حدد يوم الثامن من مايو المقبل آخر موعد…الإتحاد السوداني لكرة القدم يخاطب الإتحادات المحلية وأندية الممتاز لتحديد المشاركة في البطولة المختلطة للفئات السنية    منتخبنا يواصل تحضيراته بقوة..تحدي مثير بين اللاعبين واكرم يكسب الرهان    سفير السودان بليبيا يقدم شرح حول تطورات الأوضاع بعد الحرب    المدير الإداري للمنتخب الأولمبي في إفادات مهمة… عبد الله جحا: معسكر جدة يمضي بصورة طيبة    تحولات الحرب في السودان وفضيحة أمريكا    هيثم مصطفى: من الذي أعاد فتح مكاتب قناتي العربية والحدث مجدداً؟؟    ماذا قالت قيادة "الفرقة ال3 مشاة" – شندي بعد حادثة المسيرات؟    ترامب: بايدن ليس صديقاً لإسرائيل أو للعالم العربي    تواصل تدريب صقور الجديان باشراف ابياه    رئيس مجلس السيادة القائد العام للقوات المسلحة يتفقد مستشفى الجكيكة بالمتمة    إيقاف حارس مرمى إيراني بسبب واقعة "الحضن"    مدير شرطة محلية مروي يتفقد العمل بادارات المحلية    شاهد بالصور.. بأزياء مثيرة للجدل الحسناء السودانية تسابيح دياب تستعرض جمالها خلال جلسة تصوير بدبي    شاهد بالصور والفيديو.. حسناء سودانية تشعل مواقع التواصل برقصات مثيرة ولقطات رومانسية مع زوجها البريطاني    شاهد بالصورة والفيديو.. شاب مصري يقتحم حفل غناء شعبي سوداني بالقاهرة ويتفاعل في الرقص ومطرب الحفل يغني له أشهر الأغنيات المصرية: (المال الحلال أهو والنهار دا فرحي يا جدعان)    مخاطر جديدة لإدمان تيك توك    محمد وداعة يكتب: شيخ موسى .. و شيخ الامين    خالد التيجاني النور يكتب: فعاليات باريس: وصفة لإنهاء الحرب، أم لإدارة الأزمة؟    للحكومي والخاص وراتب 6 آلاف.. شروط استقدام عائلات المقيمين للإقامة في قطر    قمة أبوجا لمكافحة الإرهاب.. البحث عن حلول أفريقية خارج الصندوق    «الفضول» يُسقط «متعاطين» في فخ المخدرات عبر «رسائل مجهولة»    زيلينسكي: أوكرانيا والولايات المتحدة "بدأتا العمل على اتفاق أمني"    مصر ترفض اتهامات إسرائيلية "باطلة" بشأن الحدود وتؤكد موقفها    سعر الدرهم الإماراتي مقابل الجنيه السوداني ليوم الإثنين    سعر الريال السعودي مقابل الجنيه السوداني من بنك الخرطوم ليوم الإثنين    سعر الدولار مقابل الجنيه السوداني في بنك الخرطوم ليوم الإثنين    نصيب (البنات).!    ميسي يقود إنتر ميامي للفوز على ناشفيل    لجنة المنتخبات الوطنية تختار البرتغالي جواو موتا لتولي الإدارة الفنية للقطاعات السنية – صورة    بعد سرقته وتهريبه قبل أكثر من 3 عقود.. مصر تستعيد تمثال عمره 3400 عام للملك رمسيس الثاني    نتنياهو: سنحارب من يفكر بمعاقبة جيشنا    كولر: أهدرنا الفوز في ملعب مازيمبي.. والحسم في القاهرة    صلاح السعدني ابن الريف العفيف    أفراد الدعم السريع يسرقون السيارات في مطار الخرطوم مع بداية الحرب في السودان    بالصور.. مباحث عطبرة تداهم منزل أحد أخطر معتادي الإجرام وتلقي عليه القبض بعد مقاومة وتضبط بحوزته مسروقات وكمية كبيرة من مخدر الآيس    جبريل إبراهيم: لا توجد مجاعة في السودان    مبارك الفاضل يعلق على تعيين" عدوي" سفيرا في القاهرة    لمستخدمي فأرة الكمبيوتر لساعات طويلة.. انتبهوا لمتلازمة النفق الرسغي    عام الحرب في السودان: تهدمت المباني وتعززت الهوية الوطنية    مضي عام ياوطن الا يوجد صوت عقل!!!    مصدر بالصحة يكشف سبب وفاة شيرين سيف النصر: امتنعت عن الأكل في آخر أيامها    واشنطن: اطلعنا على تقارير دعم إيران للجيش السوداني    ماذا تعلمت من السنين التي مضت؟    إنهيارالقطاع المصرفي خسائر تقدر ب (150) مليار دولار    إصابة 6 في إنقلاب ملاكي على طريق أسوان الصحراوي الغربي    تسابيح!    مفاجآت ترامب لا تنتهي، رحب به نزلاء مطعم فكافأهم بهذه الطريقة – فيديو    راشد عبد الرحيم: دين الأشاوس    مدير شرطة ولاية شمال كردفان يقدم المعايدة لمنسوبي القسم الشمالي بالابيض ويقف علي الانجاز الجنائي الكبير    وصفة آمنة لمرحلة ما بعد الصيام    إيلون ماسك: نتوقع تفوق الذكاء الاصطناعي على أذكى إنسان العام المقبل    الطيب عبد الماجد يكتب: عيد سعيد ..    تداعيات كارثية.. حرب السودان تعيق صادرات نفط دولة الجنوب    بعد نجاحه.. هل يصبح مسلسل "الحشاشين" فيلمًا سينمائيًّا؟    السلطات في السودان تعلن القبض على متهم الكويت    «أطباء بلا حدود» تعلن نفاد اللقاحات من جنوب دارفور    دراسة: القهوة تقلل من عودة سرطان الأمعاء    الجيش السوداني يعلن ضبط شبكة خطيرة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



ماذا تعرف عن كرتونة منصور خالد السنوية التي يوطد بها صلاته ؟
نشر في الراكوبة يوم 20 - 04 - 2016


[email protected]
حديث السيرة والإنجازات :
ذكرت في الحلقة الأولي أنني بصدد نمط من التسجيل الحكائي لتجربة شخصية محضة تطبعت بمرافقة لصيقة أمتدت لأربعة عقود مع رجل بني لنفسه صيتا في الشواهق . قلت أن هذا النمط الشخصاني من التدوين مغاير تماما لما ألفته من كتابات توثيقية تلهث وراء تجميع الادلة ، ومن ثم ، تستنطقها وفق منهجية المخبرين الصحفيين Investigative reporters وإستطرادا، فقد جزمت بأنني لن أناقش بشكل محوري فكر الدكتور منصور خالد ، ولا أطروحاته أو فلسفته أو تجربته في العمل العام ، فتلكم مُعَاوَرَةٌ لها أهلها . وتعهدت بأن تناولي لتلك الجوانب ،إذا ماتمّ ، فسيكون إنتقائيا ولن يتعدي القشرة الخارجية دون النفاذ لما دونها من اللجج الزرقاء . فالهدف من هذه الحلقات هو مرافقة سِّرَاجُنا نستصبح به مغارات منصور وعوالمه الواقعة في النصف الآخر بالنسبة للعين العامة ، وسميته نصفه الظليّ المعتم . بيد أن نفر كثير إستنكف عليّ هذه المنهجية الإنتقائية ، وألحّ كثيرون بأن أعرّفهم ببعض إنجازات الدكتور خلال سني إستوازره . ولما كان هدف هذه الحلقات هو زيادة حصيلة المعلوم العام عن شخصية جدلية ، بما قد يسهم في فهمه أكثر ، فلم أتبين تضادا مابين تلك الرغيبة ومرامي الحلقات . وعليه سأعرض أدني هذا المقال بعضا من سيرة إنجازاته دونما الإخلال بهدفي الأصلي كأن تتحول الحلقات لتصبح عرضحالا ملتحقا بحواشي ويكيبيديا، الموسوعة الحرة أو "ريزوميه " متطفلة وبلهاء عن رجل يجيد قالته عن نفسه .
