سعدت على الدوام بأي فرصة تسنح لي بزيارة السودان، حيث أمضيت جانبا من طفولتي هناك، وهكذا فإنني بعد أن ترجمت كل تلك الأعمال لصديقي الروائي السوداني الطيب صالح أصبحت الحكومة السودانية تحسن الظن بي. وكنت أدعى إلى زيارة السودان كلما كانت هناك مناسبة رسمية للاحتفال. وقد سعدت بصفة خاصة في تلك المرة التي دعيت خلالها لزيارة السودان حيث إن صديقي الفنان السوداني المعروف ابراهيم الصلحي كان قد عين حديثا وكيلا لوزارة الثقافة السودانية. كنت قد عرفت إبراهيم الصلحي عندما كنت أبحث عن فنان تشكيلي لإنجاز رسم تصويري لمجلدي الأول من قصص قصيرة من العالم العربي، الذي أسعدني أنني كنت في سبيلي إلى إصداره عبر دار نشر بارزة هي دار نشر جامعة أكسفورد. وقد أنجز غلافا ممتازا للكتاب على الرغم من أنه لم يكن مألوفا، حيث تألف من خلفية ذات لون فضي برزت فيها أسماء المؤلفين المختلفين مكتوبة بالخط العربي باللون الأسود، وذلك على الرغم من أن العنوان نفسه كان بالطبع باللغة الإنجليزية. وقد صدر هذا الكتاب وهو أول كتاب يترجم عن اللغة العربية، ويبرز في قائمة كتب ناشر إنجليزي مميز في عام 1967، وهو العام الذي حدثت فيه الحرب الشهيرة التي كبدت فيها إسرائيل القوات المسلحة المصرية والسورية خسائر فادحة في إطار هزيمة ساحقة. وبالتالي لم يكن هذا العام أفضل وقت لصدور الكتاب، ولم يبد القراء باللغة الإنجليزية اهتماما بكتاب مترجم عن العربية، وذلك على الرغم من أنه قد تضمن بعض القصص الممتازة بأقلام كتاب من قبيل نجيب محفوظ، الطيب صالح، زكريا تامر، يحيى حقي، يوسف إدريس وغسان كنفاني. ولم يكن العالم العربي بدوره في مناخ نفسي يسمح له بدعم أدبه المترجم، وبحسب علمي فإنه لم تقم أي حكومة أو مؤسسة عربية بشراء نسخة واحدة من الكتاب. وفي حقيقة الأمر فإن نسخ الكتاب اعتبرت في وقت لاحق من المرتجعات، وبيعت بالجملة بسعر مخفض لناشر لبناني أعاد إصدارها في طبعة ذات غلاف ورقي. وكانت الحكومة السودانية قد مضت في هذه المناسبة إلى حد إقامة حفل غنائي تحييه أم كلثوم، وباعتباري ضيفا يحظى بالتكريم حجز لي مقعد في الصف الأول، وكان إلى جواري رجل إنجليزي استفسر مني عن عنوان الأغنية التي كانت تشدو بها، فقلت له إنها أغنية «هذه ليلتي». وأوضحت له معناها، وقد ظهرت أم كلثوم بالفعل على خشبة المسرح وسط عاصفة من التصفيق وبدأت بالغناء وكما هو معتاد فإن أم كلثوم بعد بعض الوقت عادت إلى تكرار غناء المطلع الأولي، فاستفسر الرجل الجالس إلى جواري هامسا عما إذا كان المغنية قد عادت إلى بداية الأغنية، فقلت له إنها قد فعلت ذلك وأن هذا أمر مألوف غالبا. وعندئذ سألني عما إذا كان الناس سيشعرون بالضيق إذا غادر القاعة، فقلت له نعم إن هذا هو ما سيحدث، وإنها إذا ما أراد المغادرة فإن عليه أن يقوم بذلك بأبعد الأشكال عن لفت الأنظار. وهكذا فإنه عندما كان عدد كبير من الجمهور يصفق ويهلل، وقد وقف الكثيرون منهم في أماكنهم، بل وانطلق بعضهم نحو خشبة المسرح من فرط الحماس، بادر جاري الإنجليزي إلى الهرب. وهكذا تعلمت أنه ليس العالم كله عاشقا للموسيقى العربية ولا ينظر إلى أم كلثوم على أنها أعظم مغنية في جميع الأزمان.