الدعم السريع يعلن السيطرة على النهود    وزير التربية والتعليم بالشمالية يقدم التهنئة للطالبة اسراء اول الشهادة السودانية بمنطقة تنقاسي    سقطت مدينة النهود .. استباحتها مليشيات وعصابات التمرد    عقار: بعض العاملين مع الوزراء في بورتسودان اشتروا شقق في القاهرة وتركيا    عقوبة في نواكشوط… وصفعات في الداخل!    الهلال يواجه اسنيم في لقاء مؤجل    تكوين روابط محبي ومشجعي هلال كوستي بالخارج    عثمان ميرغني يكتب: هل رئيس الوزراء "كوز"؟    كم تبلغ ثروة لامين جمال؟    شاهد بالصورة والفيديو.. حسناء الشاشة نورهان نجيب تحتفل بزفافها على أنغام الفنان عثمان بشة وتدخل في وصلة رقص مؤثرة مع والدها    سلسلة تقارير .. جامعة ابن سينا .. حينما يتحول التعليم إلى سلعة للسمسرة    حين يُجيد العازف التطبيل... ينكسر اللحن    شاهد بالفيديو.. في مشهد نال إعجاب الجمهور والمتابعون.. شباب سعوديون يقفون لحظة رفع العلم السوداني بإحدى الفعاليات    أبوعركي البخيت الفَنان الذي يَحتفظ بشبابه في (حنجرته)    من رئاسة المحلية.. الناطق الرسمي باسم قوات الدعم السريع يعلن تحرير النهود (فيديو)    شاهد بالصور والفيديو.. بوصلة رقص مثيرة.. الفنانة هدى عربي تشعل حفل غنائي بالدوحة    تتسلل إلى الكبد.. "الملاريا الحبشية" ترعب السودانيين    إعلان نتيجة الشهادة السودانية الدفعة المؤجلة 2023 بنسبة نجاح عامة 69%    والد لامين يامال: لم تشاهدوا 10% من قدراته    الحسم يتأجل.. 6 أهداف ترسم قمة مجنونة بين برشلونة وإنتر    استئناف العمل بمحطة مياه سوبا وتحسين إمدادات المياه في الخرطوم    هيئة مياه الخرطوم تعلن عن خطوة مهمة    هل أصبح أنشيلوتي قريباً من الهلال السعودي؟    جديد الإيجارات في مصر.. خبراء يكشفون مصير المستأجرين    باكستان تعلن إسقاط مسيَّرة هنديَّة خلال ليلة خامسة من المناوشات    ترامب: بوتين تخلى عن حلمه ويريد السلام    إيقاف مدافع ريال مدريد روديغر 6 مباريات    تجدد شكاوى المواطنين من سحب مبالغ مالية من تطبيق (بنكك)    ما حكم الدعاء بعد القراءة وقبل الركوع في الصلاة؟    عركي وفرفور وطه سليمان.. فنانون سودانيون أمام محكمة السوشيال ميديا    تعاون بين الجزيرة والفاو لإصلاح القطاع الزراعي وإعادة الإعمار    قُلْ: ليتني شمعةٌ في الظلامْ؟!    الكشف عن بشريات بشأن التيار الكهربائي للولاية للشمالية    ترامب: يجب السماح للسفن الأمريكية بالمرور مجاناً عبر قناتي السويس وبنما    كهرباء السودان توضح بشأن قطوعات التيار في ولايتين    تبادل جديد لإطلاق النار بين الهند وباكستان    علي طريقة محمد رمضان طه سليمان يثير الجدل في اغنيته الجديده "سوداني كياني"    دراسة: البروتين النباتي سر الحياة الطويلة    خبير الزلازل الهولندي يعلّق على زلزال تركيا    في حضرة الجراح: إستعادة التوازن الممكن    التحقيقات تكشف تفاصيل صادمة في قضية الإعلامية سارة خليفة    الجيش يشن غارات جوية على «بارا» وسقوط عشرات الضحايا    وزير المالية يرأس وفد السودان المشارك في إجتماعات الربيع بواشنطن    حملة لمكافحة الجريمة وإزالة الظواهر السالبة في مدينة بورتسودان    ارتفاع التضخم في السودان    شندي تحتاج لعمل كبير… بطلوا ثرثرة فوق النيل!!!!!    انتشار مرض "الغدة الدرقية" في دارفور يثير المخاوف    مستشفى الكدرو بالخرطوم بحري يستعد لاستقبال المرضى قريبًا    "مثلث الموت".. عادة يومية بريئة قد تنتهي بك في المستشفى    وفاة اللاعب أرون بوبيندزا في حادثة مأساوية    5 وفيات و19 مصابا في حريق "برج النهدة" بالشارقة    عضو وفد الحكومة السودانية يكشف ل "المحقق" ما دار في الكواليس: بيان محكمة العدل الدولية لم يصدر    ضبط عربة بوكس مستوبيشي بالحاج يوسف وعدد 3 مركبات ZY مسروقة وتوقف متهمين    الدفاع المدني ولاية الجزيرة يسيطر علي حريق باحدي المخازن الملحقة بنادي الاتحاد والمباني المجاورة    حسين خوجلي يكتب: نتنياهو وترامب يفعلان هذا اتعرفون لماذا؟    من حكمته تعالي أن جعل اختلاف ألسنتهم وألوانهم آيةً من آياته الباهرة    بعد سؤال الفنان حمزة العليلي .. الإفتاء: المسافر من السعودية إلى مصر غدا لا يجب عليه الصيام    بيان مجمع الفقه الإسلامي حول القدر الواجب إخراجه في زكاة الفطر    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



حروب رأس المال وموسم آخر للهجرة من الجنوب إلى الشمال
نشر في الراكوبة يوم 21 - 09 - 2015


إستهلال
ذكرنا فى مقالات سابقة، هنا وفى مواضعَ أُخرى، بأنَّ الحرب هى المحور السرمدى الأكثر نجاعة فى التحولات والتشكلات الإجتماعية عبر تاريخ الإنسانية. وذكرنا أيضاً بأنَّ الحرب هى جزءٌ أصيل من نموذج التطور الرأسمالى (الكساد – الحرب – التسوية الإقتصادية الجبرية – ثم الكساد – ثم الحرب من جديد)، إلاَّ أنَّ الغرب بذكائه وتآمره قد صدَّر الحرب ذات الوجه القبيح خارج المركز/الشمال؛ أى صدَّرها للهامش/الجنوب؛ وأبقى الحرب فى المركز فى المجال الإقتصادى فقط.