أكبر أسرار منصور : كرتونة ( نيمان ماركوس ) للتواصل مع الفرنجة
في مجافاة تامة للطبع السوداني غير المكترث بالتفاصيل ، فإن لمنصور ولع بالإستعداد المبكر والتخطيط الشامل . يعكف علي الأمر فلا يترك ألِفاً إلا وهمّزها ولا ثاءاً إلا وثلّث نقراتها . ينهمك في جزئيات التفاصيل ويظل يغوص ويغوص في الجزئيات حتي يبلغ المايكروسوبي منها . هذا حاله في مكتبه وفي بيته وحيثما تواجد . خذ مثلا طرائقه في التواصل مع من صادف وعرف ولو في حفل إستقبال عابر لم يتجاوز تبادل "البزنس كارد " .إن إهتم منصور بمالك الكرت فسيطلب من سكرتاريته تبويبه ضمن شبكة قاعدته البيانية للمعارف صبيحة اليوم التالي . بعدها ، ولسنوات قادمة ، ستتجلي براعته في شد من أضاف لتحضُرِه تسنده غزارة في التفقه في طقوس المناسبات وإلمام موسوعي بثقافة الناس ، عربا ورطّانة ، فرنجة وعجما ! فمع حلول الاسبوع الاخير لشهر نوفمبر من كل عام ، يطرق بابه حمّال البريد لتسليمه شحنة كرتونة قادمة من أعالي البحار ، رأسا من فرع متجر (نيمان ماركوس ( Neiman Marcus بحي جورجتاون الراقي بالعاصمة واشنطن . الكرتونة محشوة بالتصميم الكلاسيكي الزاهي لبطاقات التهانئ بالكريسماس وفقا لمنصوصات عقد منصور مع المتجر زالذي ظل يتجدد تلقائيا لعشرات السنوات . ميقات قدوم الكرتونة في دقة الساعة السويسرية ، أو هكذا يريدها . تزخر الكرتونة ببطاقات معايداته السنوية البيضاء الانيقة ، المذّهبة الأطراف يتوسطها إسمه محفورا وكأنه بابا الفاتيكان ! ...إن وصلت الكروت قضي قرابة الإسبوعين في تعبئتها بخط يده بمايريده من كلمات قليلة جدا، حسب المُرسل إليه ، ثم يشخبط إمضاؤه ...فيثقل الكرت بشحنة موقوتة من الحميمية يريدها أن تنفجر في وجه الهدف فتفاجئه عندما يصل الكرت لعنوانه . إذن ، من سينسي منصور وقد دأب علي هذه العادة السنوية لجموع مؤلفة من البشر في أركان الدنيا ؟ يدفع بقنابل مودته المحمولة بريديا مبكرا في ديسمبر لتضرب أهدافها قبل يوم 25 ديسمبر ! ...يفعل ذات الشئ ببطاقات عربية ذات زخرفات مغربية تُفرح العين وإن أعيتها الزغللة . يدفع بها في المناسبات الإسلامية لصحبه من الشخصيات العربية التي نشاهدها في التلفاز من رؤساء ووزراء وملوك وأمراء وكتاب وصحافيين وأدباء وبرلمانيين وغيرهم . وله فئة أخري من البطاقات المخصصة لأصدقائه المسيحيين من ملة أقباط الكنيسة الارثوذكسية الاثيوبية والتي تتأخر أعوامها مابين 7-8 سنوات عن التأريخ الجورجي المعتاد . أيضا ، يبعث لهم في الهضبة الأثيوبية مهنئا بميلاد "مسيحهم ". وفي يوم آخر معلوم ، هو 21 مارس، تتطاير كروته من شنط سعاة البريد في شوارع ايران وتركيا تحمل تهانيه وتبريكاته لأصدقائه هناك بعيد النيروز ، أول أيام التقويم الشمسي الهجري . بعد كل هذا الجهد الإنتقائي من التواصل المتمدن هل تبينت سر إعتقاد كثير من سكان هذا الكوكب أن السودان يسكنه رجل واحد إسمه منصور خالد ؟ للقيام بهذا الجهد وغيره ، يتوفر منصور علي سكرتارية منزلية متكاملة ومن الجنسين . يختار أفراد فريقه وفق مواصفات عالية من الاداء والانضباط المهني ،( باستثناء عم عبدالرحيم الذي إستفاد من تقدم عمره في معالجة السعار والشوق المزمن للونسة السودانية جراء مرافقته الدائمة للدكتور مابين واشنطن ولندن وكينيا ، فتجاوز البروتوكول وترخص في الونسة مع الضيوف السودانيين المترددين برتابة علي الدار ، فبادلوا بساطته بود ومحبة ) . لن تر في هذا الكادرالوظيفي المنزلي سائقا متسيبا أو مضيفة متراخية المهنية أو سكرتيرا لا يستحق لقب "مساعد "
منصور والحكام العرب ..ندية أوجبت الاحترام : الكويت نموذجا
مدخلي لهذه الجزئية سيكون عبر الصورة التي ترونها ، ففيها يظهر الصديق العزيز (الطالب آنذاك ) جمال محمد صالح حمد الذي ترأس جمعية المحاسبة بجامعة الخرطوم عام 1975. وأنت تشاهد هذه الصورة ومايلي من حديث سيكتمل سياق المقارنة لو إسترجعت 3 صور ذهنية أولها موقف هذه الحكومة المخزي من حرب الخليج وثانيها خروج أمير الكويت من قاعة قمة شرم الشيخ في مارس 2015
http://www.alrakoba.net/news-action-show-id-186509.htm
عندما صعد الأسد النتر للمنصة وثالثها ماجري لضيوفنا من الطلبة الحربيين الكويتيين قبل يومين . زارتنا جمعيته بجامعة الكويت تلبية لدعوة كريمة من نظرائهم بجمعية المحاسبة . كنا قلة قليلة لا تتجاوز العشرة طلاب من السودان من منتسبي الجامعة فشاركنا إدارة الجامعة في ترتيب مايليق من إحتفالات متصلة . المفاجأة أن عمادة شؤون الطلاب التي ترأسها أستاذي " الكويتي " الراحل الدكتور سيف عباس عبدالله ، وكان متفردا في حبه للسودانيين ، إتصل بالديوان الأميري وإقترح عليهم التكرم بتهيئة الفرصة لوفد الطلاب السوداني لزيارة أمير البلاد قبل مغادرتهم. وفي ذات اليوم جاءت الدعوة من الأمير شخصيا وتم إبلاغها لرئيس الوفد الدكتور عثمان رحمة الله ! قابلهم الأمير الراحل صباح السالم الصباح(1977) وصافحهم فردا فردا وتحدث لهم حديث الوالد لأبنائه مرحبا بهم في سوق العمل بالكويت متي ماشاؤوا . لم يطلبوا شيئا ، ولم يرجع منهم أحد ليعمل بالكويت ولم يتركوا أوراق سيرتهم الذاتية خلفهم وكلهم كانوا علي أبواب التخرج ! تلكم كويت بادلتنا حبا بحب ، عرفتنا عبر مرآة الراحل اللواء أحمد الشريف الحبيب الذي قاد القوة العربية المشتركة في 1961 للزود عنهم عندما هددهم عبدالكريم قاسم وقرر ضمهم للعراق . تلكم كويت تعرفت علي نبل وسجايا الدكتور خليل عثمان محمود ، رحمه الله وأحسن اليه وخَبَرت أمانة الراحل محمد المأمون أحمد ، المدير العام للخليج العالمية الذي جرت من بين يديه أموال أسرة صباح الأحمد الصباح ، فما إمتدت يده لأكثر من راتبه الشهري . وتلكم كويت تقلّد فيها السودانيون أعلي مراقي الوظائف في صناديق التنمية وأصبح السوداني هو خيار الوسط وضامن النجاح كما حدث في حالة السفير السامق الخلق والمقدرات ، مأمون إبراهيم حسن ، الذي "إستلفوه " من سفارة السودان ليدير المؤسسة العربية لضمان الإستثمار . فإنتشلها من فادح خسائرها الي تحقيق أرباح مليارية فأدارها لما يفوق العقدين بهمة ونجاح تعاونه كوكبة من الاقتصاديين والقانونيين السودانيين . بلغ الاساتذة في الجامعة أكثر من 60 أستاذا وبعدد يقل من الطيارين وهم ممن وثقت فيهم الكويت فجعلت كل الطاقم الملاحي لطائرة الأمير ( الجابرية ) من السودانيين فقط ، أما الاطباء وغيرهم من المهنيين فإشتهرت بهم جاليتها الأكثر تميزا من بين كل الجاليات السودانية رغم أنها لم تتجاوز 65 ألف نسمة . هندست خارجية منصور خالد هذا التقارب مع الكويت فأوعزت لهم بدعم سلام أديس أبابا ، فأرسلوا دبلوماسيا كويتيا لأدغال الجنوب في عام 1974 لإفتتاح مكتب دولة الكويت بجوبا وهناك تعلم الدبلوماسي الرطانة وعاش لعشرة سنوات حتي أسموه عبدالله جوبا قبل أن ينتقل سفيرا لدولة الكويت بالخرطوم ، رحم الله السفير عبدالله السِرّيع رحمه الله رحمة واسعة .