التقيت في اليوم التالي بصديقي إبراهيم الصلحي فأوضح لي أنه قد تم إجراء الترتيبات الخاصة للمضي بجميع الضيوف الأجانب الذين وجهت الدعوة إليهم بزيارة الخرطوم للقيام بجولة في مصانع مختلفة،. وكانت تلك محاولة لإيضاح أن السودان ليس بلدا متخلفا لا ينتج ما يتجاوز التمر، وإنما هو بدوره لديه مصانعه، وقال لي الصلحي: « إنني أعرف أنك لن تستمتع بزيارة مثل هذه المصانع، لذا فقد رتبت أن نمضي سهرة خاصة معا حيث أنني أعرف اهتمامك بالصوفية». انطلق إبراهيم الصلحي بالسيارة أولا إلى أحد المكاتب الحكومية حيث طلب رؤية الفرّاش، وعندما أقبل رجل عجوز ذو لحية قصيرة نحونا مسرعا، أدهشني أن يبادر الصلحي إلى تقبيل يدي الرجل ثم معانقته، وبعد ذلك قدمني له، وأوضح له أنني لا أتحدث العربية، وأنني أمضيت جانبا من طفولتي في السودان فحسب، وإنما أنا مطّلع كذلك على الأدب الصوفي كذلك. بعد ذلك مضينا نحن الثلاثة إلى السيارة، وأبلغني إبراهيم الصلحي أننا سننطلق بها إلى قرية صغيرة خارج أم درمان تدعى قرية أم دوبان، حيث توجد بها دار الشيخ. وقد أمضى الشيخ معظم وقت الرحلة الطويلة وهو يحدثني عن إعجابه بالبريطانيين، وكيف عاملوه معاملة طيبة عندما كانوا يمسكون بمقاليد السلطة في السودان، بل إنه أخبرني كيف أن رجلا واحدا رأى أنه لا يرتدي ملابس مناسبة لشتاء بارد بشكل خالص في ذلك العام، بادر إلى إهدائه سترة صوفية. لدى الوصول إلى قرية أم دوبان نلنا ساعات قليلة من النوم، وبعد ذلك أيقظني إبراهيم الصلحي، واصطحبني إلى خيمة فيها رجل يجلس ناظرا أمامه، وقد مد يدا واحدة. فجلسنا متربعين إلى جوار الرجل الذي التفت بالفعل إلى إبراهيم ومضى يتبادلان التحيات، بعد ذلك قدمني إبراهيم باعتباري صديقا من أصدقائه الإنجليز أمضى طفولته في السودان، وتجاذبت أطراف الحديث مع الرجل وبعدئذ استأذنا وعاد الرجل إلى وضعيته السابقة مادا يده أمامه. امتلأت القرية الصغيرة المؤلفة من أكواخ قليلة من الطوب والطين تدريجيا بالناس، الذين راحوا يتدفقون من الصحراء المجاورة للمشاركة في التقليد الصوفي الذي سيشغل باقي الليلة. وجلست أنا وإبراهيم متربعين على الأرض، ورحنا نتابع ما يجري بينما تمتلئ ساحة خاوية في قلب القرية بمزيد من الناس الذين تدفقوا من الصحراء، وقد نظموا أنفسهم في شكل مجموعات. ومضى بعضهم يتمايل إلى الأمام وإلى الوراء وقد امتدت أذرعهم إلى أكتاف جيرانهم، بينما جلس آخرون على الأرض وراحوا ينشدون بأصوات ذات إيقاع محبذ. استمر ذلك طوال ما بقي من الليل، وأحسست بالاندماج البالغ فيما يجري إلى حد أنني لم أدرك أنني امضيت ساعات طويلة بلا نوم، وكانت التجربة باسرها تبدو كحلم طويل، وفي اليوم التالي تناولنا جميعا طعام الإفطار معا، وبعد ذلك انطلقت أنا وإبراهيم الصلحي بالسيارة عائدين إلى الخرطوم. وهكذا انتهت تجربة الدعوة إلى زيارة رسمية للخرطوم، وتبين أنها أكثر إمتاعا بكثير مما تصورت أنه يمكن أن يحدث. وقد استمرت اتصالاتي بإبراهيم الصلحي بين الفينة والأخرى، حيث كنا نلتقي في إطار أمور تتعلق بالكتب والقصص التي كان الطيب صالح يؤلفها، والتي أسعدني أن أترجمها، والتي قدم إبراهيم الصلحي العديد من صورها الإيضاحية وأغلفتها. البيان