ليس هنا مجال الجدل في مسألة الدفاع عن النفس، والاحتياط من كل المصاعب، في عالم يزداد تعقيدا وشراسة كل يوم. طبيعي أنه من حق أي شعب يتعرض للمخاطر أن يحمي نفسه، من كل ما يهدد كيانه ووجوده. لكن أيضا من واجب الشعوب، ما دامت تنتمي إلى فضاء إنساني، أن تتفهم الشعوب الأخرى وحقها في الحياة. قوانين الهجرة التي أصدرتها مؤخرا دول الشمال الأوروبي، بالخصوص الدنمارك، تثير أكثر من سؤال حول مرامي هذه القوانين الجديدة، كيف لدولة محكومة بضوابط أممية، أن تسرق مال البؤساء المهجّرين الذين تركوا كل شيء وراءهم، وارتحلوا صوب المجهول، بعد أن باعوا ما استطاعوا بيعه من ممتلكاتهم، بحثا عن حياة فيها حد أدنى من الكرامة واستجابة لغريزة حب البقاء الطبيعية، هربا من مأساة قاسية، لأوروبا جزء كبير من المسؤولية فيها. وإلا من حطم البنى والمؤسسات، حتى ولو كانت هشة، في العديد من البلدان العربية؟ من السهل أن نختزل ذلك كله في الدكتاتورية، التي تتحمل القسط الأكبر في خراب بلدانها، لكن مسؤولية أوروبا لا يمكن الاستهانة بها في وضع دولي هي سيدته وأمريكا. كم أن ذاكرة البشرية محدودة ولا تلتفت إلى الوراء، ولا ترى نفسها في مرايا الذاكرة وهي تقدم على تفقير الفقير، وتبئيس البائس أصلا. مع أن فكرة تجريد المهجّرين من أموالهم، على امتداد واسع، ليست جديدة. فهي تذكر بالضبط بالحالة اليهودية في الحرب العالمية الثانية. في عزّ الهولوكست، وقبله بقليل، تم تجريد الناس من كل ما كانوا يملكونه، بحجج واهية لا شيء يبررها إلا النهب المنظم بشكل واسع. نفس التيارات الفاشية والعنصرية، أو القريبة منها، أو المتواطئة معها أو الصامتة عليها، مقابل مكاسب انتخابية ومصالح ضيقة لا تهم فيها قيمة الإنسان مطلقا. المصيبة أن هذا الجبن أعطى كل المبررات للمجتمع الأوروبي وقتها بأن يجد ضالته في تيارات اليمين المتطرف والعنصري لدرجة أن نتساءل: أين كان الضمير الأوروبي والإنساني؟ هل يعقل أن المجتمعات الأوروبية تحولت إلى مجتمعات عنصرية في أغلبها، وبشكل كلي؟ يمكننا أن نتحدث كثيرا عن الجريمة التي شرّعت سرقة اليهودي وتدميره وقتله، لكن من يقرأ التاريخ البشري ويحاول أن يستوعبه لا يفاجأ مطلقا. يكفي أن نتأمل تاريخ ومآلات النازية، وقوة غطرستها والظلم الاجتماعي الذي تأسست عليه، وإخفاق الطبقات السياسية الديمقراطية في إيجاد الحلول، لنعرف كيف منحت السلطة على طبق من ذهب، لهذه التيارات التي تحولت فجأة إلى بدائل وهمية لا تجلب في النهاية إلا الدمار والحروب والخيبات، والتطرف، والمزيد من الحقد على الأجنبي الذي جعلت منه عدوها الذي يغطي على إخفاقها الكلي. ومثلما وجدت النازية ضالتها في اليهودي التائه والخطير، وجدت أوروبا اليوم، المأزومة اقتصاديا وقيميا، في العربي الضائع والمتوحش والإرهابي، وسيلتها لاستعادة مشاريعها الاستعمارية القديمة. قد تبدو هذه الصورة اختزالية، لكنها حقيقية ولا تمس دولة الدنمارك وحدها، لكنها تمس أوروبا الشمالية قاطبة. سن القوانين المتشددة في أوروبا الشمالية، في الدنمارك والسويد وفنلندا، لن يحل أي مشكلة. والتخويف من المهجّرين الطالبين للجوء السياسي لا يعمل إلا على توسيع رياح العنصرية القوية التي مست كل شيء، حتى أجهزة الدولة التي كان عليها أن تجد مبررات دخولها في