منصور خالد .... بشراك ياوطن بالندية الكاملة والكرامة الأكمل
ماعلمت يوما أنه سخّر علاقاته الوطيدة بكثير من الحكام والأثرياء لمصالحه الذاتية ، بل رأيت معاملته لهم مفعمة بالندية ، تخللها يوما ظرف بائن ونكتة حاضرة بينما غلب عليها الترفع في غير إستطالة والبساطة في غير خنوع وقبول بالمذلة . تشخص في الذاكرة ، وبشكل خاص ، إحدي زياراتي الإجتماعية لدار الدكتور منصور بمقاطعة باثيسدا بولاية ميرلاند في أمسية عادية . كان لا حديث للعالم في مايو 1979 سوي أزمة الطاقة المتفجرة وصفوف البنزين ، فقد قلبت خلخلة عرش شاه إيران يومها موازين العرض والطلب في هذه السلعة الإستراتيجية التي تجبن ناقلاتها من من فرقعة إطار مورتر بالشارع العام فتحسبه مهددا للملاحة بمضيق هرمز ! كان منصور خالد زميلا مشاركا مع كبار الاختصاصيين بمعهد ودروولسون للباحثين العالميين في واشنطن . وأنا في معيته ، رن جرس الهاتف وتحدث لبضع دقائق أبلغ فيها المُتصل بالتفضل عنده بالبيت إذ لا نية له في الخروج ، ختم المحادثة بوعد ( مش مشكلة ، سنبحث الأمر) . وبعد نصف ساعة إنفتح الباب الخارجي فعبر منه سيد الطاقة في العالم ، وزير البترول السعودي الشيخ أحمد زكي يماني . وفي حميمية بائنة سبقته لهجته الجداوية المميزة للصالون وهو يخطو لداخل الدار ( يامنصور يامنصور فينك ياحبيبي ، ياأخي قولي كيف أتفك من الاعلام ؟ ) . إذن علمت سبب الزيارة ....ولذا ، فقد جاءه يسعي ! حيت الضيف القادم للمشورة ، وإنصرفت فورا . كنت أعلم من صحف ذلك الصباح تواجده الشيخ اليماني ببوسطن لحضور حفل تخرج بنته ( الدكتورة الان ) مي أحمد زكي يماني ببكالوريوس من جامعة هارفارد. لم يحتج منصور إلا لخياله وموضوعيته ليقيم واحدة من أكثر الندوات إكتظاظا بالحضور الصحفي والتشريعي طيلة سنوات حضوري لندوات مركز وود رو ولسون . فبإسم المعهد توزعت بطاقات الاعلان والدعوة لندوة يتحدث فيها أحمد زكي يماني ، الدكتور حسن الترابي النائب العام بجمهورية السودان والمفكر المغاربي الفرنسي محمد المعلا ومنصور خالد وكان موضوعها الثورة في إيران وتداعياتها علي إمدادات الطاقة والعالم الإسلامي .وهناك وجد اليماني ضالته فخربش في حواشي موضوع الندوة ، وعمل بوصية صديقه ، فإهتبل الفرصة ليعرض لتفاصيل الذي يجري بسوق النفط من وجهة نظر المنتجين في منظمة الأوبيك . دافعا التهم عن بلاده بتقصد شح الانتاج أو عدم الاكتراث بمعاناة المستهلكين في الغرب . فإستعرض برشاقته لكنته الإنجليزية الهادئة وطلاقته المعرفية المسنودة بالارقام أوضاع المصافي وقدرات الانتاج القصوي المتاحة لكل بلد في كارتل الاوبيك . لم يترك يماني المايكروفون يعبر من يده إلا بعد تأكد بأن غالبية الرؤوس في القاعة المكتظة بدأت في الإهتزاز بالموافقة علي طلبه في شقيه : ضرورة ترشيد الإستهلاك في بلدان الغرب وعدم التهور سياسيا أو عسكريا بالتدخل في معالجة الوضع الإيراني كما حدث في 1953 عندما رتبت أمريكا كارثة الانقلاب علي حكومة مُصدق . إنتهي ، ورأيته ينظر بركن عينه الي دكتور منصور خالد في منتصف الطاولة ، وقد إنفرج فمه ببسمة ناطقة كأنها تستجدي التقييم " إيش رأيك يامنصور ؟ ..فهز المعلم رأسه حتي بانت صلعته .
وزراء الغفلة واليد الممدودة بالشحدة
عرفت ولسنوات طويلة أن لمنصور صديق عُرِف عنه أنه لا يَكِل ولا يمل من مجالسته لساعات طوال هو سمو الشيخ صباح الأحمد الجابر الصباح ، أمير دولة الكويت الحالي . عمل أبوناصر وزيرا لخارجية بلاده بما إجماله 40 عاما الي أن ترأس مجلس وزرائها لثلاثة سنوات ثم تقلد منصبه الحالي أميرا لدولة الكويت منذ 10 سنوات . ماقولكم إن علمتم أن منصور إنصرف عن زيارات الكويت فور تعاظم مسؤوليات صديقه ؟ ويقيني لو أن فردا من لصوص هذا العهد تهيأت له هذه الفرصة لأصبح عنوان سكناه البريدي ( قصر السيف العامر - الصفاة دولة الكويت ) ! أما صديقه الشخصي الآخر الأكثر قربا فهو الشيخ حشر بن مكتوم آل مكتوم، مدير دائرة إعلام دبي الذي كرمته جائزة دبي الدولية للطباعة وإختارته شخصية العام 2014 لمساهماته الاعلامية التي لا تخطئها العين في هذه الإمارة اللانفطية والتي غدت نموذجا لما تفعله دراسات الجدوي بالخيال الباسط والقيادة الجادة .
علم منصور خالد أن الاحترام الذي بناه لنفسه أساسه المنصب العالي الذي شغله ، وحجم البلد الذي بإسمه كان يتحدث والخُلق القويم والسلوك النبيل الذي عُرف عن شعبه والعلم الذي زيّن عقله ..بعد كل هذا أي مغامر أحمق سيمد يده يطلب أتعابا عن جهد؟ ومِنْ مَن ....من العرب ؟ لم يحصل علي مليما أحمرا منهم ليس لأنه لم يعطوه ولكن لأنه لم يسأل ، ولن يسأل لأنه يعلم يقينا أنه لو فعل ، فعليه يودع الندية بقبلة حري من كان يجالس !! ولعلنا نحمل هذا السرج المطرز بالكبرياء وعزة النفس لوزير خارجية إسمه منصور ونركبه علي ظهر ثور آخر ظل ذات يوم بالرياض مرابطا لثلاثة أيام في إنتظار 250 الف ريال هي حصيلة "شحدة " من الأمير فيصل بن عبدالله بن عبدالعزيز الرئيس الحالي للهلال السعودي . ندم الوسيط علي التوسط ، وتضجر الأمير الذي لم تجدي كل أحاييله من الافلات من هذا المبعوث الرئاسي الانقاذي الذي تعمل من طب أسنانه إحكام اللصق ، فأرسل المبلغ ومعه رسالة شفاهية تضج بمحتوي نادر من التقريع ( تري هذي آخر مرة ) !! ألأ يستحق راعي الأنعام (الطيب يوسف الزين) تمثالا في قلب القصر الجمهوري ليذكر شاغليه ومن يختارونهم للوظيفة العامة ، ويمكنونهم من أمرنا ببعض مما كنا عليه قبل شعار (أعادة صياغة الإنسان السوداني ).
