قبل عامين من الآن، رحل الشاعر محمد الفيتوري (1936- 24 أبريل 2015) في رحلة غياب أبدي، بعد صراع مع المرض بالمغرب التي عاش فيها سنوات طويلة مع زوجته رجات أرماز، وربما حقق الفيتوري بذلك نبوءة والده المبكرة حين قال له: "ستقضي حياتك غريبًا عن وطنك"، لكنه حقق أيضًا نبوءته الخاصة التي لا تعترف بحقيقة الموت؛ حيث قال: "لا تحفروا لي قبرًا.. سأرقد في كل شبر من الأرض". تتابعت سنين حياة الفيتوري في تقلبات جغرافية وإثنية متداخلة، وكان انتماؤه أمراً مربكاً، وأصبح لا هو سوداني بوالدته ومولده، ولا هو مصري بإقامته، ولا هو ليبي بأصوله من أبيه، وواجه عدة مصاعب تتعلق بجنسيته التي منحت له وانتزعت أكثر من مرة، لكن السفارة السودانية في الرباط سلمته، في أواخر حياته جوازاً سودانياً، استخرج بجهد من السفير السابق جمال محمد إبراهيم. تزوج الشاعر الفيتوري من ثلاث نساء، كانت الأولى فلسطينية الجنسية ورزق منها بأربعة أبناء، ثم أخرى سودانية هي آسيا عبد الماجد، ورزق منها ابنته سولارا وابنه تاج الدين، ثم الأخيرة مغربية هي رجات، ورزق منها بابنته أشرقت. وُلِدَ الفيتوري في مدينة الجنينة بغرب البلاد، من أب ليبي، هو مفتاح رجب كريبة الفيتوري، وأم سودانية، وعاش طفولته الباكرة في مدينة الإسكندرية، حيث تابع دراسته الابتدائية والثانوية هناك، والتحق بعدها بكلية دار العلوم لدراسة العلوم العربية والفلسفة، إضافة إلى علوم أخرى مرتبطة بالثقافة الإسلامية. وكان الفيتوري من الشعراء الأوائل المناهضين للنموذج الكولونيالي في أفريقيا، إذ تماهى وتشابك مع الوعي الجمعي للقارة، واستلهم خصيصته الشعرية من جذور التمرد والعصيان الكامنة في شعبها، وامتاز الفيتوري من بين أقرانه، بخاصية المثقف الذي يكشف عن أساليب الوحشية التي يمارسها المستعمر تجاه المستضعفين من شعوب القارة. ولاعتبارات سياسية عدة انقطع الفيتوري عن الشعر في الفترة بين 1955 إلى 1964، حيث عمل في الصحافة في السودان ومصر ولبنان. وقال في ديوانه (أغاني أفريقيا): "إن نكن بتنا عراة جائعينا.. أو نكن عشنا حفاة بائسينا.. إن تكن قد أوهت الفأس قوانا.. فوقفنا نتحدى الساقطينا.. إن يكن سخرنا جلَّادنا.. فبنينا لأمانينا سجونا.. ورفعناه على أعناقنا ولثمنا قدميه خاشعينا.. وملأنا كأسه من دمنا.. فتساقانا جراحا وأنينا.. وجعلنا حجر القصر رؤوسا ونقشناه جفونا وعيونا.. فلقد ثرنا على أنفسنا ومحونا وصمة الذلة فينا". ويقول مقربون منه تحدثوا ل(اليوم التالي) من المملكة المغربية، إن الشاعر الفيتوري كان قبل مماته تغشاه حالات هيجان دون أسباب واضحة، وفشل في التعرف إلى أصدقائه المقربين الذين زاروه في البيت. وكان الشاعر الفيتوري يعيش مع زوجته المغربية (رجات) وابنتهما (أشرقت) بالكفاف ومساعدة الأصدقاء، دون مورد رزق ثابت، بعد أن انقطع راتب الفيتوري من السفارة الليبية قبل أزيد من ثلاث سنوات على وفاته. وكانت أسرته تلقت عدة وعود بأنه سيخصص له معاش من الحكومة السودانية.. وكانت حالة الفيتوري المرضية تتلخص كما يرويها ل(اليوم التالي) الصحفي السوداني المقيم بالمغرب طلحة جبريل، وقد زار الفيتوري عدة مرات، أن ذاكرة الشاعر كانت تتدهور، ولم يتعرف عليه، رغم صداقة قديمة تربطهما، إلا بعد فترة طويلة، وأنه كان يتقيأ باستمرار مع إسهال شديد، ولا يستطيع أن يأكل أو يمضغ، فقط يكتفي بالسوائل، وينام قليلاً ويستيقظ كثيراً، ويشكو من ألم يجعله في حالة تشنج وتوتر شديدين. ولم يكن يستطيع أن يحدد مكان الألم الذي يشعر به بسبب الجلطات التي أصابته. وعدة مرات كانت تنطلق الإشاعات التي تُعلِن وفاة الشاعر محمد الفيتوري، لكنه استطاع أن ينجو منها جميعاً، ربما بدافع من عقيدته الصماء التي ترى أن الشاعر لا يموت، بل هو نفسه (أكثرهم بعداً عن الموت)، وقد قال في ديوانه (أقوال شاهد إثبات): "مثلي أنا ليس يسكن قبراً.. لا تحفروا لي قبراً.. سأرقد في كل شبر من الأرض". وما زال الفيتوري يتظاهر بالموت، رغم غيابه لسنتين، إذ لم يزل يسكن "في كل شبر من الأرض". اليوم التالي