بسم الله الرحمن الرحيم يبدو ان سياسة التمكين هي التي مكنت لكل المشاكل التي يشكو منها الوطن والمواطن اليوم. فما من مشكلة يتم البحث عن أسبابها إلا وترجع إلى تلك السياسة التي خدمت أهدافها وحققت غاياتها على أكمل وجه, بينما هدمت أهداف الوطن وباعدت بينه وبين تحقيق غاياته في النمو والتطور حتى أصبح متزيلا لكل دول العالم في كل ما هو مطلوب من محاسن الحكم, ومتقدما عليها في كل ما هو مرفوض من مساوئه. وكان لمشكلة الفساد التي تعتبر أم المشاكل وأسوأها, النصيب الأكبر من سياسة التمكين بشقيها, السياسي الذى مكن للانفراد بالسلطة, والاقتصادي الذى مكن للانفراد بالثروة, وحيث يمهد الشق الأول وييسر للوصول إلى الثاني. والفساد الذى يقف اليوم معلنا عن نفسه ومتحديا للسلطة, ما كان له ان يصبح بمثل هذه الجرأة على التحدي, إلا لما وجد من دعم ورعاية, عناية وحماية من ذات الدولة التي تعلن الحرب عليه اليوم,حيث وفرت له تلك الرعاية والحماية كل مطلوبات النمو والترعرع الذى مكن لجذوره ان تتعمق في مختلف مناحي الحياة اقتصاديا وسياسيا واجتماعيا, ومن ثم ثبتت أقدامه في كل المواقع التي احتلها حتى استعصى على الاقتلاع منها. فقد بدأت بوادر الفساد, مع بدايات عهد الإنقاذ, خاصة بعد إصدار قرار الخصخصة وكان لقرار الخصخصة الدور الأعظم في فتح أبواب الفساد, والفساد مثله مثل أمراض السرطان, ما لم يتم اكتشافه مبكرا فان علاجه سيصبح مستحيلا. وقد وجد الفساد حظه في الاكتشاف المبكر الذى اضطلع به البعض من الصحفيين الذين وفقوا في الكشف عن مخابئه وبالأدلة والبراهين, بأمل الإسراع من جانب السلطة في عملية علاجه, فكانت استجابتها ان سارعت بمعاقبة كل من خولت له نفسه الكشف عن أي فساد حتى ان كان مثبتا بوثائقه. ومن بعد عرفت الصحافة عمليات الرقابة القبلية والبعدية وكلما يضمن عدم التطرق لقضايا الفساد. وجميعها إشارات رضاء عن الفساد وطرق حماية وطمأنة لمرتكبي جرائمه, بل ودفعهم للمضي في ارتكاب المزيد منها. ولعل كل ذلك الجهد الذى بذلته السلطة في اتجاه حماية الفساد مرجعه, إنجاح عملية التمكين الاقتصادي لأهل الولاء بعد ان تم تمكينهم سياسيا. واستمرت حماية الحكومة للفساد والمفسدين بإصرارها على إنكار وجوده حتى بعد ان أصبح مثل ضوء الشمس في وسط النهار. ولعل آخر صيحة في حماية الفساد والمفسدين بدعة (التحلل) التي تسمح للمختلس بان يرد رؤوس الأموال أو غيرها مما اختلس, ومن بعد يحق له ان ينتفع ويستمتع بما حصد من استثمارها من أرباح طيلة الفترة التي سبقت اكتشافه, كما وسيمنحه ذلك التحلل كل البراءة المطلوبة التي قد تمكنه من معاودة السطو على أموال الدولة أو الآخرين متى وجد إلى ذلك سبيلا. ورغم الاعتراضات التي ظهرت على ذلك التحلل والمطالبات بإزالة مادته من القانون, فان رئيس لجنة التشريع السابق بالمجلس الوطني أوضح (بان البرلمان لم يجد داع لإزالة مادة التحلل في الفترة السابقة كونها مادة وضعت في القانون لتعمل في حالة القضايا التي لم توجد بها بينان كافية للإدانة).