بعد إكمال الدكتور منصور خالد لدورته البحثية في عامه بمعهد ودروولسون طوي عفشه من داره الفخيم في مقاطعة "بثيسدا" بولاية ميرلاند في 1980 منتقلا الي دارة الجديدة في "جُبُلي بليس" في لندن . ورغم رحيله عن واشنطن إلا أنه ظل زائرا مواظبا فأكثر من نصف زياراته للعاصمة دي سي كانت ذات أهداف بحثية محضة في مكتبة الكونغرس ، تخللتها جلسات تنوع حضورها عبر السنوات بيد أنهم ظلوا من صفوته الدائمين يتعمر بهم مجلسه . تقدم هؤلاء دوما توأم روحه الرشيد عثمان خالد ، السفير صلاح عثمان هاشم والإقتصادي الفطحل الطيب حسب الرسول الكوقلي ، والجنرال بكري المك موسي ، العلامة فرانسس دينج ، الدكتور عبدالعزيز بطران ، السفراء أحمد يوسف التني وأحمد جبارة الله ، محمود تميم الدار ، عاقل عطا المنان وخبراء البنك الدولي الأعزاء الدكاترة ابراهيم البدوي وسلمان سلمان وشباب الخارجية النابهين عصمت قباني ، محمد أمين الكارب ، أحمد حامد وأسامه نقدالله وكوكبة الاصدقاء كمال عبادي ، حاتم عبادي والقيادات الطلابية بجامعة الجزيرة عادل علي صالح وطارق الشيخ ..وكثير من رهط كريم تعطرت بهم ليالي الأنس وجلسات الباربكيو السياسي فيهفون للقياه وينشرح في مجلسهم
أبرز أصدقاء منصور بأمريكا ، كيف أصبح الرئيس بوش صديقه ؟
لم يمتهن منصور خالد الدبلوماسية فقط ، لكنه ورث منها أكبر صداقاته الامريكية . في ظني أن أقرب علاقاته الخاصة كانت مع الرئيس السابق جورج بوش " الأب" وزوجته باربرا. يلي آل بوش السفير الراحل روبرت أوكلي وزوجته السفيرة فيلس أوكلي ، التي عملت مساعدة لوزير الخارجية لشؤون السكان واللاجئين والهجرة 1994 1997 ، ثم انتقلت مابين 1997 والي 1999 لتصبح مساعدة للوزير لشؤون الاستخبارات والبحوث . هذا بالبداهة لا يلغي صلاته القوية جدا بعدد كثير وقائمة تطول من الدبلوماسيين والسفراء ورجال الكونغرس الذين عرفهم منصور خالد عبر السنوات . فمثلا ، سر علاقاته بجورج بوش أن منصور خدم لعام كعضو بمجلس الامن الدولي ( إبان ماكان مندوبا دائما، أغسطس 1970 -أغسطس 1971 ) قبل تعيينه وزيرا للخارجية في المرة الاولي ( أغسطس 1971 يناير 1975 ) . في نيويورك زامل السفير الامريكي الدائم بالامم المتحدة انذاك ، جورج بوش الاب ، في عضوية مجلس الأمن . ثم توطدت العلاقة عندما أصبح وزيرا لخارجية السودان بجولات ماكوكية لحضور فعاليات الجمعية العامة . عمل جورج بوش بالامم المتحدة لعامين ( 1971-1973 ) قبل أن ينتقل للصين كأول سفير لأمريكا هناك بعد سنوات من زيارة نيكسون لبكين في 1970 والتي قلبت موازين القوي الدولية . تجدر الاشارة الي أن منصب السفير الامريكي بالامم المتحدة هو منصب وزاري ويحضر شاغله الإجتماعات الوزارية جنبا الي جنب مع وزير خارجيته الذي، بداهة ، يترأس سفيره الدائم في الظروف العادية . توطدت علاقة د.منصور خالد بجورج بوش وزوجته باربرا لأقصي الحدود مما جعل بوش يستضيف نميري إستضافة نادرة لتناول طعام الغداء معه في عام 1976. وللاستدلال علي قوة علاقة منصور خالد بأسرة جورج بوش ، أن السيدة الاولي باربرا بوش ( 1988-1992) كانت تحرص علي مقابلته كلما مر عبر واشنطن لإنشغال جدول زوجها الرئيس ، وكانت دعواتها المفضلة له هي تناول شاي المساء معها بالبيت الابيض
.
نأتي الآن للنصف المتبقي من هذا لمقال
73 شهرا من الإستوزار ، حصادها شواهق من الانجازات
إن أردت التعرف علي إنجاز بعينه دون الخوض في حِذْفاره ، فستجد ضالتك في جدول الجمع والطرح لما قضاه من وقت في مناصبه الوزارية . سيلفت نظرك أنه وبرغم مرور47 عاما من مشاركة منصور في أول منصب وزاري مع جعفر نميري ، إلا أن إجمالي مناصبه التنفيذية كلها لم يتعد 6 سنوات وشهر واحد ! وستتيقن أكثر أن سر إنشغال الناس بهذا الرجل وسيرته ينطوي علي خاصية ليس من بينها إستعماره للوزارات وإنما توفره علي لمسات الملك مايدوس السحرية التي تحيل كل شئ لذهب خالص ، فما أن يغادر منصور كرسي الوزارة حتي تتكور وتشرئب من خلفه إهرامات فعائله . فللمقارنة ، مثلا ، هل سمعتم من ذكر مكرور للراحل الرشيد الظاهر بكر وقد ظل يدور ويتقلب في خلاطة المناصب كشاحنات الكونكريت بضعف ما قضي منصور في المجمل ؟ فقد أصبح الرشيد وزيرا للعدل في بواكير مايو وترفع ليصبح رئيسا للوزراء في 1976 فرئيسا للبرلمان ثم نائبا لرئيس الجمهورية بل ووصل مع قطار مايو حتي محطته الاخيرة عند الانتفاضة في أبريل 1985 كمساعد لرئيس الجمهورية للشئون القانونية والسياسية ، وفي المقابل نجد أن إجمالي سنوات منصور خالد في كل وزارات نميري الثلاثة ومساعدته لرئيس الجمهورية لثلاثة أشهر لم تتجاوز 73 شهرا تقريبا !! إستوزره نميري ، بدءا ، في وزارة الشباب والرياضة ( يونيو 1969-أغسطس 1970) ، تلاها ترؤوسه لوفد السودان للدورة 25 للأمم المتحدة ومندوبا عاما من أغسطس 1970 -أغسطس 1971 ، التي مهدت لتوليه حقيبة وزارة الخارجية لمدة ثلاثة أعوام وخمسة اشهر في المرة الأولي (أغسطس 1971- يناير 1975)ثم وزيرا للتربية والتعليم مابين1976-1975 ، ثم لأشهر مساعدا لرئيس الجكهورية للتنسيق ( 1976يناير 1977 ) ثم عودة قصيرة جدا للخارجية لأقل من عام من ييناير 1977والي نهاية دوامه الرسمي فيها يوم 15 سبتمبر 1977 ، قبل أقل من إسبوع من إنعقاد الدورة 32 للجمعية العامة للامم المتحدة ( 21 سبتمبر -20 ديسمبر 1977 ) . عامه اليتيم في وزارة الشباب والرياضة المستحدثة ، ربما يوفر المعيار الأصدق للحكم علي خياله المهني . فهذه الوزارة ليست من موروثات الإدارات الوزارية فقد إستحدثها نظام مايو وتركوا للدكتور منصور مهمة إستنهاض روحها من العَدم فقد آمنوا بقدراته علي الحواء في "حواراته مع الصفوة " . في أقل من عالم أصبح خياله الإداري هو المُلهم فيما إشترع من لوائح ، وهندس بأمره ونفذ ما عَنّ له من برامج . وفجأة ، دبت روح لشئ جديد لم تألفه شوارع المدن والميادين العامة في في ربوع السودان . فقد وّدع شباب كتائب مايو "نومة الضُهر" وإنتسبوا في حصص تدريب عامرة بالطوابير والعرق والغبار فتفايضت جموع الشباب والفتية والصبايا في الطرقات بزيهم الكاكي وشاراتهم الكشفية الزاهية . تراهم حيثما تيممت : يعبرون الشوارع ، ينتشرون في الأحياء ، يكنسون الأزقة ينفضون عن الوطن مخلفات السنين ، ينظفون ، يغنون ويتناغمون بما يشبه نفير الحصاد . وفي دور الشباب مساءا خرجت براعم المواهب من أكمامها ، فلعلعت المايكروفات وصدحت بالاوبريتات فيما إزدهر المسرح بإبداع لانظير له فتخرجت أجيال من الموسيقيين والمسرحيين فعملت جنبا الي جنب مع الشخصيات المتحفية ، " العجب أمو " و"ود أب قبورة " وأبودليبة وبت قضيم و" كرتوب ". أصبح لدينا مسرح طوّاف حمله الراحل الفذ أبو المسرح الحديث ،الأستاذ حمدنا الله عبدالقادر الي مدن السودان المختلفة عارضا مسرحية خطوبة سهير . في أوائل السبعينات ، ومنصور خالد وزيرا للشباب والرياضة ببدلاته الشارلستونية المقصبة وكرفتاته المتعددة الالوان ، يفتح الباب عريضا أمام أهل الثقافة والأدب لنبش مطمور الهوية السودانية والتعرف عليها ، فتناول معهم المعاول وإنهالوا بها علي مضامين دفينة يتلوي فيها اللسان بغنج : أركيولوجي ، أنثربولوجي ، ديموغرفي وهستري وجيوغرفي . أيضا ظهرت جماعات ذات طرح مغاير ومشوق مثل أباداماك ومجموعة الغابة و الصحراء بل وحتي " البريفيريون " الثائرون علي المركز وهم أهل مفهوم أنجب لاحقا مسمي المهمشين .