فالحرب فى متلازمة الحرب – التنافس الإقتصادى عادة ما تُخيِّم بالمناطق الغنية بالموارد وما جاورها: كالخليج وإيران والهلال الخصيب، ومناطق الذهب والماس ومصادر الطاقة فى أفريقيا. فالغربيون فى المركز يتنافسون على تطوير بلدانهم، ونحن فى الأطراف/الهامش نتنافس على القِتلةِ المتطوِّرة.
فالحربُ ليست كما تقول العرب أوَّلُها كلام، ولكن أولَّ الحربِ حاجة كما يُخبرُنا التاريخ المادى للحروب. وبالتالى فى بعض الأحيان، قد لا تجدى التسوية الإقتصادية فى إبعاد شبح الحرب إذا كانت بعيدة عن إشباع تلك الحاجة. وهنا تتحول الحرب إلى سلعة تتحدَّد بالعرض والطلب والفرصة البديلة (Comparative advantage)؛ أى إذا كانت الحرب أربح من التسوية فلا مناص من الحرب.
وفى البحث المتواضع حول مُسبِّبَات الحروب، وجدتُ إنَّها تتمحور حول ثلاث كُلِّيَّات: الأولى، أنَّ البعض يقول بأنَّ الفوضى التى يخلقها القائمون على مقاليد الأمر بالحروب فى العالم، عادةً ما تغذى تغييراً منشوداً فى مجال الإقتصاد (Cox, in, Middleman (ed) 1997)؛ والثانية، أنَّ الحرب أداة لإعادة صياغة الشعوب بغرض إخضاعها والسيطرة عليها (Duffield 2008)؛ والثالثة، أنَّ التنافسَ على الموارد هو أساس الحروب (Kapstein and Mastanduno (eds) 1999)).
والشاهد أنَّ كل هذه الدوافع تتمأسَس على الدافع الحاسم وهو الصراع الأزلى على البَقاء الآنى والإستراتيجى، والرغبة فى الخروج من الأزمات الملازِمة لطريق التطور الرأسمالى، ونمذجة الشعوب وفق هواه.
وفى العادة تبدأ حروب رأس المال بهدف مُمَوَّه ويبدو نبيلاً، ولكن رويداً رويداً تتكشَّف زمرةُ أهدافٍ تصبُّ فى نهاية التحليل فى الدوافع الكُلية المذكورة بعاليه وفى الدافع الحاسم. وسنرى بعد قليل أنَّ تِرحاب أنجيلا ميركل باللاجئين السوريين وقولها الجارح فى حقِّ العرب والمسلمين، لم يكن كلُّه بدوافع إنسانية، ولكن للأكمَةِ ما وراءها.
دفعُ النَّاس للهجرةِ شمالاً هو أحد أهداف حروب رأس المال فى المنطقة العربية
يحدثنا التاريخ المادى لشتات الشعوب وهجراتها بأنَّ أفريقيا هى أمُّ كلِّ السلالات الموجودة فى العالم الآن شاء البعض أم أبى. وقد كان للعوامل الطبيعية التأثير الأكبر فى إحداث تلك الهجرات؛ فمنهم من سلك طريق باب المندب إلى الجزيرة العربية وبقية آسيا، ومنهم من إتجه شمالاً عبر المتوسط إلى أوروبا والأمريكتين (راجع: The Genographic Project/The Human Journey: Migration Routes ). وراجع أيضاً: (فيديو حواء الميتو كوندريا 02/04/2012).
ولكن بإزدياد فاعلية الإنسان فى التأثير على محيطه، بدأت بعض العوامل المُستحدثة تُضيفُ بُعداً جديداً للعوامل الطبيعية؛ كإكتشاف الزراعة قبل 10 ألف سنة، ولاحِقاً الثورة الصناعية ومن ثمَّ السياسة، فروقات الدخل، التحكم فى العالم، وحروب رأس المال (أهمهما الحربان العالميتان الأولى والثانية)، وغيرها من العوامل التى هى من صميم إجتراح الإنسان.
وبالنسبة للغرب الأوروبى فى العصر الحديث، فإنَّ أكبر هجرات الجنوب إليه كانت ما بين 1960 – 1973، وكان كلُّ ذلك لدوافع إقتصادية، أىْ لحاجة أُوروبا الماسة للأيدى العاملة. ولكن بنهاية ثمانينات القرن المنصرم، أى بنهاية الحرب الباردة، بدأ أوارُ بعض الحروب الداخلية المكبوتة/المؤجلة يزداد تأجُّجاً فى دول العالم الثالث. ولمَّا كانت هذه الحروب هى بالأساس حروباً بين النَّاس، زادتْ على أثرِ ذلك معدلات تصدير الهجرة لأوروبا لأسباب سياسية وأمنية بحتة (Ben Hall, Immigration in European Union: problem or solution, OECD Observer ).
