خبراء صحة اقتصاديين ينظرون بمنظار الفحص في كيفية توحيد قنوات الصرف، بل وتوحيد تمويل الخدمات الصحية في السودان. وفي ولاية الخرطوم حدثت مؤشرات إيجابية دعتنا لاتخاذ خطوه مهمة في سبيل التوحيد، وأول هذه المؤشرات أن ولاية الخرطوم وواليها والوزراء المعنيين دفعوا بالتأمين الصحي دفعاً ودعماً، وقدموا في التأمين الصحي قيادة شابة مقتدرة، ووصل المؤمن عليهم إلى فوق ال «65%» من مواطني الولاية، بل ابتدرت بمبادرة الأيادي البيضاء، حيث دعم الخيرون عدداً كبيراً من الأسر الفقيرة وذوي الاحتياجات الخاصة. والمؤمل أن يصل عدد المؤمن عليهم قبل نهاية العام الحالي إلى 100% من المواطنين. والمؤشر الثاني أن قانون التأمين الصحي في الولاية قد أُجيز ودخل حيز التنفيذ، ويقضي هذا القانون بأن التأمين الصحي إجباري على كل مواطن، وعلى المؤسسات الحرص على التأكد من أن العاملين فيها قد تم تأمينهم، وإلا فهي مجبرة على دفع مساهمتهم، ولم يقصر القانون التأمين الصحي على شركة تأمين عامة أو خاصة. ووزارة الصحة بالخرطوم، بعد دراسة متأنية، فطنت إلى أن بطاقة التأمين الصحي بنهاية العام الحالي هي الوثيقة الوحيدة المبرئة للذمة عند طلب العلاج في مؤسسات الولاية المختلفة، وحينها ستتحول مبالغ العلاج المجاني لدعم المؤسسات الصحية، ولرفع عدد ونوع الخدمات المقدمة عبر نافذة التأمين، بما فيها عمليات القلب المفتوح والقسطرة وعمليات المخ والأعصاب المكلفة، وقد ناقش المجلس التنسيقي للوزراء الولائيين الأمر، وهنالك شبه إجماع لتبني هذه السياسة على مستوى السودان، رغم المفارقات في نسبة التغطية التأمينية ونوع الخدمات المتاحة في الولايات المختلفة، وعليه أخذ التدرج بالنسبة للولايات الأخرى، ولعل الإرادة السياسية إذا ما دفعت بهذا الأمر، فإن الخير سيعود على المواطن خدمة متميزة، ومنافذ للخدمة متوفرة على مستوياتها المختلفة في جميع بقاع السودان. ولأن حال المريض لا يحتمل تأخيراً للبحث عن مال أو عن بطاقة، فإن الحوادث الطارئة ستظل مجانية تماشياً مع سياسة رئيس الجمهورية.. وهذه دعوة للحوار في مجال مهم يدفع الخدمات الصحية للأمام وللتجويد. ٭ وزير الصحة في ولاية الخرطوم