في 1970 تعقدت حياتنا وتفلسفت لكنها صارت أمتع .
سقطت تابوهات كثيرة وتسامح المجتمع مع زخات التجديد المتلاحقة ، ففتح بشير عباس وبنات أسرة مربي الاجيال طلسم أبواب الغناء المحترف ، وصفق الناس لمواهب الأطفال وعبده الصغير وإمتلأت قصور الشباب ومراكز الشباب بطاقات متفجرة من الإحتفاليات شبه اليومية وسجلت ريشة الراحل عزالدين عثمان هلع الأمهات بعد أن صنع أولاد الاكروبات من حبل الغسيل جادة مرصوفة للمشي . في كرة القدم ، ومنصور خالد مزهوا في منصة كبار الزوار ، إستضافت الخرطوم القمة الكروية الافريقية وأحرزت كأسها لأول مرة وعقرت لخمسين عاما . نازل فريقنا القومي أثيوبيا يوم 6 فبراير 1970 فسجل جكسا وقاقرين وحسبو الصغير ثلاثية أهداف - صفر لأثيوبيا . وبكي الناس كالايتام في الشوارع عندما خطف لاعب ساحل العاج تاهي النصر لفريقه في الدقيقة 89 يوم 8 فبراير وفي يوم 10 فبراير سهرت الخرطوم حتي آذان الفجر فرحة بهدفي جكسا وحسبو الصغير في مرمي الكاميرون مقابل هدف لهم . تصدرنا المجموعة ، وجاء الدور علي محمد البشير الأسيد فأحرز هدفين في مباراة الاعصاب الخالدة ضد حبيبتنا اللدودة مصر بعد أن ظلت صفرية الي قبل النهاية بسبعة دقائق . أحرز الاسيد في الدقيقة 83 ثم عادل لمصر أسطورتها الكروية الشاذلي في الدقيقة 84 ، ثم حسم الاسيد الأمر في الزمن الاضافي عند الدقيقة 102 فأحرق آمال مصر في البطولة . بكي المستكاوي فنططنا وشمتنا ! وجاء النهائي في 16 فبراير 1970 غصت شوارع الخرطوم بالبشر من كل فج عميق وماخذلهم فتيتها الأماجد فأحرز حسبو الصغير هدف الفوز بالبطولة علي غانا في الدقيقة 12 من عمر المبارة ، فبكي طه حمدتو في المذياع وربما علم أن ذلك الفوز بالبطولة الأفريقية سيكون هو أول وآخر مجد كروي قاري للسودان . كل هذا الحراك المجيد ، وأضعافه صنعة الرجل في أقل من عام !
خارجية منصور خالد وماأدراك عن خارجية منصور خالد ....
ذهب للخارجية فقلب عاليها سافلها ونفضها نفضة من لا يقبل إلا بالبرنجي .
فرغم مرور كثير من نوابغ السودان قبله علي كرسي وزارة الخارجية ، رجال بوزن محمد أحمد محجوب ومبارك زروق وغيرهم ، إلا أن منصور تبين قصورا هيكليا ، بل مخجلا ، في وزارة الخارجية . فبعد 15 عاما من إستقلال السودان ، والذي صادف عامه الاول كوزير للخارجية ، كانت وزارة أكبر بلد أفريقي تعمل بلا إدارة أفريقية ! نعم هو العوار بعينه . توفرت خارجيتنا علي إدارة للأمريكتين ، رغم بعدهما الجغرافي وضمور أهميتهما في متشابكة العلاقات الاستراتيجية ، وخلت من إدارة أفريقية تدير شأننا مع أفريقيا ؟ شرع الرجل في إستقدام أهل العلم التخصص . فعهد للبروفسور العلاّمة محمد عمر بشير ، رحمه الله ، في عام 1974 بمهمة إنشاء أول إدارة أفريقية بالوزارة ، فدفع السبة والعار عن السودان المتنعم بأفضال الجغرافيا الأفريقية والمؤسس لمنظمة الوحدة الافريقية ظهيرة 25 مايو 1963. كانت تلك الإدارة أول وشيجة أفريقية تطل عبر منافذها وزارة الخارجية السودانية علي محيطها السكني وجيرانها الافارقة البالغ عددهم آنذاك اثنين وخمسين دولة . !!
هذه الصحوة والاستلهام المستحق للأدوار الافريقية المفترضة للسودان جعلت دكتور منصور يرثي صديقنا الراحل الموسوعي الدكتور عبدالعزيز بطران بدمع هتون ( وسنعود لحبيبنا بطران لنتحدث عن بعض مناقبه ) مستفيضا في مرثيته التي أورد في جزئية منها ، مانصه " صفات بطران الشخصية ومميزاته الفكرية تلك حملتني إبان تَوليَّ أمر الدبلوماسية السودانية على أن أنشد عونه مع آخرين من ذوي الدربة والقدارة من داخل وزارة الخارجية وخارجها. طمعت في أن يتولى بطران الإشراف على إدارة إستحدثتها يومذاك وأسميتها إدارة الرصد والتنبوء (Monitoring and Forecast). لا أدري كيف كان البعض سيستقبل هذا الإسم في زمان أصبح فيه نشر خريطة البروج (horoscope) في أحدى الصحف مُنكراً حُملت معه الصحيفة الناشرة، تحايلاً على نشر ذلك المنكرس : ز س. هؤلاء لأسموها إدارة الرجم بالغيب. رجماً كان أو لم يكن، إستهمتني يومذاك القضايا ذات الطابع المستقبلي: كينيا بعد كينياتا، أثيوبيا بعد هيلاسلاسي) .