أقول ما أقول؛ وأنَّ أوروبا فى الحقيقة لم توقف الهجرة للأسباب الإقتصادية، وكانت فقط تَحُدُّ منها حينما تتحوَّل إلى قضية رأى عام عند الناخبين ودافعى الضرائب كما حدث فى التسعينات من القرن الفائت رغم حوجتها الماسة للقوى العاملة التى يعلمها الإستراتيجيون. ولما كان الناخب الأوروبى شديد الحساسية تجاه الهجرة الإقتصادية، كان لابدَّ للدول الأوروبية من اللجوء إلى حيلة أخرى (لكنَّها قذرة) لدفع النَّاسِ إلى الهجرة؛ تلك حيلة إعادة صياغة الشعوب بالحروب وِفق الهوى الرأسمالى.
ولعلَّ الإستراتيجيين الأوروبيين يدركون منذ تسعينات القرن الفائت أنَّ نقصاً متزايداً سيواجه الفئات النشطة إقتصادياً بين الشعوب الأوروبية بإتجاه عام 2050، وأنَّ هناك حاجة ماسة لهذه الفئات التى بدأت فى الضمور نتيجة لتنظيم الإسرة والرعاية الصحية التى جعلت المسنِّين أطول عمراً.
وها هى كريستين لاقارد (مديرة صندوق النقد الدولى) تؤكد على ذات الحقائق بقولها: "أنَّ عدد سكان العالم سيُضاف إليه 2 بليون نسمة خلال الثلاثة عقود التالية، وسيكونون مُعمِّرين؛ 3⁄4 بليون منهم سيكونون فوق ال 65 سنة. وفى 2020 لأوَّل مرة سيكون عدد المُعَمِّرين فوق ال 65 سنة، أكثر من عدد الأطفال فى عمر 5 سنوات (Christine Lagarde, A New Multilateralism for the 21st Century, Richard Dimbleby Lecture, 03/02/2014 ).
وإذا أخذنا عيِّنة من الدول الأوروبية سنجد أنَّ قول لاقارد ينطبق عليها بالكمال والتمام. فمثلاً، أنَّ إيطاليا ستفقد 28% من سكانها النشطين إقتصادياً عام 2050، وهى بذلك تحتاج إلى 350000 مهاجر فى السنة، وبالعدم عليها أن ترفع سِنَّ المعاش إلى 75 سنة (Op cit). كما أنَّ الدول الإسكندنافية، كلاًّ على حدة، تحتاج ما يصل لنفس الرقم بالتقريب، بل بعضها كالسويد أخطر الشركات المعنية بجلب العمالة فى أغسطس المنصرم بأن تقوم بعملها من غير الرجوع للجهات الحكومية (الإقتصادية: وظائف بلا حدود لعمال شرق أوروبا، العدد 5136، 03/11/2007).
أمَّا فى ألمانيا فتشير بعض الدراسات إلى أنَّ نصف القوى العاملة الألمانية سيكونون بالمعاش فى خلال ال 15 سنة القادمة، وأنَّ ألمانيا ستفقد 36% من قوتها العاملة فى عام 2050، وبالتالى فهى تحتاج إلى 500000 مهاجر سنوياً خلال ال 36 سنة القادمة (http://www.rt.com/news/244873-german...ant-workforce/). وبالتالى يصبح تعاطف أنجيلا ميركل مع المُهاجرين السوريين ليس كلُّهُ إنسانيّاً، بل جُلُّهُ متعلق بهذه الحقائق الديموغرافية.
وبالإجمال: تقول المنظمة العالمية للهجرة بأنَّ الفئات النشطة إقتصادياً فى أوروبا ستقل بنسبة 12% عام 2030، وبالتالى فإنَّ القارة العجوز ستحتاج إلى 48 – 50 مليون مهاجر عام 2050 م لتُحافظ على قوتها العاملة كما هى عليه اليوم (IOM, Ms Laura Thomson, 15/05/2015).
ويُوزاى هذا الواقع الأوروبى ذا الفجوات الديموغرافية، واقعٌ مُغاير فى دول العالم الثالث ذات الفورات الديموغرافية خاصةً فى أفريقيا وآسيا. حيث أنَّ عدد الشباب هناك سيزداد بشكل حاد كما تقول مديرة صندوق النقد الدولى خلال العقود الثلاثة القادمة (المصدر سبق ذكره)، وعليك أنْ تتصوَّر وقتها الإصرار العنيد على الهجرة رغم ما يحفَّها من مخاطر فى كثير من الأحيان.
وللأسف سوف تستمر حروب رأس المال بوتيرتها الدورية التى أرادها النظام الرأسمالى العالمى ليصيغ بها شعوب الدنيا، ما لم تُنزع الحرب من نموذج طريق التطور الرأسمالى: الكساد – الحرب – التسوية الإقتصادية الجبرية – ثم الكساد – ثم الحرب من جديد. وسيزداد سعير هذه الحروب طالما أنَّ شركات الأسلحة تكسد بِضاعتُها بالجنوح للسِّلْم، وطالما أنَّ أُوروبا العجوز محتاجة ل 50 مليون مهاجر حتى عام 2050 والذين لن يقبلَ بهم دافع الضرائب والنَّاخب الأوروبى إلاَّ تحت ظروف قاهرة كالحرب، وستزداد الحروب طالما أنَّ العالم والأفراد فى حدةٍ من الفروقاتِ فى الدخلِ والثروة.
