*في رحلتِنا السابقة، كان السودانُ متواضعاً لأبعد حدِّ.. خلوقاً متضامناً مع الشعب الفلسطيني باكياً لأجل قضيته ومتبرعاً للجهاد ضدّ عدوِّه، لكني فوجِئتُ بردودٍ من قراءٍ سودانيين تدعو لسحب لفظة "بلادة" والتي ذكرتُها في نهاية الحلقة السابقة كومضةٍ لهذه الحلقة، ليتأكَّد فعلاً أن دلالة الألفاظ تختلف من بلد لآخر، فَ "بلادة" في القاموس السوداني تعني "غباوة" حسبما وضَّح السودانيون في ردودهم، بينما في فلسطين تقترب من معناها إلى اللامبالاة "فقط"، ومعاذ الله هنا أن نصف أحداً بصفةٍ كهذه، فنحن في حكايانا هنا ما نسعى إلا لعرض ثقافة البلاد الأخرى وليس لذكر عيوبِ بلدٍ ما، فالله تعالى قال:"يأيها الذين آمنوا إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند اله أتقاكم".. بالرغم من أن سنة الكون تقتضي أن كل بلدٍ لا تخلو من عيوبٍ ما.. وتباعاً للحلقة السابقة سترون اليوم حلقةً مختلفة.. فيها تتكلم القصصُ.. ولكم أن تختاروا الألفاظ المناسبة لكل قصة.. في التجارة * مفهوم العملية التجارية عند بعض السودانيين بسيط للغاية، فالأساس فيها مداومة في المحل.. وسأوضح لكم هذا بقصتين حدثتا مع أ. جمعة أبو العينين رفيق الرحلة.. فذات مرة ذهب إلى "السوبرماركيت" ليشتري "صلصة"، فسأل صاحب المحل إن كانت موجودة أم لا.. فقال السوداني:"نعم"، وأشار إلى مكانِها، نظر رفيقُنا الفلسطيني إلى الصلصة فوجد عدداً قليلاً ، فطلب من السوداني أن يأخذ جميعها، فردَّ السوداني بامتعاض:"ليه.. شنو راح تعمل فيها؟! قال:"وما شأنُك أنت؟!" فأجاب السوداني:"وأنا أعمل شِنو؟" ويقصد :"ماذا سأفعل أنا إن أخذت كل الصلصة؟.. وقتها، أبو العينين لم يتمالك نفسه.. فانفجر ضاحكاً.. فالسوداني لم يرغب في بيع كل الصلصة للرجل لأن بيعها سيضطرُّه –كتاجر- أن يُتعِب نفسَه قليلاً ليحضر "صلصة" جديدة.. تُرى ماذا سيقول السوداني لو رأى أحد التجار في غزة وهو يقوم ويقعد ويلفّ ويعرض البضاعة أشكالاً وألواناً لدرجةٍ قد تُزعِج الزبون نفسَه؟ * مرةٌ أخرى، يذهب رفيقُنا إلى "سوبرماركيت" آخر ليشتري "سكر"، فيجد صاحبه منبطحاً على "العنقريب" وهو لفظٌ يطلقه السودانيون على السرير المنفرد ويستعيضون به تماماً عن الكراسي والأرائك.. كان منبطحاً ويلف قدماً على قدمٍ وقد أشغل المراوح من حولِه وأغمض عينيه! رفيقُنا يسأل:"هل عندك سكر؟" فيجيب السوداني بقدمِه:"لا.." لقد هزَّ السوداني قدَمَه بطريقةٍ توحي بالنفي! وعلى فكرة.. لقد كان السكر موجوداً!! * الوجبةُ المشهورة جداً عند السودانيين هي "البوشْ" وهي عبارة عن خبزٍ مقطع لقطع صغيرة مبلولٌ بماء الفول المطبوخ مع بضعِ حباتٍ منه وعلى وجه الصحن يرشون قليلاً من فتافيت الجبنة البيضاء المالحة أو حتى ماء الجبنة وقليلاً من ماء السلطة، وهو طبق رئيس ويُباع الفول المطبوخ في محلات