اللعبة نفسها، والاستجابة للحسابات الانتخابية، التي سمحت في النهاية لليمين المتطرف بأن يصعد بقوة في مجمل دول أوروبا، فارضا نفسه على المشهد السياسي والاجتماعي. لا أعرف إذا ما كان المراقبون يرون في هذا التحول شبها لصعود النازية في كل مناحي حياة فترة الثلاثينيات، من عجز ثقافي وفكري وعدم القدرة على إنتاج المعرفة القادرة ليس فقط على تفسير العالم الجديد، ولكن أيضا السير به إلى الأمام، ومن إخفاق في إنتاج البدائل لمواجهة حقيقية للأزمة البنيوية الرأسمالية، ومن مخاطر الأزمة الاقتصادية التي تعقدت أكثر في السنوات الأخيرة على الرغم من الوعود وتفشي الظلم والبطالة والخوف من مستقبل أصبح مرهونا بالخطابات الجاهزة، ومن توجه سهل وجاهز نحو الحلول العسكرية لمواجهة المستجدات الدولية، وتصويب أصبع الاتهام نحو الغريب الأقل حماية، والأكثر هشاشة بوصفه سبب الأزمات، التي وضعت هذه الدول في مخاطر الإرهاب والانهيار. هذا لا يعفي مطلقا العربي من مسؤولياته الثقيلة. بدل الانتساب إلى العصر والبحث عن وسائل التضامن، تم تحريك الأمراض القديمة، بوضعها وسائل قياسية لتجاوز معضلات الحاضر ومخاطره. لهذا بدأت تضمحل الصورة الجاهزة عن أوروبا الشمالية، التي كانت تبدو جنة العدالة والإنسانية، والتضامن. وبدأت تفقد نموذجها، وتسير بسرعة مجنونة، في ركب أوروبا، لتصبح في عمق أفكار اليمين المتطرف بكل عزلته وأفكاره التي تضع الأجنبي على رأس أجنداتها. وهذا في العمق أيضا، إعلان حقيقي عن فشل التيارات الديمقراطية التي كانت قطبا للتفكير والحلول ولم تعد اليوم كذلك. هذا الخليط من التحولات المستغرب اليوم، سبق أن أناط اللثام عنه بجرأة عالية وجدارة، الكاتب والصحافي السويدي الكبير، المعادي للتطرف اليميني، ستيغ لارسن، عندما كتب رواية الكبيرة والاستباقية، ملينيوم (2004- 2008) بأجزائها الثلاثة: الرجال الذين لم يكونوا يحبون النساء، الطفلة التي كانت تحلم بالبنزين وعود كبريت، والملكة في قصر التيارات الهوائية، التي ترجمت إلى ثلاثين لغة، وسجلت أعلى المبيعات في أوروبا. في السويد وحدها بيع منها أكثر من ثلاثة ملايين نسخة. مجموع المبيعات إلى اليوم بلغ 80 مليون نسخة، قبل أن يضيف لها مؤخرا (2015) جزءا رابعا، بعد وفاة ستيغ بأزمة قلبية حرمته من رؤية هذا النجاح منقطع النظير لثلاثيته، الروائي السويدي David Lagercrantz دافيد لاغيركرانتز تحت عنوان: الشيء الذي لا يقتلني. جعلت من الرواية نصا استباقيا خاض حربا ضروسا ضد اليمين المتغطرس وضد التاريخ المطمور، وفضح الآليات التي ولدت وحمت التيارات النازية التي بدت أوروبا الشمالية بعيدة عنها في الظاهر، وإفرازاتها اليمينية المتطرفة. فقد بينت ثلاثيته تورط الدولة في أوروبا الشمالية، في أعالي رموزها، في أمراض التطرف والعنصرية. لهذا أنشأ ستيغ المناضل والصحافي، ولاحقا الروائي، مجلة إكسبو التي حولها إلى منبر مضاد للفاشية والعنصرية التي بدأت تنخر المجتمع السويدي بقوة من الداخل، مما تسبب له في تهديدات كثيرة بالموت، لكنه لم يتوقف، فذهب نحو فضاءات التخييل الحرة التي منحته فسحة كبيرة لإعادة النظر في اليوتوبيات الأوروبية الشمالية الزائفة. الأدب الاستباقي (1) ستيغ لارسن يفضح يوتوبيات الشمال الزائفة واسيني الاعرج القدس العربي