هل تذكرون جاك باور؟ عميل الاستخبارات الأمريكيّة الذي تقمص دوره الأمريكي المعروف كيفير ساذارلاند، وقضى عقداً من الزمن متربعاً على شاشات التلفزيون عبر العالم لتسعة مواسم طويلة من المسلسل الدرامي الفائق الشهرة «24». جلّ ظننّا كان أن السيد باور قد تقاعد إلى غير رجعة، لا سيما أنه أفنى سحابة مهنته العجيبة في مطاردة وصيد الإرهابيين المسلمين الذين يريدون شراً بأمريكا. «يوم جديد... بطل جديد» لكن قناة فوكس اليمينيّة الأمريكيّة كان لها رأي آخر فيما يبدو. فهي وإن فشلت في إقناع ساذارلاند بالعودة للخدمة الوطنيّة متصدياً مواجهاً كل صنوف الإرهاب، فقد أيقنت أن في جيبِ السيد باور ما يكفي ويزيد من التاريخ المجيد المؤسِسِ لفكرة تشكُلِهِ كتُراثٍ يُبنى عليه، لذلك استثمرت ملايين عدة من الدولارات لإنتاج مسلسل (مجدَّدٍ) باسم «24 ليغاسي» – أو «إرث 24» إذا شئتم – مستوحِياً مسلسل مغامرات جاك باور في «24»، مع نقل البندقيّة إلى كتف بطل أمريكي جديد هو إريك كارتر – الجندي الأمريكي الأسمر الشجاع العائد من الحرب والذي سيحمل راية المواجهة الأمنيّة المتجددة من يد البطل المتقاعد جاك باور وقد أسندت القناة مهمة لعب الشخصية إلى كوري هاوكينز. خلقُ شخصيات الأبطال الخارقين ومحاولة مط حكاياهم يُمنَة ويُسرة بهدفِ أن يعيش الإنتاج عمراً مديداً من المواسم المربحة أمر اعتدنا عليه مع هوليوود منذ السبعينيات ولا غبار عليه – نظريّاً – في ظل منظومة الإنتاج الثقافي الرأسمالية المعاصرة. لكن توقيت الإصدار المجدّدِ من قبل قناة معروفة بانحيازاتها اليمينيّة المتطرفة بدا غير موفق على الأقل، هذا إذا تجنبنا وصفه بالمشبوه – وهو ما ذهبت إليه الصحافة الأمريكيّة الليبراليّة. فلم يكد يمضي أسبوع على توقيع الرئيس الأمريكي الجديد دونالد ترامب مرسومه الشائن بفرض قيود على دخول حاملي التأشيرات والمهاجرين من سبع دول ذات أغلبيّة مسلمة – وهي للمفارقة دول لم يتورط مواطنوها في حوادث إرهابيّة تذكر داخل الولاياتالمتحدة – حتى بدأ بث المسلسل الجديد الذي يحمل بين ذراعيه جرعة مضاعفة من الإسلاموفوبيا – أو رهاب الإسلام والمسلمين لدرجةِ ذهابِ نقادٍ أمريكيين بما فيهم جريدة النيوريوك تايمز المرموقة – بوصفِ كلِ حلقةٍ منه أشبهَ ما تكون بدعاية تلفزيونيّة تقبعُ في مدة ساعة كاملة بغرضِ الترويج لسياسات ترامب العنصريّة، أو كأني بها تغريدة ترامبيّة أخرى مطوّلة!. يبدأ الموسم الأول من «24 ليغاسي» بمشهد لبيت أمريكي وقد دنّسه الإرهابيون، فتناثرت صور العائلة الأمريكيّة – النموذجّية الخلابة – في كل مكان، واختلطت بالدّماء المسكوبة على الأرض كما على الجدران. لقد قتلهم إرهابي مجاهد مسلم، تسّرب إلى الولاياتالمتحدة العظيمة، وبدأ يقتل الرجال والنساء والأطفال الشديدي البراءة ذبحاً بالسكاكين في إطار محاولته للتواصل مع (خلايا نائمة) من المسلمين – طبعاً – الذين يعيشون في الولاياتالمتحدة – مواطنين ومهاجرين! «الخلايا النائمة» في خدمة ترامب الفكرة المحوريّة الناظمة لأحداث ال «24 ليغاسي» هي فكرة (الخلايا النائمة) والهجوم – الإسلامي – الواسع المنسق على أسلوب العيش الأمريكي التي صارت لازمةً لا بدّ منها لكل إنتاجات هوليوود – الاستشراقيّة النزعة دائماً -عن الإرهاب الإسلامي، وهي بالطبع الفكرة ذاتها التي بنيت على أساسها بطولات العميل المتقاعد جاك باور في مسلسل «24» الأصلي، على الرغم مما تشير الوقائع إليه بأن كل الأعمال