السوبرماركيت... لتتشابه تلك الوجبة قليلاً جداً مع فتة الحمص الفلسطينية. لعنة السحر * "أبو العينين" بيَّن أن السحر ظاهرة منتشرة بشكل ملفت في السودان، فتجدهم يبيعون أقاصيص صغيرة مغلفة بقطعةٍ جليدية على أنها "سحرٌ" ويحمي من شيء ما، وأكثر انتشارها في غرب السودان. ذات مرة ذهب رفيقنا إلى السوق وكان أحد البائعين في السوق صاحباً له.. نظر لأعلى فوجد أقاصيص الورق معلقة بخيوطٍ على "حلق" الباب، فسأله عنها، فأجاب السوداني:" لقد صنعتها عند الشيخ الفلاني.." فأوضح له رفيقنا أن هذا الأمر محرَّم شرعاً، قائلاً:"لو وضعت ذاك السحر لزيادة رزقك، فالله وحده موزِّع الأرزاق، ولو وضعته لمنع حسدٍ فهناك آياتٌ كريمةٌ لمنع الحسد".. وهمَّ رفيقنا يمسك بالأحجبة، وبسرعة البرق أمسك السوداني بذراعه وقال له: "لو صار لك أي حاجة أنا ما مسئول عنك"، لكن رفيقنا لم يكترث وراح ينزل الأحجبة ويفتحها، بالمقابل هرب السوداني بعيداً وكل ظنِّه أن لعنةً ما ستحلُّ بصاحبِه!.. فتح الأقاصيص فلم يجد بها غير بضعة حروفٍ متقطعة لا تعني شيئاً! وأمام السوداني المرتجِف رعباً راح يمزق الأحجبة.. لكنَّ لعنةً لم تحلّ كما تصوَّر السوداني.. قال "أبو العينين" للسوداني:"يا رجل من خلقني واحدٌ ومن يمِتني أيضاً واحدٌ.." فردّ عليه السوداني:"والله إنك زول عجيب"!. تضحك عَ مين؟ * وفي مرةٍ أخرى، جاء تاجرٌ سوداني إلى مجموعة من الطلبة الفلسطينيين، كان متحمساً ويعلق بنفسهِ أكواماً من "الأحجبة"، وقال لهم:"عندي لكم يا أهل فلسطين حاجة ما حصلتش.." ماذا يا ترى هذا الشيء؟ "سأعطيكم حجابات تجعل طلقة الصهيوني إن صُوِّبت إليكم لن تصِيبكم بل ستروح عنكم بعيداً"!! أووف معقول يا سوداني؟ سأل "أبو العينين" مدعياً الجهلَ فردّ السوداني:"كلُّه مضمون، ما عليك سوى أن تجربه على قطةٍ أو كلبٍ لتتأكَّد"، قال "أبو العينين":"ولم لا أجرِّبه عليك طالما أنت متأكِّد وضامن؟ هيا البس أقصوصة السحر لأُصوِّب تجاهك.." أجاب السوداني مرتعباً:"ما لك يا زول إنت مجنون؟" وأخذ منه الحجاب وفرَّ هارباً. حتى أنهم يشترون أحجبة السحر ويعلقونها برقاب أطفالهم كحمايةٍ لهم! * السودانيون حسب أ. أبو العينين أصحاب حسٍ مرهفٍ للغاية.. ففي إحدى المرات كان ذاهباً للسوق وفي نفسِه ضيقٌ شديد بسبب الحر الشديد ليزداد ضجراً على ضيقٍ عندما تكوَّم عليه أطفالٌ صغارٌ كلٌ يسوِّقُ لأكياسِه بعلوِ صوتِه.. "كيس.. كيس .. كيس..".. ففي السودان، لا يعطيك البائعُ الخضرةَ مملوءةً بكيس، بل المشتري هو من يحضر الأكياس معه.. لهذا تجد الصغار يبيعون الأكياس في كل نقطة. هربتُ وإلا ضربوني! * أحد السودانيين الطيبين "وهُم كُثُر" شعر بضيق رفيقِنا فجاء لينقذه من الموقف، فقال له:"انظر كيف التفوا حولي كالنمل على العِيش"، وكَمَنْ صُدِم السوداني ردَّ:"إنت زول حقَّار".. تُرى ماذا فهِم السوداني؟ لقد ظنَّ أن رفيقنا يستحقر الصغار السودانيين، معتقداً أن وجه الشبه بين الصغار والنمل _بنيَّة الفلسطيني_ هي "السواد"، أما"العيش" فهي كناية عن الدناءة ، لكن "أبو العينين" لم يكن يقصد ما فهموه نهائياً بل كان يقصد بذاك التشبيه كثرتهم فقط، قائلاً:"لا فرق لعربي على عجمي ولا لأبيض على أسود إلا بالتقوى". ومباشرة، حاول رفيقنا توضيح اللبس وتعديله للسوداني بقوله:"أنا لا أقصد واللهِ..يا سيدي بلاش النمل عالعيش، خلاص .. خليها كالنحل على العسل".. ليزيد الطين بلَّة، ويزداد السوداني استياءً، وللمرة الأخرى لم يكن يقصد رفيقنا غير كثرتِهم.. * لكن لو لاحظتم معي الفرق بين ردّ السوداني في كلمته "حقَّار" لَلَمسْتُم أَدَبَه وحسن خلقِه، فرغم ظنِّه بالشتيمة والتحقير إلا أنه لم يسبّ الفلسطيني ويقول له:"أنت حقيرٌ"، بل وصفه "بالحقَّار" أي "الذي يستصغر الناس ويحتقرهم".. تلك القصة تدفعنا للتساؤل ماذا لو حدث هذا الموقف في فلسطين؟ فهل يا تُرى سيتنازل أحدُهم للآخر ويترك الأمور تسير بسلام؟! لم يكن من مجالٍ أمام رفيقنا إلا أن فرّ من المكان ولم يتسوَّق، تخوفاً من أن يضربه السودانيون، فهم إن رأوا أحداً يضرب بالآخر تجدهم يتسابقون في الهجوم والمشاركة بالضرب -وليس في فكِّ الخلاف- .. ربما البعض.. بالمقابل يشعر أ. أبو العينين بالأسف من أفعال "بعض" الفلسطينيين الذين يزورون السودان فيعيثون فيها فساداً بل ويستغلون طيبة أهلها، لدرجةٍ قد تجعل السوداني يقفز كمن لسعته عقرب حين يسلِّم على رجلٍ ويجده فلسطينياً.. ليطبع بنفس السوداني صورةً سلبيةً عن كل أهل فلسطين. موقف محرج حقاً * وللمرأةِ في السودان حسب اعتراف رفيق رحلتنا أبو العينين مكانةٌ مرموقة في المجتمع، إن احترامها يفوق كلَّ احترامٍ.. فذات مرةٍ جاء رفيقٌ فلسطينيٌ لأستاذ جمعة الذي كان يجلس وقتها مع جماعةٍ من الطلبِة والطالبات في الجامعة، فقام الفلسطيني الجديد بالتسليم باليد على الطُّلاب وبالمقابل لم يسلم على أي فتاة.. كان موقفاً مُحرجاً لأستاذ جمعة، ومُهيناً بنظر السودانيات، وعادياً تماماً بنظر الفلسطيني الجديد.. فهو لا يعلم أن أمر تسليم الرجل على المرأة "باليد" بالسودان أمرٌ عادي جداً.. بالمقابل فقد تصرّف كما يتصرف في فلسطين، فتسليم الرجل على المرأة في العادة الفلسطينية غير متداولة لأسبابٍ شرعية تُحرِّم ذلك إلا على المحارم.. حاول أ. جمعة توضيح الأمر قدر استطاعته لكنهم ولشدة حساسيتهم ما اقتنعوا. في نهاية رحلتنا إلى السودان، يتمنى أ. أبو العينين أن تتاح له الفرصة للعودة للسودان، فذكرياتٌ جميلة بحلوها ومرها عاشها هناك وأناسٌ كُثُرٌ أوفياءٌ تعرَّف عليهم وشعر بقربِهم ولمس صدقَهم وطيبة قلبهم فاشتاقَ لهم.. وكله فخرٌ أنه حصل على شهادته من جامعتهم. المصدر: صحيفة فلسطين