الموقف من الحروب الرأسمالية والهجرة فى المنطقة العربية، وحالة السودان
تتجسَّد صيغة منتهى فداحةَ الحروب فى حقيقة هذا الواقع من القتل البارد الذى يجتاح كلَّ دول المنطقة. و يكون أكثر ضحايا هذا القتل فى زمان الحروب الرأسمالية الذكية هذى، هم المرضى والمعاقين والمُسِنِّين والأطفال والنساء، ويترتب على ذلك أيضاً النزوح الكبير والهجرة الواسعة القسرية للفاعلين الإقتصاديين. ولا يخفى على أحد الأثر الماحِق جداً على إقتصادات المنطقة والتدمير الكامل للبنيات التحتية جرَّاء ذلك.
وبالمقابل الرابحون من الحرب هم رأسماليو الحروب فى الغرب والمجموعات الكومبرادورية التى تعمل معهم داخل المنطقة العربية والأفريقية، ويربح الغرب أيضاً من جهة إستيلائه على أرصدة الرؤساء المخلوعين (وما أضخمها من أرصدة)، ويربح الغرب أيضاً بسد الفجوة الديموغرافية - التى طالت بلدانه فى الثلاثة عقود المنصرمة – بالمهاجرين الفاعلين إقتصادياً، ويربح الغرب من ثانِ بمساهمة شركاته فى إعادة بناء العالم المُدمَّر من جديد؛ وبالتالى يخرج من كساداته الماحقة.
أمَّا على المستوى الإقليمى، فالموقف من الحرب يتحدَّد بموقف دول المنطقة من المشروعات المحورية، كقضية فلسطين المُحتلَّة؛ والمشروعات التى تجسِّد السعى للهيمنة الإقليمية؛ كالصراع السُّنِّى - الشيعى من جهة، والصراع الأخوانوى (الذى يستقوى مرةً بالشيعة ومرةً بالسُّنة) - المدنى، من جهة أخرى.
وفيما يتعلق بقضية العرب المحورية، فمِمَّا لا شكَّ فيه أنَّ إسرائيل هى الرابح الأعظم من حروب رأس المال فى المنقطة العربية. فلن يصلها صاروخ من العراق بعد نهاية صدام رحمه الله، وهى الآن فى مأمن من أنْ تُستغلَّ إيراداتُ "العقيد الليبى" من البترول فى عمليات إرهابية ضدها، وهى فى حصن من الكيمياوى السورى الذى جُلُّهُ فى قبضة المنظمات الدولية الآن، كما لن تطالها صواريخ حزب الله اللبنانى الذى قتلتْ منه المعارضةُ السوريةُ أكثرَ مِمَّا قتلتْ إسرائيل فى كلِّ حروبها ضده، كما أنَّ مِصرَ قد أدرأتْ عنها القلق الآتى من سيناء (د. بول باليس، أخبار الخليج).
فالمشهد الآن خالى من العوائق، ومُهيأ لإسرائيل فى أنْ تتقاسم الأقصى مع العرب والمسلمين المهيضى الجناح ( يوماً لهم ويوماً لليهود؛ لا قدَّر الله) وبإمكانها أنْ تتوسَّعَ فى أىِّ مكان فى المنطقة التى حولها وغيرها من المناطق.
وبالطبع فإنَّ قضية فلسطين هى الخاسر الأكبر بالمقابل؛ فقد أصبح بالمنطقة عُدة قضايا: سوريا، ليبيا، مصر، اليمن، وعلى ذلك قِسْ؛ خاصةً مع دخول داعمها الأكبر – السعودية – فى حربٍ مفتوحةً الآن. فذلك يعنى فيما يعنى؛ تشتيت الجهود المناصرة لقضية فلسطين والداعمة لها مالياً ومعنوياً. كما أنَّ حكومة عباس كثيراً ما تجد نفسها فى مواقفَ حرجةٍ حينما يتضادّ الداعمون لها حول بعض القضايا العديدة المذكورة بعاليه (السعودية ضد الأسد مِثالاً، وكلاهما داعم للقضية الفلسطينية).
هذا الموقف الأقليمى المُربك جعل الخطاب الرسمى الفلسطينى وخطاب كل الفصائل الفلسطينية الآخرى بلا صوتٍ الآن. ولعلَّ الأمرَ سيزداد تعقيداً مع دخول التناحر الدولى بين الغرب وروسيا داخل الإقليم. غير أنَّ السيد رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس، مازال يديرُ هذا التعقيد بذكاءٍ وحِنكةٍ حتى الآن، ونتمنى له الثبات.
أمَّا إيران – فى إطار المشروع الصهيوصفوى – فهى المسئولة من ماكينة القتل اليومى التى تعمل بالمنطقة نيابةً عن إسرائيل. ولا يخفى على أحد رغبتها فى تقتيل العرب السُّنَّة واستفزازهم من بلدانهم وحملِهم على الهجرة ما استطاعتْ إلى ذلك سبيلا. وقد وصل إلى الغرب الأوروبى وأمريكا نتيجةً لذلك القتل، أكثر من 1,350,000 عراقى، وأنَّ هناك أكثر من 8.6 مليون عراقى فى حالة نزوح داخلى وقابلين لأن يتحولوا إلى مهاجرين إذا لم تُصحَّح أوضاعهم (مركز أنباء الأمم المتحدة، 14/09/2015).
