كان جيلنا الذي التحق بالجامعات السودانية في التسعينات شديد الإحتفاء بالحياة السودانية بعكس جيل الفضائيات الآن.. كنا نحرص على زيارة رموز الفن والسياسة والمجتمع والشخصيات المعاصرة في منازلهم ونتعرف على تجاربهم ونحاورهم وكانوا هم سعداء بأن يتواصلوا مع شباب في مقتبل العمر يعرفون عنهم الكثير ويودون معرفة المزيد. من هؤلاء النجوم عبد الدافع عثمان وابراهيم إدريس ود المقرن والتاج مصطفى والعاقب محمد حسن وعثمان حسين وصلاح محمد عيسى وكان صديقنا موسى مروح من أكثر الناس محبة لعبد الدافع عثمان وأيضاً الصديق المهاجر بالولايات المتحدة ابراهيم آدم سلوم والزميل صلاح عبد الحفيظ مالك الذي يعمل الآن بصحيفة (الرائد) وكان يدرس الترجمة واللغة الإنجليزية بالجامعة الأهلية ثم عاشق فن عبد الدافع المدنف ياسين عبد الواحد. ولد عبد الدافع عثمان فزع في العام 5291م لأسرة معروفة من عائلات العمراب بحي الموردة وهو من جهة الأم يتصل بالشاعر الكبير مبارك لمغربي والده عبده فزع من رجالات أمدرمان الذين عرفوا بالتدين والورع والتصوف وربما كان متصلاً بالسادة الأدارسة رغم أن غالبية العمراب ينتمون لطائفة الختمية وبعضهم سمانية ومن رموز الختمية مولانا ابوسبيب ومولانا درديري وعلى أي فان السادة الأدارسة هم أصحاب السند للطريقة الختمية فالسيد أحمد ابن ادريس المجدد الأكبر هو استاذ الختم في الطريق الصوفي.. في هذا المناخ كان من الصعب على عبدالدافع اختيار الفن والغناء لولا دعم خاله مبارك المغربي الذي تنبه باكراً لموهبته. حي الموردة نفسه كان مؤسسة فنية فيه الكاشف وفيه التوم عبدالجليل وابراهيم عبدالجليل وفيه محمود وعطا كوكو «ثنائي الموردة» وفي العباسية ابكار الموسيقيين السودانيين وسط هذا المناخ ترعرع عبدالدافع عثمان. المغربي راعياً من عبقريات المغربي انه كان كشافاً للمواهب فمن اولى الاغنيات الخاصة التي تغنى بها الشفيع مثلاً «الباسم الفتان احييت خيالي تعال صافيني ولا انت سالي» وهي من تجارب مبارك المغربي الاولى ولعله استوحى فيها لحن «الشال منام عيني وفؤادي جارحو» التي تغني بها الكاشف كذلك قدم مبارك المغربي لعبدالدافع «لحن الكروان» وهي الاغنية التي سمى عليها ديوانه الاول: غنيني يا كروان واصدح بلحن يا ملهم الفنان الهمت فني وفيها: ذكرتني حبي بعد التناسي وآثرت في قلبي دنيا المآسي والصب للصب نعم المؤاسي بين القمر والنور والجو لذيذ مخمور بين الحسان الحور يحلو التغني توالت رعاية المغربي لعبدالدافع فقدمه للاذاعة ورواية الثقاة ان عبدالدافع غنى في الاذاعة القديمة وعندما يقول أهل ام درمان الاذاعة القديمة فانهم يقصدون الفترة من منتصف الاربعينات وحتى منتصف الخمسينات «ظهور تسجيلات الريل» ومن اغاني هذه الفترة هبت نسايم الليل لعبدالمنعم عبدالحي وشكوى عاشق وغرامي. أريكة العرش لاستاذ الجيل محمود ابوالعزائم مقولة صائبة هي ان قمم الفن السوداني تختلف عن أهرامات الفن المصري ففي مصر قمة الموسيقى عبدالوهاب وقمة الأداء أم كلثوم وهكذا أما في الحياة السودانية فهذه القمم تجلس على أريكة أو كنبة مستطيلة فيها حسن عطية، الكاشف، عائشة الفلاتية، احمد المصطفى الشاهد ان هذه القمم كانت تتسيَّد ساحة الغناء فهي ملء السمع والبصر وهي قمم لا تعرف التسلل أو الدخول من الأبواب الخلفية تصادف حينها - أي منتصف الخمسينات - إضراب الفنانين الشهير احتجاجاً على ضعف اجور السهرات الغنائية وكان الاضراب قوياً وحازماً هدد الاذاعة فكان ان فتحت الاذاعة الباب واسعاً أمام الأصوات الجديدة فوضع جيل الخمسينات بصمته وحجز مكانه في خارطة الوجدان ووجد مقعده بين النجوم حتى بعد ان انتهى الاضراب وعاد الكبار الى الغناء ليجدوا ان مياهاً كثيرة جرت تحت الجسر ولا سبيل لحربها أو ازاحتها منهم «رمضان حسن، ابراهيم ادريس ود المقرن، عبدالدافع عثمان، عبدالعزيز داؤود وايضاً محجوب عثمان». مرت الايام ويوم البحيرة من روائع الغناء الخالدة لعبدالدافع «يوم البحيرة» لعلى أحمد باكثير ولعلها ترجمة عن الفرنسية لبحيرة لامارتين أو قل تعريباً لها وقد عكف على تلحينها الموسيقار عربي الصلحي وهو من الاساتذة الذين عملوا بوزارة التربية والتعليم وكان عازفاً بارعاً على العود بشهادة الموسيقار برعي دفع الله، وقد لحن أيضاً أغنية «مَرّت الأيام» بتلك الدائرية المحببة التي تصور دوران الذكريات والحياة والمعاني الانسانية في قالب تصويري بديع، ثم يتبعها بانتقالات خفيفة سلسلة: ذكراك ما ذكراك غير العذاب ألوان لو استطيع أنساك لو أعرف السلوان ما كان ملكني هواك يا ريت هواك ما كان ثم يكف اللحن عن الانسيابية الدائرية لقفزة مفاجئة اشبه بالصفعة المفاجئة: انساني آه... لو تنسى أضاف إلى كل هذه المعاني عذوبة صوت عبدالدافع ودفئه وحساسية المشاعر الممتزجة بالكلمات نفسها في نبرة تنم عن الهدوء والشجن ولمسة الحزن الخفية خلف سور اللحن والايقاع. من روائع عبدالدافع الاخرى «يا ملاكي» وفؤادي الذاكر وغيرها من الوجدانيات الوطنية.