الإمام الصادق المهدى من القادة السياسيين القلائل الذين يمارسون الكتابة بإنتظام متناولاً مواضيع شتى منها التأريخى والدينى الإجتماعى والسياسى والقضايا والصراعات الدولية المعاصرة. يتفرد الإمام على أبناء جيله بهذه الخاصية فهو رجل ينشر ويوثق آرائه فى بحوث وكتب وأوراق علمية منشورة بصرف النظر عن إتفاق أو إختلاف الأخرين معها. لفت نظرى فى كتابات الإمام إهتمامه بموضوع المياه (مياه النيل) وكتب عنها كتاباً، وظل الإمام يتناول موضوع العلاقات مع دولة مصر من هذه الزاوية وهو أمر سليم رغم وعورته، ولذلك يحمد للإمام جرأته فى تناول القضية بوضوح وتبيان موقفه منها. ما دعانى لكتابة هذا التعليق مقال نشره بموقع سودانايل بعنوان: "العلاقات السودانية المصرية: ما بين التجاذبات الإعلامية والدبلوماسية والمتغيرات الإقليمية والدولية" 30 إبريل 2017. وبالرغم من أن المقال عن العلاقات المصرية السودانية، إلا أن الإمام أورد معلومة تأريخية عن الأباء الأوائل لحركة الأخوان المسلمين (جمال الدين الأفغانى ومحمد عبده) أود أن اتناولها، لأن الوقائع المتاحة تقول بغير ما أورده. أورد الإمام فى مقاله :" القوى السياسية الوطنية بقيادة العرابيين والإسلامية بقيادة الشيخين جمال الدين ومحمد عبده رحبت بالثورة المهدية تطلعاً لها للتحرير من الإمبريالية البريطانية التى – بعد هزيمة أحمد عرابى باشا فى 1882- أحتلت مصر". ويبدو أن الإمام إقتبس تلك المعلومة مما قاله المؤرخ يونان لبيب رزق كما اشار فى مقاله. أود أن اتناول هذه المعلومة بالنقاش لأنها تخالف الحقائق المعلومة عن معارضة الأفغانى ومحمد عبده للثورة المهدية وسفرهم الى لندن لتقديم النصح والمشورة للحكومة البريطانية حول التصرف مع الثورة المهدية. كانت مخابرات الإمبراطورية قد دعت السيد جمال الدين الأفغانى وتلميذه محمد عبده الى لندن لإستشارتهم حول ما يمكن أن تقوم به لمواجهة الثورة المهدية فى السودان التى كانت قد انتصرت وقتها (1885) [درايفوس]. تبرع الأفغانى بتقديم النصح للبريطانيين حول ما يمكن فعله لمواجهة الثورة المهدية ونصحهم بمقولته المشهورة: " إنه لايمكن قطع رأس الدين إلا بسيف الدين". [درايفوس].. وكانت الحكومة البريطانية تخشى من أن تكرر شعوب أخرى فكرة الثورة المهدية أى توظيف الإسلام لتوحيد الشعب. تجنباُ لذلك عملت المخابرات حسب فكرة الأفغانى على إيجاد "حركة" مهمتها جمع الناس باسم الدين ولكن إفراغه من محتواه او ضربه من داخله عن طريق عملاء فى قيادة الحركة فكانت حركة " الأخوان المسلمين" لاحقاً! يقول الأفغانى فى موقفه ذلك من الدين:" : ""We do not cut the head of religion except with the sword of religion. Therefore, if you were to see us now, you would see ascetics and worshippers, kneeling and genuflecting, never disobeying God's commands and doing all that they are ordered to do" "لايمكن قطع رأس الدين إلا بسيف الدين. ولذلك لو شاهدتنا الآن، ستشاهد زاهدين عابدين يركوا ويسجدوا لا يعصون أوامر الله أبداً ويقومون بكل ما أمروا أن يقوموا به".