وذات الوضع نجده فى الحالة السورية حيث خلَّف المشروع الصهيوصفوى فى سوريا 5 مليون لاجئ، و7 مليون نازح فى طريقهم أن يتحولوا إلى مهاجرين أيضاً (توفيق بوعشرين، العربى الجديد، 26/08/2015).
لقد كانت السعودية إلى عهد الملك عبد الله رحمه الله، بوعى أو بلا وعى، من أكثر الدول تجاوزاً لحالة الحرب دلوفاً لوضعية التسوية كما هو وارد فى نموذج التطور الرأسمالى بعاليه (ربما لسعة ذات اليد)، وكانت فى معظم الأحيان تقاتل غريمها بآلية الحرب بالوكالة، أىْ بدعمها للجماعات السُّنِّية فى المنطقة؛ وبالتالى قد جنَّبَتْ الشعب السعودى ويلات الحروب لعقودٍ طويلة.
ولكن أساطين الحروب الرأسمالية فى الغرب الذين كانوا يتخوفون من الوصول إلى إتفاق نووى مع إيران؛ الأمر الذى يعنى معه تناقص أرباحهم آنياً واسترتيجياً، قرروا هذه المرة ألاَّ تكون السعودية متحصنَّةً وراء سعة يدها. فلابدَّ للآليات العسكرية لرابع أقوى جيش فى العالم من أنْ تدخلَ حرباً ما، فتتحطَّم (لصالح إسرائيل أيضاً) لكى يُعاد بناءها من جديد خاصة بعد فشل المحاولة مع مِصر - السيسى؛ فذلك هو الأفضل لأعمالهم (Best for business) لا التسوية هذه المرة؛ فكانت حرب اليمن (Lee Fang, Intercept, 20/03/2015).
وهكذا أُقتيدَتْ السعودية والدول الخليجية والعربية المتحالفة معها (خلا سلطنة عمان) إلى حربٍ مع الغريم اللَّدود، الذى يتمظهر الآن فى الفئة الحوثية فى اليمن، ولا أحد يعرف متى ستنتهى هذه الحرب. وقد كان الأجدى لدولة كالسعودية أن تخوض حربها هذه بالوكالة كما فعلت مع صدام حسين رحمه الله أبَّان الحرب العراقية الإيرانية. أمَّا وقد دخلت السعودية فى حربٍ مع الغريم/إيران الذى هو الآن من يحارب السعودية بالوكالة، فستبقى هذه الحرب إذاً (لا قدَّر الله) قريبة من الحرب التى يتطلَّع إليها الغرب الآن؛ أى الحرب بين الخليج وإيران؛ فتلك وحدها التى ستُخرج الغرب من كساده الحالى الكبير، وتضمن لإسرائيل حركةً أوسع فى محيطها.
أما مِصر فقد كانت فى قلب معادلة المشروع الصهيوصفوى - الأخوانوى، الذى كان يخطِّط لتدميرها وتحويلها إلى دولة فاشلة (طارق البشرى، الشروق 12/03/2012) لو لا فطنة الطبقة الوسطى المصرية لهذا الفخ باكراً؛ الأمر الذى حدا بها إلى الإلتحام بجيشها لتقف سدَّاً منيعاً ضد التخريب المستهدف للدولة المصرية.
وقد كانت مطيَّة هذا التخريب (وهدفه البعيد) هو تنظيم ما يُسمَّى بالأخوان المسلمين، وذلك بتمكينه من عصب الإقتصاد المصرى ومحاربة غرمائه واستفزازهم من أرضِ الكنانة وحملِهم على الهجرة (ومن ثم تدميره هو نفسه فى نهاية المطاف). وذلك بالقطع يصُبُّ فى مصلحة إسرائيل، وتجار السلاح والدول الغربية العجوزة التى تنتظر بفارق الصبر قدوم الطبقات الوسطى إليها (راجع أيضاً: https://www.youtube.com/watch?featur...Fu6gdqU#at=776).
الحرب والهجرة فى حالة السودان
لعل السودان هو الدولة الوحيدة التى نُصِبَتْ لها فِخاخُ الدولةِ الفاشلة حتى قبل إستقلالها، وذلك بُغية شغلها عن إستقرارها وتنميتها وتطوير إنسانها؛ لأنَّها إنِ استقرَّتْ لَنَمَت، وهم لا يُريدونها أن تنمو إلاَّ حين يسمحون بذلك. وقد فشل كلُّ رؤساء السودان، مدنييهم وعسكرييهم، بلا استثناء فى أنْ يعبروا على تلك الفخاخ بسلامٍ آمين. وكان أكثرهم فشلاً هو الرئيس الحالى عمر البشير، الذى فى عهده إنفصل ثلث السودان عن أرضه الأمِّ، وبئس المصير. وها هو يضع كل أجزاء الوطن الأخرى فى وضعية القابلية للإنفصال؛ ولا يَخافُ عُقباها.
فَمَنْ مِنْ أهل السودان إذاً، القادر على تجنيب شعبه ويلات الحروبِ بالدلوف إلى التسويات برجاحة العقل، وحِنكة التفاض؟ أما فى هذا البلد من رئيسٍ رشيد!