لن يكفي هذا المقال لتعداد مافعله منصور خالد بالخارجية فقد أعاد صياغة شكلها ومضمونها وألّف لها إنجيلها المقدس . لم يترك شاردة للظروف أو واردة للصدف فحدد ، ومن نفخة الصافرة لتِيْتَها ، أسس إختيار الدبلوماسي ، فرسم مايلزم توافره فيه وناهض السلوكيات المضرة بدقة وأعطاها وزنا كبيرا يتجاوز الدرجات العلمية المتميزة التي مثلت أولي مراحل العبور لوظيفة السكرتير الثالث . لم يغفل منصور شيئا، فإنشغل باله حتي بالتركيب النفسي للطلاب المتقدمين . جعل القدرة علي التكيف في عوالم الوظيفة الدبلوماسية والقدرة علي الإنصهار والتناغم مع الشعوب والثقافات المغايرة ضرورة مفصلية ، وأرادها ضمن مايستوجب محددات قياسية . فالوظيفة الدبلوماسية ليست في بساطة التوقيع علي دفتر الحضور والانصراف أو التوقيع علي سيرك الوارد اليومي ، وإنما تتطلب مواهبا ومقدرات ، طبيعية ومكتسبة ، لا تأتي معية شهادة البكالوريوس كأكسيسوريز ! أستجلب منصور في لجان المعاينات علماء تنوعت تخصصاتهم لإقامة هذا الميزان القياسي العلمي المعياري ، ذهنيا وعقليا ونفسيا . يصعد عليه كل الطلاب المتقدمين في إستواء حتي تبين سنتمتراتهم . ففي تلك المعاينات جلس أساتذة العلوم السياسية منكبهم الي إختصاصي الإدارة والموارد البشرية في محاذاة الدكتور حسبو وطه بعشر أطباء المجانين والمختصين بالصحة النفسية !
إبن السودان والنفس الأبية
شهدنا ، ونشهد يوميا ، في هذا العهد ضروبا من العجب المتمثل في قوة العين وقلة الحياء في النهب العلني باستخدام صلاحيات الاستوزار . تكفيك نظرة لصور الوفود الوزارية ، وطريقة الجلسة وحركة الأيدي ، في حضرة من يقابلونهم من الأجانب فتنطق الصور الصماء بلسان وشفتين وتنبئك بما يدور ! . خارجية منصور خالد كانت عنوانا للسلوك الدبلوماسي المنضبط وذات لوائح تفيض بإسهاب وتفصيل لا يغادر شيئا ، من الهندام وحتي كيفية الاكل بالشوكة والسكين ، وتشدد علي التابوهات والممنوع في كتيب أسموه في الخارجية (الكتاب الازرق) . أما خارجية العراريق والمظهر البئيس والسكن الرخيص والمتاجرة في كل شئ ، فقد جعلت تصرفات وثقافة وتأهيل ومحتوي ومظهر الدبلوماسي موضوعا حاضرا يصيب الرعايا السودانيين بالخجل والتقزز قبل عناصر شرطة الحراسة المكلفة في الأكشاك الخارجية . أحد هؤلاء إستوقف أحدهم سودانيا وإستأمنه سرا يحرّقه ( ياأخي عرفت الدبلوماسيين السودانيين من زمااااان ، إيش اللي صار ببلدكم ؟) فتواري صاحبي خجلا من شاهد علي شئ أمر جلل . نعم ، إنتقلت عدوي الوزير الشحاد ، والوزير صاحب المغالق والأسمنت والسيخ الأوكراني والتركي 5 لينية ، الي طواقمهم بالسفارات الخارجية . فأصبحوا "بارتايم" دبلوماسيين وفُل تايم أي شئ آخر . إنصرف دبلوماسيو الانقاذ عن خدمة مواطنيهم لخدمة أغراضهم ، فحصلوا علي المنح الدراسية لأبنائهم والدورات التدريبية لأخوانهم وأخواتهم والعلاج المجاني لزوجاتهم وأصهارهم بل وأمنّ بعضهم إقامات كاملة لأسرته في البلد المُضيف لضمان العودة إليه بعد إنتهاء المدة ! تاجروا في العملة والموبايلات والعربات وكل مايمكن بيعه وتنافسوا علي شحن الكونتينرات . بل أصبح بعض السفراء ألص من فأرة وبقلب رباطة لا يخشي ولا يختشي بل ويطالع ضحيته بعين فولاذية . فلدي وثائق عائبة عن سفيرهم الحالي بتنزانيا ( كان مدير لمكتب كرتي ومتأسيا به لدرجة خلط الخاص بالعام فتزوج إكسلانسة ايضا ) . فليت لص تنزانيا إنصرف فقط لأدارة أعماله بل إنطلق في سوق الله أكبر متخصصا في نهب رعايا بلاده دونما إكتراث أو خوف ! فمنذ أيام وزير الأسمنت والمغالق علي كرتي ، ظل بعض ضحايا هذا السفير اللص من التجار يلاحقونه لإرجاع 400 ألف يورو بلا جدوي ! إشتكوه لكرتي فقال لهم أصبروا عليه ! ذهب كرتي وجاء وزير جديد وصاحبنا يمارس السرقة وباق في محطته والضحايا ينتظرون !! أهم ممنوعات خارجية منصور خالد حظره التام لسكني الدبلوماسيين في الأحياء الشعبية ، ولضبط الموضوع فإن السفارة كانت هي من يستأجر المساكن في المناطق الأكثر رقيا ولم يُصرف بدل السكن للدبلوماسي فلا تهمين تفضيلاته علي القرار كأن يصبح " بدل السكن " من مقتنيات صندوق الختة أو بندا للصرف علي "دهب المرا" . في ذات مرة ، كان سكن السكرتير الثالث في اليابان يفوق مرتبة بضعة أضعاف . فمع غلاء اليابان المعروف ، فإن بدل السكن في يد هذا المسكين سيراوده حتما عن نفسه فيطمع في التوفير من ذلك المخصص فيسكن في " كرتون " طوكيو ويطعم نفسه من أسواق " الله كتلا " في ذيك النجوع والأمصار حتي يوفر لبناء الطابق الثاني إن رجع للخرطوم ! حرّم منصور خالد علي الدبلوماسيين كثيرا من السلوكيات المتفشية اليوم ، غير اللهث في الإتجار والسمسرة وبيع كل ماله صلة بعلم الجمهورية المسروقة من الرئيس وحاشيته ومادونها فمثلا ، حظر سكني الأقارب بمساكن الدبلوماسيين ، ولو كانت علاقة من الدرجة الأولي أذا تجاوز الأبن أو الابنة سن البلوغ . فإن سكنت الأسرة الممتدة بمسكن الدبلوماسي ، وجبت مساءلة الدبلوماسي ولو كان السفير نفسه . كنت لن تري إلا ضيافة عابرة لهؤلاء الأقارب فالمسكن ملك لحكومة السودان ويتمتع بالحصانة الكاملة من قوانين البلد المضيف . أما في هذا الزمان فلم يقم الأبناء والبنات بمنزل أقاربهم فقط ، بل أصبح مسكن الدبلوماسي عنوانهم وعربات السفارة عرباتهم رغم لوحاتها المُحرِّمة الإستخدام الشخصي لغير الدبلوماسيين وفق ضرورات الحصانة .. فتزوجوا في سكن الدبلوماسي ، وتناسلوا في المسكن الدبلوماسي ، وإحتفلوا بالسماية فيه ودفع المواطن المنهوب فواتير هذا التناسل بماقيمته الألأف المؤلفة من رسوم التأمين الصحي والولادة.
ماذا كانت النتيجة ؟
وزارة مبرّأة من محسوبية الإختيار ، ووزير مصاب بعمي الجهوية والإثنية واللون والقبيلة وأفخاذها. وزارة إطمأن كل أهل السودان أنها تمثلهم قاطبة . فيها إبن المدينة الحنكوش وفتي القرية المعرّق اليد من شغل الحواشة الذي ستعلمه وظيفته الجديدة هجائيات مينو غذائي جديد فيه الاستيك والقِرل والبيتزا وتحول الأسفار بينه ، ولسنوات طويلة ، وبين التركين والكول وأم شعيفة والويكاب وأم تكشو والبفرا. ولو كان ممن يتجشأؤن بعد الشربوت والبغو والدكاي ، فسيكون دونه مُرْ الشعير من منتجات البدوايزر وأنهايزر بوش ويتأكد فطامه من عصائر القنقليس والقضيم .
