حتى بعيد منتصف القرن الماضي كانت عبارة (القاهرة تكتب، بيروت تطبع، الخرطوم تقرأ) تتمثل على أرض الواقع، ولكن مع التحولات التقنية والاجتماعية تراجع نهم القراءة واختفت عادة الاطلاع، خصوصاً وسط الشباب، وظهر ذلك جلياً من خلال التدهور المريع في اللغة العربية وما صاحبها من تداعيات عند نتيجة كل عام. وبالتزامن مع يوم القراءة في معظم العواصم العربية، لم يُفوت الشباب السوداني سواء كانوا في الخرطوم، الأبيض، كسلا، فرصة المشاركة والاحتفاء بهذا اليوم تحت شعار: (على هذه الأرض ما يستحق الحياة) إحياءً لذكرى الشاعر الفلسطيني الراحل محمود درويش. نظمت مجموعة تعليم بلا حدود في الساحة الخضراء يوم القراءة السنوي، وسط حضور كثيف من المهتمين بأمر القراءة والكتب، صغاراً كانوا أم كباراً، واهتم المصورون بالتوثيق لهذا اليوم، حيث جالوا في الساحة وهم يلتقطون صورهم هنا وهناك لهذه الفعالية. هذا العام كان هناك حضور لافت لباعة الكتب، وكانت هنالك قراءات فردية لقارئين استغرقوا في كتبهم الخاصة بلا اكتراث للحضور، وآخرون نظموا أنفسهم في دوائر وحلقات لنقاش بعض الأفكار والكتابات، لم تُفوت القنوات الفضائية المحلية والعالمية كالجزيرة، والعربية هذا الحدث، وكانت حضوراً لتوثق قراءة الخرطوم. كيف تقرأ كتابك الداخلي؟ ترى حباب الهندي – مهندسة معمارية، من أعضاء تعليم بلا حدود – أن استمرارية إحياء يوم القراءة السنوي بالتزامن مع كثير من العواصم العربية، أمر مفرح، وتقول: "عاماً بعد عام تتطور فكرة إخراج يوم القراءة بصورة أفضل، ابتداءً من ترتيبات دعوات الكُتاب والوراقين إلى آخر لمسات هذا اليوم، في هذا العام شارك الأستاذ السموأل الشفيع وطلال الطيب إلى جانب الكاتب عبد الغني كرم الله الذي يحرص على المشاركة كل عام"، ومضت قائلة: "يوم القراءة بمثابة عيد في تعليم بلا حدود، وينبغي على الناس الاهتمام بالقراءة بشكل أكبر، ودائماً هنالك حظ للأطفال في هذا اليوم وبشكل منظم، فيتوزع الصغار في حلقات، يقف على رأس كل حلقة مشرف، وتبدأ القراءات في أدب الأطفال ويُتاح للصغار مناقشة أفكارهم وما أضافته لهم هذه الكتب". وعلى الرغم من أن الحضور أقل من العام الماضي لكنه جيد. وجاءت بعض الأسر مع بعض لكن تنسيق الأصدقاء مع بعضهم هو الأغلب، وتضيف حباب: "دائماً انطباعي جيد في ما يخص يوم القراءة، وأكثر ما يعلق بالذاكرة نقاش مواضيع معينة مع الاستشهاد ببعض الكتب والكتابات، واليوم ناقشنا: كيف تكتشف ذاتك؟، كيف تقرأ كتابك الداخلي أكثر من قراءتك لكتب الآخرين". حلقة نقاش في إحدى حلقات النقاش في قلب الساحة الخضراء، التف مجموعة من الشباب حول الكاتب والقاص عبد الغني كرم الله، وهم يستمعون بإنصات تام واهتمام واضح إلى سرده، اختار الشباب أن يتحدثوا عن رواية الطيب صالح (موسم الهجرة إلى الشمال)، التي اختار فيها الطيب أن يكون تسلسلها عن طريق سرد الراوي لأحداث الحكاية، حيث لم يذكر اسم الراوي إلى أن انتهت الرواية، وتناول كرم الله ذكاء الكاتب في اختيار أبطال روايته وأدوارهم، كما تفاعل معه الحاضرون في تبادل الآراء. الكُتّاب أصدقاء القُراء يرى عبد الغني أن هناك علاقة صداقة تنشأ بين الكاتب والقارئ، وهنالك أصحاب حقيقيون وآخرون من أهل المجاز، وقال: "من أصدقائي الحقيقيين ابن أختي جماع الذي علمني القراءة، النور حمد، عبد الحميد الشبلي، أحمد جون، الذين خصبوا حياتي تماماً، فجون كان يجد لي حلاً لكل شيء، يقوم بإسقاط الفكر في وقائع الحياة اليومية، وبينهم من يصيبك بعدوى هدوئه، والمبدع صاحب النكتة الخلاقة. أما أصدقائي المجازيون فهم الكُتّاب الذين كنت أقرأ لهم فيؤثرون فيّ بعمق، وأستطيع أن أقول إن دوستوفيسكي كان صديقي جداً في روايته (الأبله)، وأرى أنه حكى لي عن شخصية (الأبله) البسيطة التي رأى فيها العبقرية، وكذلك صديقي الطيب صالح، حين كتب (عرس الزين)، ووصف (نعمة) إحدى شخصيات الرواية "لها أهداب سوداء طويلة تحركهم ببطء، فيشعر الناظر إليها بوخز في قلبه"، أشعر بهذه الروايات كأنها حكايات نتبادلها. ويُلهمونني بزوايا جديدة للشوف في الحياة والكتابة. اليوم التالي