إنَّ سعادة الرئيس البشير له شرف تقتيل أكثر من مليونى سودانى بالجنوب الحبيب، وشرَّدَ أكثر من 5 ملايين منهم فى الجوار البعيد والقريب، واعتلى هذه الكرسىَّ على جماجم أكثر من 45 ألف من خِيرةِ أبناء تنظيمه (لو بُعِثوا اليوم لتبرأوا منه)، ومازال يحكم البلد تقتيلاً وتعذيباً فوق ما قتل من سودانيين فى دارفور وجبال النوبة وجنوب النيل الأزرق (البالغ عددهم أكثر من 300 ألف وأكثر من مليونى نازح ومُهَّجر بسبب ويلات الحروب هناك)، ومهرَ صحيفتَهُ فى سبتمبر 2013 بدماء أكثر من 200 سودانى ومعظمهم فى ريعان الشباب. وماانفكَّ يخنق البلد بتكريس كلَّ مواردها لعناصر تنظيم ما يُسمى بالأخوان المسلمين؛ الأمر الذى إضطر العديد من الفاعلين الإقتصاديين إلى الهجرة خارج السودان.
حقائق ديموغرافية مخيفة عن الحرب والهجرة من السودان
يقدر الجهاز المركزى للإحصاء عدد السكان فى عام 2015 بحوالى 38,435,252 نسمة (السودان، الجهاز المركزى للإحصاء، 2015)، وتُشير بعض الإحصاءات إلى أنَّ حوالى 62% من جملة عدد السكان فى السودان من الفئات الشابة أى أنَّ عددهم 23,829,856.24 نسمة (موقع وزارة الخارجية السودانية، عن السكان). ولعل هذه الأرقام منسجمة مع الحقيقة التى أوردتها كريستين لاقارد بأنَّ أفريقا ستشهد نمواً حاداً فى العناصر الشابة.
ومع هذا العدد المتزايد من العناصر الشابة النشطة إقتصادياً، إلاَّ أنَّ حكومة السودان لم تخطط لاستيعاب هؤلاء الشباب بالقدر الذى يخفِّض معدلات البطالة بينهم. فمازالت ميزانية الدولة ميزانية أمنية، وميزانية تمكين مُحتكِرة للوظائف؛ الأمر الذى يجعل معدل البطالة فى السودان يقارب ال 18%
هذا الواقع جعل السودان واحداً من أهم الدولة المصدرة للهجرة فى المنطقة الأفريقية والعربية. فَفِى العقديْن الأوَّلَيْن من سِنىِّ الإنقاذ وحدها هاجر من السودان المكلوم "ما يقارب ال 10 مليون سودانى (9,858,176)، بمعدل هجرة يبلغ حوالى 500,000 سودانى فى السنة" (سارة نقد الله، حريات، 03/08/2014).
وبينما كانت الهجرة قبل الإنقاذ هى هجرة عقول محضة (مع اختلاف أسبابها بين تضييق الحكام عليها واغتنام فرص عمل نادرة)، فإنَّ الهجرة فى عهد الإنقاذ هى تمثل خروجاً شاملاً من قِبَل كلِّ الفئات النشطة إقتصادياً خاصةً مع تلاشى العائل الأوحد؛ فِراراً من القتل والبطش والعسكرة الإجبارية المكرسة لخدمة الأخوانوية، وفراراً من جحيم التمكين والفساد والحصار الإقتصادى، ومن وصمة الإرهاب فى بلدٍ فتحتْ كلَّ أبوابِها لشذاذ الآفاق الدواعيش من كلِّ حدبٍ وصوب.
وقد زادتْ بِلَّةُ الطين يوم انفصل الجنوب الحبيب، واتَّجهتْ عائداتُ النفطِ إلى خِزانةٍ أُخرى. فوقتئذٍ يمَّمَ كلُّ شابٍ وشابة شطر الشتات العريض؛ لِمَ لا، والشرقُ الغنىُّ والغربُ المُترف العجوزُ يبحثُ عنهم وهم يبحثون عنه (Ibid). فتزايدتْ أرقام المُهاجرين نتيجة لسياسات الدولة غير المؤاتية بصورة تفضحُ سَيْرَ البلاد الحثيث نحو الكارثة.
وها هى وزارة الداخلية السودانية ترصدُ هجرةً يوميةً تفوق ال 5000 مهاجر فى اليوم (موقع النيلين، 10/08/2015)، أىْ أكثر من 208 مهاجر على رأس كل ساعة. وتُشير أحدث الإحصائيات الصادرة من جهاز تنظيم شئون المغتربين فى السودان فى 17/09/2015، بأنَّ هجرة الكفاءات السودانية من المهنيين والعمَّال المهرة بلغت "أكثر من 52 ألف؛ 300 منهم أساتذة جامعيين من جامعة الخرطوم وحدها، 4979 طبيباً وصيدلياً، 3415 مهندساً، 4435 من الفنيين التقنيين، و39000 من العمال المهرة وغيرهم" (سودانتربيون، 17/09/2015).
والمضحك المبكى، أنَّ حكومة البشير لا ترى بأساً فى أن يُهاجر الفاعلين إقتصادياً من السودان. وها هى وزيرة العمل بالسودان "إشراقة سيد محمود" تحض السودانيين على الهجرة (المهجر، 03/08/2013)، ومازالت تلك الوزيرة الشابة (عفاف احمد) تُذكرنا بأهمية الهجرة وسُنِّيَّتِها، وأهمية تصدير الطبيب الشاطر، والمهندس الشاطر، وأن نكون دولة مُصدرة للعمالة (https://www.youtube.com/watch?v=4dBY...w&noredirect=1).