في زمان منصور أصبحت الخارجية إنموذجا لسودان مُصغر ووعاءا للصهر السلوكي وشهادة ميلاد للعبور الطبقي !
فبعث أبناء الخارجية الي جامعات الدنيا لنيل الدرجات العُلا ، وأصبحت البحوث هي اساس الترقيات وكافأ الإنجاز بأحسن منه ، وحتي الضباط الذين إستبعدهم نميري من الجيش وأراد نفيهم ، خشية علي حكمه ، فإن منصور صارعه وإختار الأكفأ والأقدر من طينة العسكرتاريا المفكرين ، أمثال الراحلين الجنرالات أحمد الشريف الحبيب والرشيد نورالدين وغيرهم .
إذن ماذا كانت النتيجة الملموسة لهذا الجهد الكبير ؟
عكف منصور في سلطنته علي النطق بمفاهيم عامة إختارها كعناوين حادية للإنجاز وأورثها حوارييه ، ومن ثم إنطلق معهم وإنهمكوا في تبويبها وتعريفها : السلام وضروراته ، التنمية وسبل تحقيقها والتعليم كعماد محوري لتطبيقات هذه الأحلام . أهم ماحققه هو أنه جعل بنية التصورات التي تستند إليها الدبلوماسية السودانية موّحدة أينما يممت وجهك ، وفي ذات الوقت ترك أمام دبلوماسيه مساحات ممتدة للخيال بما يتسق ومسموحات تقدير الموقف . فلو سألت سفيرنا في أنجمينا أو السكرتير الثالث في واشنطن أو المستشار في بكين أو السكرتير الأول في الدنمارك أو الوزير المفوض في إيران ، وأضرابهم في حواضر العالم ، عن الفرق المفهومي مابين التخطيط الإستباقي " Preemptive Planning وتقدير الموقف Professional Discretion لتناغمت الاجابات وتطابقت فالكل يقرأ من منظومة النوتة الموسيقية للمايسترو التي غدت المخيلة المهنية الجامعة للوزارة . والمسطرة الآدائية إن إستقامت ، أجهزت علي التصريحات المتضاربة والأفعال المتناقضة التي تذهب بريح وهيبة الدولة . فستقرأ تصريحا للوزير في وزارة فيكذبه خفير في وزارة أخري ، وسيصاب الناس بنوبة من الاستغراب لمثل هذه الفوضي والإبتلاء بمثل هذا الكم الهائل من الألسن الناطقة بمتضارب القول والسياسات ، ولنا في بيع أوعدم بيع ، ترحيل أو عدم عدم ترحيل جامعة الخرطوم نموذجا ماثلا ...
إنطلق منصور مع شباب وكهول خارجيته للعمل . في محور السلام فكانت أتفاقية أديس أبابا 1972 . وتبع ذلك تعريفات لدور الدبلوماسية وتجذيرا للفهم أنها حاضنة تسويق للمشاريع التي تنشد دعما تنمويا. أصبح دبلوماسيوه سعاة لإستقطاب الدعم ، ورجال مبيعات ، لوزارات الانتاج برؤية وظيفية Functional ثاقبة تخطي بها منصور خالد بعشرات السنوات الادوار التقليدية للدبلوماسية . ماعرضه منصور في 1971 هو ذات المفهوم الذي عرضه الرئيس بيل كلينتون في خطبته في حالة الإتحاد في 4 فبراير 1997 متحدثا في عوائد الاسثتمار الدبلوماسي من منظور التكلفة الدولارية للإنفاق علي الصراعات ( ولمنع إنتشار الأمراض والمجاعات فإنه يأتي بريع أوفر في الأمن والوفورات ) الخاصة بالميزانية علما بأن الإنفاق علي الدبلوماسية يقل كثيرا جدا عن المتحقق من أهداف . ضمن هذه الرؤية الناضجة قادت الخارجية ، ومعها الوزارات المستفيدة ، جهد الاستقطاب والاتصالات فحصلت علي أكبر قرض في تأريخ السودان طيلة فترة حكم نميري من صندوق التنمية السعودي مقداره 200 مليون دولار تم تخصيصه كله لمؤسسة التنمية السودانية . وفي محاور التعليم سنقف قليلا لنوفي منصور وبعض الرجال حقهم .
وزارة التربية والتعليم عام من ...شهادات معلمين عاصروه
خدم منصور خالد لأقل من عام واحد أو نحوه وزيرا لوزارة التربية والتعليم( 1976-1977) . حق عليّ أن أشير الي الكلمات الصادقات التي تركها في بريدي استاذ الأجيال الطيب السلاوي ، الملحق الثقافي السابق بواشنطن أطال الله في عمره ,ومتعه بصحة البدن. كتب لي الأستاذ السلاوي المقيم في ولاية ميرلاند ( اقول انى سعدت كثيرا بمتابعة مقالتك هذا الصباح عن الدكتور الكريم منصور.. الذى لم اسعد بلقائه والاستماع اليه فى امتاع ومؤانسة الآ مرّة واحدة كانت فى داركم العامرة على شارع 123 فى فيرجينيا قبل سنوات لا ادرى ان كانت فى هذه الالفية او من بين سنوات سبقتها، مما يجعل الذاكرة لا تختزنها مثلما لا تزال تختزن احداث وذكريات "ذلك الماضى الذى كان لنا وكانت منه تنساب المنى نحو سودان جديد(حسبما نظم استاذنا الراحل سعد الدين فوزى فى بدايات اربعينات القرن العشرين)ذلك الماضى اذى كانت ايامه بكل المقاييس وافرة
الاشراق.. اقول لم اسعد بلقائه الا فى تلك العصريه فى معيتك وآخرين ..رغم معاصرتى له فى عام (1954-1955) هو فى عام دراسته القانونية ألأخيرة وشخصى الضعيف من بين "برالمة" كلية الآداب فى جامعة الخرطوم.) إتصلت فورا بالأستاذ الكبير السلاوي أولا لأشكره علي كلماته الطيبة ، ومن ثم لإستنطاق شهادته إذ أنه وبحكم وظيفته القيادية في وزارة التربية آنذاك سيكون من الثقاة للحديث عن وزيره كما شهد عليه في 1975 . قال لي أنه وطيلة تولي منصور للتربية والتعليم كان في مدينة مدني ولم يكن محظوظا بلقياه لأن الرجل مابقي الاعاما واحدا ، بل ولم يكمله . قال لي أن الروح التي بعثها الدكتور في الوزارة كانت كالصرصر أصابت بالتغيير كثيرا من الإمور وحلت مشكلات متراكمة . ففي عهده بدأت اللجان في إعادة النظر في المناهج التعليمية وتم تحديث المختبرات المدرسية ربما لأول مرة منذ خروج الأنجليز وشرع في تثبيت دعائم التدريب . وعلي ركن آخر ، وجدت في الإنترنت شاهدا عدولا عاصر عهد منصور خالد في وزارة التربية والتعليم وضمّن إنطباعاته في كتاب . ذلكم هو المعلم المستنير إبن أمدرمان الاستاذ هلال زاهر الساداتى . كتب يقول ( عاصرت زمنه القصير الذي شغله كوزير للتربية والتعليم وما قام به من اعمآل جليلة ذكرتها في كتابي ، الطباشيرة والكتاب والناس ، وجئت الي الوزارة بصفتي كبير موجهي المرحلة المتوسطة بمكتب تعليم جنوب دارفور وعضو لجنة تنقلات المدرسين بالسودان ، وكانت هناك عدة مشاكل مزمنة لم تحل ، وطلب الوزير منا أن نعد ثلاث قوائم ، واحدة بالمصابين نفسيا" وعصبييا" وطال علاجهم ، والقائمة الثانية بالمدمنين علي شرب الخمر ، والقائمة الثالثة بأسمآء المهملين والضعفآء في أدائهم وكفايتهم ، واصدر الوزير قرارا" باحالتهم علي المعاش ، ووجد القرار أستحسانا" من غالبية المعلمين لأن أولئك المدرسين كانوا يسببون صداعا" مستديما" بما يسببونه من المشاكل في المدارس ، وللحقيقة والتاريخ كان ذلك الوزير هو الدكتور منصور خالد والذي رأت وزارة التربية والتعليم علي يديه خيرا" كثيرا" من تنظيم للوزارة وأنصاف للمعلمين وحل للمشاكل المزمنة وكل ذلك خلال الفترة القصيرة التي تولي فيها مقاليد الوزارة ولم تشهد الوزارة وزيرا" مثله في كفايته من قبل ومن بعد .)
