محمد عبد الحميد عبد الرحمن - في الأسبوع الأول من عامه الثالث والعشرين في السلطة يستعد الرئيس المشير عمر البشير للمشاركة في مراسم طي علم السودان الموحد وعزف موسيقى السلام الجمهوري السوداني لأخر مرة في جوبا عاصمة إقليمجنوب السودان الذي سيصبح دولة مستقلة بعد ظهر السبت 9 يوليو 2001. حتى أسوأ الناس ظنا بالحركة الإسلامية السودانية التي دبرت الانقلاب العسكري واستولت على السلطة في 30 يونيو 1989، لم يكن ليخطر بباله أبدا أن نفس ذلك العميد عمر حسن - وقتها - سيقف ذاك الموقف الذي نترقبه بعد ثمانية أيام. لكن بين سوء الظن والعقل السوي والوقائع الفظة مسافة تسمح بتأمل بعض البداهات من جديد. بغض النظر عن كل التفاصيل البشعة المغموسة في دماء السودانيين شمالا وجنوبا ثم شرقا وغربا لأكثر من نصف قرن تبقى الحقيقة مريرة، بسيطة وواضحة وهي إن مشروع الدولة الإسلامية التي هفت لها قلوب غالبية أهل شمال السودان وتمسكت بها أحزاب التيار الرئيسي في الحركة السياسة السودانية بتعبيراتها المختلفة منذ الاستقلال، هو مشروع استبعاد الأخر غير المسلم أو حتى المسلمين الذي لا يقبلون بذلك الخيار السياسي الأيديولوجي أو في أحسن الأحوال استلحاقه واستتباعه وهو ما لا يمكن أن تؤسس عليه علاقة المواطنة المتساوية التي يستدعيها الانتماء لدولة واحدة في القرن الحادي والعشرين. ومع ذلك استبشر غالبية السودانيين الذين استنزفنهم الحرب وأقعدتهم باتفاقية السلام الشامل لعام 2005 وتطلعوا لنهاية الاقتتال مهما كان الثمن وحدة أو انفصالا. وها هو الانفصال على مقربة أسبوع واحد دون أن يهنأوا بالسلام الذي انتظروه طويلا وكثيرا. فقبل أن يجف حبر اتفاق مشاكوس انفجر عنف أكثر دموية في دارفور، وقبل شهر واحد من انفصال الجنوب أو استقلاله، سمه ما شئت، سالت دماء غزيرة أخرى في ابيي من بعدها في جبال النوبة استدعت نيفاشا أخرى في أديس ابابا هذه المرة. سيمر وقت طويل، قبل أن يحسم الصراع في المركز، اعني في الخرطوم، بين من يرون أنه لا تنازل عن مشروع الدولة الإسلامية بعد أن "ضحينا بالجنوب" لأجله وان الفرصة قد حانت لإسكات من يدعون لذلك مرة واحدة وللأبد، وبين من تبين لهم شيء من الضوء في آخر النفق ويستفيقون الآن على أن النهج الذي اتبع خلال عقدين من دكتاتورية الإسلاميين قد وصل لطريق مسدود ولا بد من التغيير. حتى ذلك الوقت يبدو أن الهوامش ستخوض غليانا باهظا قد يعيد الرشد لمن لم يعتبر بدرس الجنوب في المركز والهامش (يا لهما من كلمتين) على حد سواء، وقد يمضون في غيهم يعمهون. على مضض الآن وقد وقع الانفصال لتبقى لنا دولة معزولة ومنهكة حد الإغماء في الشمال ودولة تحاول الوقوف على أقدامها من العدم والخراب التام في الجنوب. يقضي الحس السليم بألا مخرج لكليهما سوى التعاون ولو على مضض. وفي أسوأ الفروض أن تكفا عن تبادل الإيذاء الذي يبدو مغريا، لقصيري النظر وعديمي البصيرة وتجار الحرب، وأكثر سهولة واقل كلفة من الصبر المضني على تطوير المصالح المشتركة وإستنباتها في التربة المالحة بالدم وتقديم التنازلات المؤلمة والحلول الوسطى التي يمكن ألا ترضى بعض الذين سيتضررون حتما من هذه المساومة التاريخية، وإزالة ألألغام المادية والمعنوية لسنوات الحرب المريرة . لكن ما شهدناه خلال الشهور القليلة الماضية لا يسمح بتفاؤل شديد ويشي بأننا نسير شمالا وجنوبا نحو السيناريو الأسوأ الذي يعرفه الجميع "الانفصال والحرب". وأخير ... كنت ولا زلت أظن أن الاحتكام للسلاح، وإن حقق الاستقلال لجنوب السودان، لم يجلب خيرا لدارفور ولن يقرب مطلبا لأهل جبال النوبة وسيجر المزيد من الويلات على أكثر الناس فقر استبعادا وتهميشا، وسيتحمل مسئوليته كل من دعا له وبادر به واستجاب له ومع ذلك تبقى الحقيقة مرة أخرى واضحة وبسيطة وهي أن استمرار الحكومة في الخرطوم في نهجها الأيديولوجي الاستبدادي الاستبعادي هو الذي أدى لما وصلنا إليه وسيؤدي حتما إذا تواصل إلى مزيد من التفكك والدمار والحرب ليس فقط في الشمال بل في الجنوب أيضا وبالتأكيد. يستطيع العالم من حولنا أن يحرمنا من دولاراته ومساعداته ومنظماته وتأشيرات دخوله والتحليق فوق أجوائه لكنه للأسف عجز وسيعجز عن منعنا من أن نقتل بعضنا البعض ... لنفعل ذلك نحتاج فقط لإرادتنا وعقلنا نحن.