المحصلة
1- العالم مُطالب أخلاقياً بإيجاد بديل لدورة الحرب المتمفصلة فى نموذج طريق التطور الرأسمالى (الكساد – الحرب – التسوية الإقتصادية الجبرية – ثم الكساد – ثم الحرب من جديد)، وأرجو أن يكون البديل بطرح دالَّة إنفاق سلمية جديدة أكثر أنسنةً من الكينزية العسكرية (Military Keynesianism) التى تتأبطها الرأسمالية الآن. بل يجب أن يُفكر العالم فى إيجاد نظام إنسانى عالمى جديد مُصاب بالحياة ونابذ لفكرة القتل.
2- طالما أدرك أثرياء العالم أنَّ الفروقات فى الدخل والثروة من موانع النَّماء المستدام، فالحرب أخطر عوائق النماء المستدام فى المدى البعيد. فبدلاً من تكسير العالم الثالث ليُعاد بناؤه ليخرج الغرب من كساداته، فليساهم هؤلاء الأثرياء فى بناء العالم الثالث وإنسانه – لا بالصدقات – ولكن بالإنفاق الإستثمارى المباشر المحافظ على البيئة (السعودية دخلت مع القطاع الخاص الأمريكى فى تعاقدات لتطوير الصحة والتعليم بما يقارب 2 تريليون دولار فى زيارة الملك سلمان الأخيرة).
3- نرجو لحكامنا ألاَّ يقعوا فى فِخاخ الحروب التى يرسمها لهم الغرب ليُسيطِرَ عليهم وعلى ثروات بلدانهم بتحويلها إلى دول فاشلة. ولن يحدث ذلك إلاَّ بتوسيع دائرة التشاور والحرية والديموقراطية/الشورى والجماعية فى إتخاذ القرار، لأجل العبور بالبلد من دورة الحرب إلى دورة التسوية.
وأعجب لحُكامٍ يقرأون هذه الآيات من سورة النَّمْل (آيات الديموقراطية)، ويسوسون النأس بغيرِ هداها فيما يتعلق بقرارات الحرب والسلم، قال الله تعالى: (قالت يا أيُّها الملأ أفتوني في أمري ما كنتُ قاطعةً أمراً حتى تشهدون (32). قالوا نحن أولو قوةٍ وأولو بأسٍ شديدٍ والأمرُ إليك فانظري ماذا تأمرين (33). قالتْ إنَّ الملوكَ إذا دخلوا قرية أفسدوها وجعلوا أعزَّةَ أهلِها أذلَّةًّ وكذلك يفعلون (34)).
ورد فى تفسير القرطبى "المسألة الأولى" فى شرح هذه الأيات أنَّ معنى قوله تعالى: " قالت يا أيُّها الملأ أفتونى فى أمرى: الملأُ أشرافُ القوم. قال ابن عباس: كان معها ألفُ قَيْل. وقَيْلٌ: إثنا عشر ألف، قِيلَ مع كلِّ قَيْلٍ مائة ألف. والقَيْلُ الملك دون الملك الأعظم (لعلَّه نائب الدائرة). فأخذت في حسن الأدب مع قومها، ومشاورتهم في أمرها، وأعلمتهم أنَّ ذلك مُطَّرِدٌ عندها في كلِّ أمرٍ يَعْرِض – كأنَّه الرجوع للبرلمان، (ما كنتُ قاطعةً أمراً حتى تشهدون) فكيف في هذه النازلة الكبرى. فراجعها الملأُ بما يقرُّ عينها، من إعلامهم إياها بالقوة والبأس، ثم سلموا الأمر إلى نظرها؛ وهذه محاورة حسنة من الجميع. قال قتادة : ذُكِرَ لنا أنَّه كان لها ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلاً هم أهلُ مشورتها، كل رجل منهم على عشرة آلاف" (Islamweb library online).
أليس هذا "القَيْل" هو نائب الدوائرة المنتخب إنتخاباً لا خجَّ فيه وتأثيما؟ فمَنْ مِنْ أهل الإنقاذ مَنْ تأسَّى بهذه الآيات، فأحسن الأدبَ مع شعب السودان؟ وما أعظم شاعرنا المفوَّه محجوب شريف القائل: "مُهذَّب أمامك يكون الكلام".
4- هذا العالم الرأسمالى المُهجَّس بمقتضيات نظرية مالتس للسكان (السكان يتزايدون بمتوالية هندسية، والغذاء يتزايد بمتوالية عددية) قد أفرط فى تنظيم النَّسل فى الغرب، وأفرط فى الحروب فى الجنوب لجهة تصحيح معادلة السكان هذه. لكنَّه اليوم يحصد خطل سياساته، فشراهة الرأسمالية المستبطنة للحروب من أجل البقاء الآنى والإستراتيجى، هى الأخطر على تناقص الغذاء والبيئة المعيدة لإنتاج هذا الغذاء من كثرة النَّسل.
فالرأسمالية هى المسئولة عن نقص الغذاء فى كل العالم، وهى المسئولة عن تناقص الفاعلين إقتصادياً فى الغرب الآن: فى ألمانيا وإيطاليا وبريطانيا والدول الإسكندنافية وكندا وأمريكا وغيرها، وهى المسئولة عن كلِّ حروب رأس المال، لا سيما المجترَحَة الآن بإسم الربيع العربى للخروج من الكساد الحالى ولسد الفجوة الديموغرافية. وصدق سمير أمين إذْ يقول: "لا توجد رأسمالية بلا شرور".