أصابع منصور الخفية والمرئية : جامعة الجزيرة .....وجامعة جوبا
يكفي منصور فخرا أن يكون هو الأب التشريعي لجامعة الجزيرة التي أسهم في إستصدار القرار الجمهوري بإنشائها في 9 نوفمبر 1975 وتابع نموها طوبة طوبة مع صديقه المُقرّب العالم والتربوي الكامل البروفسور محمد عبيد المبارك ، رحمه الله وأحسن إليه. . أصبح ود العبيد أول مدير للجامعة والذي حتي وفاته في فبراير 1989 ماإنفك يسهم في رفد التعليم الجامعي بمرئياته النابغة الي أن خطفه الموت وهو يشارك في اجتماعات اتحاد الجامعات الافريقية بالقاهرة. كان ود العبيد رغم أستاذيته في علوم النبات ، إداريا فطحلا وتنفيذيا نادرا برع في مايعجز عنه أساتذة الاقتصاد والتخطيط . رجل من فرط حبه للتميز والتفوق ، صارت له كرامات ساحر ، كقدرته علي تحويل ضغث الأحلام لدراسة جدوي كاملة بجداول تدفقاتها النقدية ، فيجسد رؤاه في مشروعات زاهرة . تحددت وظيفة الجامعة في " أن تقوم بدراسة البيئة السودانية وبوجه خاص البيئة الريفية ، للتعرف علي قضاياها وإجراء البحوث حولها " . هذه الخاصية هي خدمة المجتمع بربط التعليم بمتطلبات التنمية وجعله أكثر التصاقاً وارتباطاً بالواقع واحتياجات الإنسان والبيئة. . بدأت الدراسة في العام 1978 بأربع كليات هي كليةالعلوم الزراعية، و كلية الاقتصاد والتنمية الريفية ، كلية الهندسة و التكنولوجيا وكلية الطب . سنتوسع قليلا في الحديث عن كلية الطب ليس لأنها الاعجاز الماثل ، فجامعة الجزيرة كلها إعجاز ، وإنما لأن كلية الطب شقت طريقها للتميز الاقليمي والدولي بما يثير الاستحسان والفخر وفق منهجية تعليمية مستحدثة . إستقدم البروفسور ودالعبيد زميله البروفسور نصرالدين أحمد محمود، رئيس قسم علم وظائف الأعضاء، كلية الطب، جامعة الخرطوم لأنشاء كلية الطب في العام 1975 وبقي فيها لمدة لمدة عامين (1975- 1977) وبرغم تتلمذ بروفسور نصرالدين بجامعة أدنبره إلا أنه مسنودا برؤية ودالعبيد فقد تبني فلسفة تعليمية غير مطروقة في التعليم البريطاني عموما ، وصعبة في تطبيقات دراسة الطب بالذات . المنبت الجغرافي لهذه الفلسفة كان جامعة ماكماسترMcMaster الكندية التي تعمل بنظام السمستر الأمريكي ، أي الفصل الدراسي الواحد . الفلسفة يشار لها إختصارا ب PBL أي " التعلم عن طريق حل المشكلات Problem Based Learning" في تعريف البروفسور جون وودز Don Woods ، وهو ممن إستحدثوا هذا النمط التعليمي بجامعة ماكماستر "PBL is any learning environment in which the problem drives the learning. "( هو أي بيئة تعليمية تقود فيها المشكلة المراد حلها منهج التعلم " . بعد التطبيق الناجح لهذه الشتلة التعليمية في أرض الجزيرة ، قامت جامعة الكويت بإستقدام البروفسور نصرالدين ليسهم في بناء كلية الطب فيها علي ذات النمط . ذهب للكويت في العام 1977 وبقي فيها 13 عاما الي أن هجم عليها وإغتصبها صدام حسين في 1990 فتركها وكان مسماه رئيس علم وظائف الأعضاء ونائب العميد للشؤون الأكاديمية، جامعة الكويت. واليوم ، بعد مرور 41 عاما علي أنشاء جامعة الجزيرة فإن أبنائها من الأطباء والطبيبات بالولايات المتحدة هم الكتلة الأكثر التي تعمل في المشافي الأمريكية من أطباء السودان ، وهم الأكثر إجتيازا للبورد الأمريكي بل أن طالبا منها عبر بوابة التخصص فحاز علي البورد الأمريكي قبل أن يكمل دراسة الطب في السودان .
وتتصل جامعة جوبا التي شرّعت بواباتها للدراسة في سبتمبر 1977 تحت إدارة مديرها الراحل السماني عبدالله يعقوب ، ببعض نسبها أيضا الي الدكتور منصور خالد ، عبر طريق أكثر إلتواءا إذ تضاف الي سجل إنجازاته الوطنية الشاخصة في حقل التربية والتعليم ا بإعتبارها أحد إفرازات إتفاقية أديس أبابا 1972
أول طرح لفكرة جامعة للمديريات الجنوبية تم تداوله في مؤتمر المائدة المستديرة مارس 1965، إلا أن الفكرة تبخرت لسنوات وظهرت مع مفاوضات 1972 للحكم الذاتي في أديس أبابا . في غضون عام 1974 صدر الأمر الجمهورى بانشائها وأُنيطت بالدكتور جوزيف عوض مرجان مهام المشروع بيد أن أول مدير تتم تسميته رسميا فقد كان هو المرحوم بروفسير محمد العبيد المبارك . عينوه لفترة وجيزة كأول مدير لجامعة جوبا ومن ثم أرسلوه لتنفيذ مشروع جامعة (ناصر) وهو الأسم الأول لجامعة الجزيرة . أعقب ود العبيد فى جامعة جوبا البروفسير عبدالله الطيب منقولا ، ضد رغبته ، من منصبه كمدير لجامعة الخرطوم. ترك عبدالله الطيب ، بعد فترة قصيرة ، إدارة الجامعة فحضر لها بانيها الحقيقي بروفسير السمانى عبدالله يعقوب ، رحمه الله . مثلما كان ود العبيد هو المؤسس الرئيس لجامعة الجزيرة فإن السمانى عبدالله يعقوب هو أب جامعة جوبا فكدّ وإجتهد في تطبيق رؤاه التعليمية بربط الجامعة ومناهجها بإحتياجات محيطها المجتمعي . عندما ترّجل السماني في حادثة الطائرة الأليمة ، آلت الراية لبروفسور عبدالرحمن أبوزيد الذي إستكمل المشوار الي أن إنتقل هو الاخر . رحمهما الله .
****خاطرة ****
التحية للأبطال من جامعة الخرطوم علي هذا الموقف البطولي المُشرف ، لا توهنوا ولا تستكينوا . لستم لوحدكم فالعالم كله عينه مُسمّرة علي ماتسطرونه من أمجاد ....
إلي بقية الشعب الصابر : تذكروا أن شرارة العصيان المدني ، ومن ثم الثورة الكبري، يمكن أن تبدأ كقرار أسري يلتزم به أهل المنزل . ماذا لو قررنا البقاء بالبيت ؟ هل سيلقون القبض علي الوطن ويرسلونه الي موقف شندي ؟ ؟
نواصل الحلقة 3 الاخيرة في الاسبوع القادم بمشيئة الله
لمطالعة تقارير الكاتب السابقة بإرشيف الراكوبة أضغط علي هذا الرابط
http://www.alrakoba.net/articles-act...cles-id-88.htm


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.