يعنى اختلاسات مكتب الوالي السابق لم توجد بها بينان كافية للإدانة. فالملاحظ أولا, ان مادة التحلل هذه قد أدخلت في القانون لخدمة غرض ما وقطعا لن يكون لاستخدامها في حالة القضايا التي لا توجد بها بينان كافية للإدانة, لأنه في مثل هذه الحالات, ما الذى يجعل من لم تثبت إدانته بالاختلاس ان يعمل على التحلل من ما لم يختلس؟. ففي إقحام تلك المادة بالقانون, واستخدامها في قضية اختلاسات مكتب الوالي, الدليل الأكبر على ان الحكومة لا زالت حريصة على ستر عورات المختلسين ومن ثم تشجيعهم وغيرهم ليختلسوا ليستثمروا بدلا من ان يقترضوا.لفعل ذلك. ولعل في كل ما سبق ذكره من مشوهات لصورة النظام الحاكم, ما يوضح للسيد وزير الإعلام الذى الصق تهمة تشويه صورة النظام بالخارج أو الداخل, الصقها بالإعلام الالكتروني ومواقع التواصل الاجتماعي, التي العمل على بث الشائعات المغرضة والخادشة للحياء, ومن بعد توعدهم سيادته بإصدار قانون خاص سيخرس أصواتهم للأبد. في حين ان الشائعات أيا كان نوعها, لا تنمو وتتسع دائرتها إلا في أجواء إخفاء الحقائق, ومحاولات تضليل المواطنين وخداعهم بمختلف الأكاذيب, وعليه, فان تشويه صورة النظام هي من صنع يدي النظام وحده. وحرب الحكومة على الفساد طيلة الفترة السابقة, لم تتعد الإعلانات عن عزم النظام القضاء على الفساد عبر إنشائه لأي من الكيانات وبمختلف الأسماء, آلية كانت أو مفوضية أو غيرها, لأجل اضطلاعها بمهمة تحقيق ذلك الهدف. ولكن وقبل ان تشرع اى من تلك الكيانات في خوض حربها على الفساد, ترفع الحكومة التي أنشأتها, رايتها البيضاء استسلاما للفساد وإيذانا بعدم الاعتداء عليه, ويرجع استسلام الحكومة ودائما, إلى سبب واحد هو إنكارها لوجود أي فساد يستوجب محاربته. وحتى عند إثبات وجوده بالوثائق والبراهين فان الإصرار على الإنكار تستمر ممارسته. وقد بسبب التهاون في أخذ قضية الفساد مأخذ الجد, في تنامي وتسارع وتيرته أخيرا, حتى أصبح المواطن يفاجأ في كل يوم جديد بالجديد من أشكال وأحجام الفساد, مما لا عين رأت ولا أذن سمعت. وحرب الفساد المعلنة على الحكومة, يتمثل في تحدى المفسدين لقراراتها وقوانينها التي تصدر في شأنه وعلى رؤؤس الإشهاد. فقد هللنا لقرار السيد وزير المالية الذى جعل تحصيل كل أموال الدولة الكترونيا, بعشم ان يقضى على التحصيل الورقي الذى يسمح للفساد أن يبيض ويفرخ في إطاره, وفى مقدمة ذلك, تجنيب الأموال التي تمارسه غالبية مؤسسات الدولة, وهى الأموال التي يتم جمعها وإخفائها حتى لا تطالها يد المراجع العام, أو ترصدها وزارة المالية القيمة على أموال الدولة, هذا إضافة إلى ألاف الرسوم التي ظلت تجبى من المواطنين دون وجه حق, إذ سيقضى التحصيل الالكتروني على كل ذلك, فإذا بالفرحة لم تكتمل عندما أعلن بسيادة الوزير بان أصحاب المنفعة من التحصيل بالطرق القديمة, يقفون حجر عثرة في طريق تطبيقه للنظام الالكتروني. والغريب ان البعض من مؤسسات الدولة, لا زالت ترجع عدم الإيفاء ببعض التزاماتها المادية, لتوقف إيراداتها بسبب التحصيل الالكتروني. وبمعنى آخر فان الحرب عليه ومحاولة تعطيله لا زالت دائرة. لقد أعلنت الحكومة أكثر من مرة بأنها بصدد التخلص من كل ما تملك من شركات وغيرها ليتم بيعها للقطاع الخاص. وظللنا نتابع تلك