5- وطالما أنَّنا لا نعيش فى عالمٍ بريئ، فيجب على الحُكام بخاصَّة، وعلى شعوب المنطقة الأفريقية والعربية بعامَّة، أن يطوِّروا خاصيَّة للإنذار المبكِّر تفطنُ للأحابيل التى يُدار بها العالم ويُتَحَكَّم فيه (The global governance)، لجهة تجنيب شعوب المنطقة ويلات الحروب؛ القضاء على الحرث والنسل، والنزوح (وكل نازح هو مهاجر محتمل إذا لم تُصحَّح أوضاعه)، والهجرة.
وخطورة الهجرة، لو يعلم الحاكم، أنَّها تجرفُ جرفاً الطبقة الوسطى (المهنيين والعمالة المدرَّبة)؛ تلك المسئولة مسئولية مباشرة عن بناء الأوطان؛ الذين إضطرتهم الحياة ليفروا بأبنائهم بحثاً عن أوضاع أفضل لهم. وهؤلاء الأبناء، مع الأسف، لن يعودوا لِأرضِ آبائهم التى أغشم ما فيها حُكامها (أنظر عزمى بشارة، العربى الجديد، 08/08/2015).
فلن يعود أحمد محمد الحسن "مخترع الساعة الشهيرة المُقَنْبَلَة فى عقيرة مُدرِّسَتِهِ" للسودان رُغمَ عنصرية مستضيفيه، لأنَّه يستطيع أن يُحقِّق ذاته هناك، أكثر من بلده الذى يُصدِّر (بسبب إحتكار التوظيف لعناصر النظام) الطبيب الشاطر والمُهندِس الشاطر بتحريض من وزيرة سودانية مازالت تُفكِّر، كما تنظيمها، بعقلية إتحادات الطلاَّب.
6- إنَّ أسوأ ما فعلتْه حكومة الإنقاذ هو استفزازها ل 10 مليون سودانى، غالبيتهم من الفئات النشطة إقتصادياً، من أرضِ آبائهم وحملهم على الهجرة (10 ألف منهم فى حضن العدو الإسرائيلى). فاتباع الدولة لسياساتِ التمييز الإقتصادى والمالى لصالح عناصر النظام، وكذلك إحتكار التوظيف لهذه العناصر، والفساد والتمكين بكلِّ أشكاله، حَمَلَ الكثيرين على هذه الهجرة.
ومن خطل سياسات النظام ظنَّه أنَّه يستطيع أن يستعيض عن هؤلاء المهاجرين بأفرادٍ من تنظيم ما يُسمى بالأخوان المسلمين العالمى (فالبلد يبنيها بنوها وإن اختلفت السلطة معهم)، فقام بفتح البلد لكلِّ شذاذ الآفاق من تومبُكتو إلى توربورا، ومن البريقة للبصرة. وبالتالى صار عدد الأجانب حوالى 2933918 وافد (أى 40% (بحسب هويدا المكى، الراكوبة 03/01/2013) من جملة عدد سكان الخرطوم البالغ 6.5 مليون نسمة فى 2013 بحسب تقديرات المركز القومى للإحصاء، زائد ضعف متوسط الزيادة السنوية فى سكان الخرطوم البالغ 640000 نسمة).
لقد نسىَ سدنة الإنقاذ أنَّ ولاء هؤلاء لأوطانهم، إذْ لا شئَ يعدِلُ الوطن، وسيحوِّلون أموالهم لبلدانهم الأم لدعم أُسرهم ولنماء أوطانهم، وسيذهبون بالعديد من العملات الصعبة بالبلد على شُحِّها، والتى فى بعض الأحيان إضطرت الحكومة أن تُعطيهم بدلاً عنها سلعاً تصديرية يبيعونها بالخارج ويأخذون أثمانها، وقد تمَّ إعفاؤهم من ضريبة الصادر. فلينظر القارئ الكريم للدعم الذى يتلقاه عضو تنظيم ما يُسمى بالأخوان المسلمين العالمى على حساب أبناء الوطن.
آلآن وقد شحَّتْ العملات الصعبة، فبدأ النظام ينادى على السودانيين العاملين بالخارج والمهاجرين للإستفادة من تحويلاتهم؛ يُريدُ أن يسرقهم ثانيةً ليستثمر تحويلاتهم فى مناجم الذهب وآبار البترول الجديدة كما سرقهم من قبل أبَّان الإستخراج الأول للبترول وحرمهم من عائداته. ولكن هيهات، فالمهاجرون فطنوا لِلَعبة الإنقاذ، فصاروا يستثمرون أموالهم فى الأوطان التى تحتضنهم وتحتضن أولادهم وتؤمن مستقبلهم، خاصةً مع الظروف غير المؤاتية فى وطن الأجداد لاستثمار دولار واحد دون أن يتعرض للسرقة من قِبَل ما يُسمى بالأخوان المسلمين.
الخاتمة
إنَّ بلداً يُهَجِّرُ "الطبيب الشاطر والمهندس الشاطر والإقتصادى الشاطر" من أبناء طبقته الوسطى (النشطين إقتصادياً)، حُقَّ له أن يُعالجَ مرضاه بالأعشاب وتمائم الدجاجلة، وحُقَّ لبنياته التحتية أنْ تُسقطُها الفئران والسناجب والأضُبُّ، وحُقَّ له أن يُسخِّرَ السحرةَ للإستراتيجية القومية الشاملة ولبقاءِ حكام الإنقاذ فى السلطة.
حسين أحمد حسين،
باحث إقتصادى مُقيم بالمملكة المتحدة.
[email protected]


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.