* كانت عادة الشباب الفلسطيني في السودان إذا ما نزل إليهم فلسطينيٌّ استضافوه إلى حين يجد له مسكناً خاصاً، فحلَّ الأستاذ جمعة أبو العينين المحاضر بالجامعة الإسلامية ضيفاً عندهم وقتئذ كان طالباً، وفي ثاني يومٍ له في السودان، طلب منه رفاقُه أن يحضر "خبزاً" من "الدكان" أسفل البيت، فنزل وسأل صاحبَه إن كان لديه خبز، فردَّ السوداني:"خبز ما في"، استغرب أبو العينين نفي السوداني، وهو يرى الخبزَ أمام عينيه! فأمسك الخبز وسأله:"وماذا يكون هذا؟! أجاب:"ده"عِيشْ".. أما عن "الخبز" أو "الخبيز" فمصطلحان يطلقهما السودانيون على "الكيك والحلويات"!. "أَرِحْ وليس امْشْ" * "أبو العينين" اختلفَ ذات مرةٍ مع أحدِ السودانيين العاملين في استراحة بجامعة الخرطوم، فقام يصالحُ السوداني بوضع يده على كتفِه قائلاً له:"امشِ.." وكان أبو العينين يقصد أمن الجامعة من أجل أن تُحلَّ المشكلةُ وتطيبَ الخواطرُ، لكن السوداني قام بنفضِ يد "أبو العينين" عن كتفه وبغضبٍ ردّ عليه:"ما تقلِّي أَمْشْ" (بتسكين الشين حسب لهجتهم)، فاستغرب "أبو العينين" امتعاض السوداني وهو الذي يربت على كتفه لمصالحتِه!!، ليفهم بعدها أن "امشْ" تحمل تعنيفاً في معناها، بينما الأصل والليِّن واللطف أن يقول "أَرِحْ".. * زيارة الجار الجديد أمرٌ معتادٌ في حياة السودانيين وعادةٌ طيبة، وهذه لكم قصةٌ أسردها نقلاً عن "أبو العينين"، فعندما سكن في بيتِه الجديد جاءت الجارات السودانيات للزيارة والترحيب بهم، فخرج لهم وقال:"تفضلوا امرقوا".. نظرت إليه النساءُ باستغراب، وقلنَ له: "كيف حالُك جئنا لنبارك لكم سكنكم.." فردّ:"أهلاً بكم.." ومن جديد كرَّر:"امرقوا.." ويقصد "ادخلوا". غضبت النساء والتففن للخلفِ مردداتٍ باستياء:"إيش شو عاملينلك؟!.. اتضل تقول امرقوا امرقوا"!! اندهش أبو العينين من رد فعلهنّ وهو لا يعلم أن تصرفه معيبٌ أمام السودانيين، فكلمة "امرقوا" تعني عندهم "اخرجوا"!!. ولو نظرنا لحديث نبينا -عليه الصلاة والسلام-:" يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية.." لوجدنا –فعلاً- أن كلمة "يمرق" تعني "يخرج".. "كتَّاحة" في السماء * وقت الظهيرة تغلي الأقدامُ، ولا تُحتمُل السخونة حتى من فوق حذاء! يذكر "أبو العينين" أن درجة الحرارة على مدار العام تتراوح ما بين 40-50 درجة، ومن ثم فإن درجة "35" تعني برداً شديداً عند السودانيين، وقد تأقلم أبو العينين على أجوائهم بعد ما يقارب السبع سنوات، حتى إنه بعد أن عاد لغزة في شهر مايو، كان يشعر ببردٍ شديد ويلبس "جاكيت" ثقيل في وقتٍ كان الجميع من حولِه يشعرون بالحر الشديد.. وما بين شهري "7-9" تبدأ الفيضانات مع الأمطار، أما عن غيمة الغبار فلأبو العينين قصةٌ هنا..عام 1995 كان ذاهباً بسيارته وبرفقة عائلتِه إلى أحد المتنزهات، إذ بغبارٍ بنيٍّ محمرٍّ "واسمه عند السودانيين "كتَّاحة" يأتي من بعيد، فيركن أستاذُنا سيارته وهولٌ مرعبٌ يصل لحلقِه وأهلِه، يقول:"لم أفكر بشيء غير أن القيامة قامت".. غطى الغبار السيارة ولم يعد أحدٌ يرى حتى يدَه.. راحت أمُّه تدعو الله "لطفك يا رب لطفك.." *في إحدى زياراته لكلية علوم الاتصال بجامعة الجزيرة بمدينة "فَداس"، وكان آنذاك طالباً جديداً في الماجستير ويبلغ "30 عاماً"، وجد العميد والدكتور والأستاذ جميعهم يفطرون جماعةً، فألقى التحية باستحياءٍ، وهَمَّ بالخروج فوراً إذ بالعميد ويقارب "65 عاماً" يناديه:"يا زول يا زول تعال هنا بِجاي"، وأصر الجميعُ أن يتناول الإفطار معهم..وكالعادة كان الأكلُ باليدِ فلا مكان لاستخدام الملاعق هناك. تواضعٌ يُشهد له بعد انتهائهم من الإفطار ذهب أبو العينين ليغسل يديه بإبريقٍ هناك -كانت الكلية قيد الإنشاء- إذ بالعميد يرفع الإبريق ليصبّ على يديه، فلم يقبل، لكن العميد أصرّ عليه قائلاً:"يا زول.. أَهبِطْ. مد يَدِّيْنَك.. إنت هنا ضيفنا.. ما تعمل أي حاجة، إحنا نغسِّل ليك ونعمل ليك كل شَيّْ.." يقول أبو العينين:" قطعٌ من لحم وجهي كادت تسقط خجلاً"..يا له من تواضع يرفع الله به صاحبَه، فهل كبارُنا ومثقفونا يحملون تلك الدرجة من التواضع؟ *في السودان يتعاطفُ كثير من أهل البلاد مع الفلسطينيين وقضيتهم، فأخبرني "أبو العينين" أنه يوم استُشهِد القائدان أحمد ياسين وعبد العزيز الرنتيسي بكى رجالٌ عظامٌ هناك ووصلت دموعهم إلى الذقونَ.. وظنَّ الكثيرون أن القضية الفلسطينية اغتيلَت وانتهت باغتيالِهما، لكنه كان يُصبرهم دوماً بأن القضية ليست قضية الفلسطينيين فقط، حتى وإن اغتيل الفلسطينيون كلهم تبقى القضية. ليس هذا، فحسب فلم يكن يحدث أيُّ حدثٍ في فلسطين إلا ويأتي طلابٌ كثُرٌ من الجامعة يريدون التطوُّعَ للجهاد، حتى النساء كانت تتبرع بالمال والحليّ دون تردُّد للجماعات الفلسطينية المسئولة عن هذا الأمر في السودان. لم ننتهِ بعد فالسودان تغزُرُ بالقصص المثيرة.. إنهم حساسون جداً، وبعضهم بليد كسول،.. رفيقي القارئ في الحلقةِ القادمة ستلمس هذا حقَّا.. المصدر: صحيفة فلسطين