الإعلانات التي ظلت تحدد في كل مرة مجموعة مؤسسات وكأنما هي جملة ما تملك الحكومة, فنفاجأ بغيرها. المهم انه قد اتضح ان بعض الوزارات قد حذت حذو حكومتها في امتلاكها لمؤسساتها الاستثمارية الخاصة بها, والتي تعمل على تجنيب عائداتها بعيدا عن أعين المراجعة ووزارة المالية. فقد جاء بالصحف ان وزارة المعادن وفى ظل وزيرها السابق السيد كمال عبد اللطيف, لم يكفها الاستثمار في الذهب, فكان لها تسع شركات تدر عليها من الأموال التي مهدت لقضية الفساد التي أعلن عنها أخيرا. بمعنى ان إعلان الحكومة التخلص من كل شركاتها وغيرها من الاستثمارات لصالح القطاع الخاص لم يحرك لوزارة المعادن ساكنا بل أبقت على شركاتها في الحفظ والصون حتى كشفتها القضية المثارة. ولا زلنا في انتظار ما تخرج به تلك القضية من نتائج, وما يمكن ان تقدم من دروس يستفاد منها في علاج تحدى قرارات السلطة. وبالطبع لا زلنا نجهل ان كانت الحكومة قد تخلصت من كل مؤسساتها الاستثمارية أم هنالك بقية, كما ولا ندرى ما تملك اى من الوزارات الأخرى من مؤسسات, وبصرف النظر عن وزارتى الداخلية والدفاع وجهاز الأمن وما يمتلكون من مؤسسات علاجية وتعليمية يستحيل التخلص منها لصالح القطاع الخاص. وزير العدل السابق أعلن بأنه تمكن من جعل كل الدستوريين وغيرهم من كبار المسئولين يعلنون عن ممتلكاتهم عند مدخل خدمتهم, في إطار تطبيق قانون إبراء الذمة. الأمر الذى يستوجب ان يكرر ذات المسئول عملية الكشف عن ممتلكاته عند مغادرته للخدمة. ولكن الواقع يكشف عن انه لا المسئولين تكرموا بإكمال إبراء ذمتهم بتوضيح ممتلكاتهم بعد انتهاء فترة خدمتهم, حتى يتثنى التعرف على ان كانت هنالك تغييرات دالة على فساد أو عدمها, كما ولم يسأل وزير العدل عن أسباب عدم فعل ذلك. وفى ذلك السلوك دلالة على عدم اهتمام المسئولين بالالتزام بما تمليه عليهم قوانين الدولة بل وفى ذلك صورة من صور التحدي لتلك القوانين, والتحدي الأكبر لها عندما يغض المسئولون عن أمر تطبيقها الطرف عن مثل تلك التحديات. خلاصة القول, فان السؤال المهم حاليا هو التاريخ الذى ستبدأ فيه المفوضية الجديدة شن حربها على الفساد, وان كان ذلك من تاريخ استلامها لتلك المهمة, أم ستنظر في كل قضايا الفساد حاضرها وماضيها, خاصة تلك القضايا التي أغلقت ملفاتها قبل ان تصل نهاياتها. وبالطبع لن تجد مادة التحلل التي حللت ما هو محرم, أكل أموال الناس بالباطل مكانا في ظل هذه الحرب. كما ونأمل في ان تفتح المفوضية الباب لكل من يمتلك وثائق دالة على فساد, كبر أو صغر, ان يمدها بها بعد ان تضمن له سلامته وعدم تعرضه لأي أذى بموجب ذلك, خاصة وكما أسلفنا القول, فان الذين تكرموا بكشف بعض مخابئ الفساد من قبل قد لاقوا من العقوبات ما تمنع غيرهم من حذو حذوهم, وبفتح مثل ذلك الباب سترى المفوضية ما يدهشها من خبايا الفساد. نعلم ان مهمة هذه المفوضية ستكون عسيرة للغاية, في حضرة تحديات مافيا الفساد لكل عمل يقف في طريق فسادهم, ولذلك فليتعاون الكل معها لإنجاح مهمتها, على الأقل لتتمكن من إغلاق واحدا من أبواب جهنم المفتوحة على الشعب السوداني من أكثر من اتجاه. [email protected]