الإرهابيّة المنسوبة للإسلام في الولاياتالمتحدة منذ هجوم الحادي عشر من أيلول/سبتمبر 2001 كانت أعمالاً فرديّة أو – ثنائيّة في حدّها الأقصى – غاب عنها طابع الاحتراف، ولم يتوفر لها أساسٌ نظريٌّ، لتنتهي أشبه بانحرافات سايكولوجيّة لأفراد يعانون مشاكل اندماج وتناقضات حضاريّة. فكرة الخلايا النائمة لا شك تشكلُ عصَبَ مشروع التخويف المستدام من الإسلام والمسلمين، فالإرهابيون يمكن أن يكونوا في أي مكان داخل الجسد الأمريكي: قد يكونون جيراناً يبدون مسالمين وربما لديهم أطفال في المنزل، او قد يكونون زملاء دراسة، وقد يأتون بأشكال وأحجام مختلفة روساً وعرباً وصينيين، ويمكن حتى أن يكن نساء شقراوات ذوات عيون زرق (مثل أميرة – المهاجرة الشيشانيّة المسلمة) بل وهن يقمن علاقات جنسيّة حميمة مع أمريكيين مغفلين! أحداث المسلسل التفصيليّة فيها من السذاجة ما يفيض، لكن خطورته على الثقافة الشعبيّة في الغرب تكمن بالذهاب بعيداً إلى تكريس فكرة (الخلايا النائمة)، وتحولات أدوار الأشخاص من خيّرين إلى سيئين وبالعكس، ضمن إطار مشروع شامل ممنهج لوصم كل ما هو إسلامي كهدف معادٍ، الأمر الذي يخدم – في مناخ سياسيّ شديد التشنّج – دعاية معسكر ترامب فحسب: هذا ما ستنتهون اليه أيها الأمريكيون الطيبون إن أنتم شرّعتهم أبوابكم وقلوبكم لهم، ستُذبحون! لا تُشرعوا نوافذ المخاطرة، فكل مسلم، وإن بدا لحظياً أمريكياً طبيعيّاً أو مهاجراً مسالماً، فإننا لا نعلم متى ينقلب على عقبيه ويعضّ يد سيّدة الحرّية، ويتحول إلى قاتل موتور. استثمار مسموم في هيستيريا الإسلاموفوبيا ويمشي العميل إريك كارتر فيما يبدو على تراث سلفِه المتقاعد جاك باور في تقديم تبرير لتعذيب المعتقلين – المسلمين بالذات – دون محاكمة، وممارسة ضغوط جسدّية ونفسيّة استثنائية عليهم لا يشرعها القانون الأمريكي ضد المواطنين، موظِّفاً تقنية السباق مع الزمن ضد القنبلة المعدة للانفجار خلال وقت خاطف. بالتالي أنت تحمي الحضارة الأمريكيّة والمواطنين المسالمين من خطر محدق بانتزاعك الاعتراف من السجين بركوب أي وسيلة – في حال انعدمت الطرائق الأخرى لمنع حدوث الانفجار. في الحلقة الافتتاحية من «24 ليغاسي» يستعير الإرهابيّون هذه التقنيّة ويوظفون القنبلة المعدة للانفجار للحصول على ما يحتاجونه من معلومات. وهكذا الجميع أخياراً وأشراراً في سباق محموم مع الزمن، على نحو يبرر إسقاط الموانع القانونيّة والتشريعات كافة التي يمكن أن تحمي المتهمين. إنها حرب شاملة بلا قواعد للاشتباك، لذا فعلينا كأمريكيين – وكذلك جلنا أتْباعُ الثقافة الأمريكية عبر شاشاتنا في العالم أجمع – أن نثق بحكمة ونزاهة أجهزة الاستخبارات والأمن الأمريكيّة دون طرح تساؤلات قد تعيقهم عن مهمتهم المقدّسة في منع الإرهابيين من إيذائنا. إحياء إرث جاك باور السيئ ليس في الحقيقة إلا استثماراً مسموماً في هيستيريا (الإسلاموفوبيا) وخدمة مجانيّة تقدمها هوليوود بمواقيت غير نزيهة للمعسكر الأمريكي الشديد التأثير على توجهات الإدارة الأمريكيّة الجديدة – الذي يقوده ستيف بانون وجماعته – ويرى في الإسلام ديناً يستهدف إخضاع الأمريكيين لحكم السيف وفي مواجهة حاسمة حتميّة مع الغرب اليهودي – المسيحي، لا «دين السلام» – كما كان وصفه مرّة الرئيس الذي شن أكبر الحروب المعاصرة على الشرق الأوسط، جورج دبليو بوش. هي أيام سوداء إذاً، نترحمُ فيها على لطف وكياسة ولباقة آل بوش. إعلامية من لبنان تقيم في لندن القدس العربي