[درايفوس]. وكما لاحظ البروفسور[إيلى كديورى] كما يورد [على شلش] فى كتابه عن الأفغانى، إن ذلك النص " قطع رأس الدين بسيف الدين" – وقد كان محمد عبده عالماً به وموافقاً عليه – يكشف بوضوح أن أهداف الأفغانى كانت تدمير الدين الإسلامى من الداخل وكانت وسيلته لذلك هى ممارسة تديّن مظهرى كاذب. وقد إشتهر الأفغانى بين معاصريه بالإلحاد. يقول عنه الفيلسوف الفرنسى [جوزيف رينان] الذى كان قد إلتقى الأفغانى وحاوره: " كان ملحداً من عظماء الملاحدة". ويضيف [على شلش] قول " رينان" فى صفحة أخرى:" لقد ادى بى تحرر أفكاره وشخصيته النبيلة المخلصة الى الإعتقاد بأننى- وأنا أتحدث إليه – أقف أمام واحد من معارفى القدامى وقد بعثوا أحياء، أعنى إبن سينا وإبن رشد وغيرهما من اولئك الملاحدة العظام الذين كانوا يمثلون تقاليد العقل البشرى طوال خمسة قرون". وكان مفتى الخلافة العثمانية قد طلب من السلطان طرد الأفغانى من الإستانة لقوله فى محاضرة قدمها لعليّة القوم أن النبوة "صنعة" مثلها مثل بقية الصناعات [على شلش]. فى تقرير سرى كتبه أحد عملاء الإنجليز فى روسيا عن الأفغانى وصفه بأنه: " شاحب البشرة، عريض الجبهة، أزرق العينين، له لحية كلحية التيس تتخلها شعرات حمراء، صغير الشارب، نحيل، حليق الرأس، عمره نحو 35 عاماً، يرتدى ملابس "النوجاى"، لا يكف عن شرب الشاى والتدخين على الطريقة الفارسية، له إلمام جيّد بالجغرافيا والتأريخ، يتكلم العربية والتركية بطلاقة، ويتكلم الفارسية كأحد أبناء إيران، لا يتبع فيما يبدو ديناً معيناً، ويعيش بطريقة أقرب للأوروبيين منها الى طريقة المسلمين"[شلش]. ووصفه الكاتب سليم العنحورى أنه لا يأكل إلا منفرداً، ويكثر من شرب الشاى، وإذا تعاطى مسكراً فقليلا من الكونياك". فى تأكيدٍ لموقفه من إحتكار الدين وهو الموقف الذى تتبناه حركة الأخوان المسلمين حتى اليوم، إتخذ الأفغانى موقفاً إنتهازياً صادماً من الثورة المهدية فى السودان. فعندما دعته الحكومة البريطانية الى لندن لاستشارته حول الثورة المهدية إتخذ الأفغانى – بالرغم من انه كان يزعم أنه يدعوا للتحرر من الإستعمار– موقفاً سالباً منها بل دعى لمحاربتها. ولم يتوقف عند ذلك بل شرع يوغر صدور البريطانيين ضدها: "I fear, as all wise men fear, that the dissemination of this doctrine [mahdism] and the increase of its votaries will harm England and anyone having rights in Egypt" [Dreyfuss] " إننى أخشى مثل ما يخشى كل العقلاء ان يؤدى إنتشار عقيدة المهدية وازدياد مُناصيرها للإضرار بإنجلترا وكل من له مصالح فى مصر". وفى موقع آخر يقول "إن المهدية يتبعها السذج". ويمضى الأفغانى فى الكشف عن معاداته للثورة المهدية ليقول "The strength of an Islamic preaching cannot be met except by an Islamic resolution, and none but Muslim men can struggle with this pretender to reduce him to his proper stature". "إن قوة الوعظ الإسلامى لايمكن مواجهتها إلا من خلال حزم إسلامى وليس هنالك غير المسلمين من بإمكانهم مواجهة هذا المدعى ورده الى قامته الحقيقية". الأغرب من كل ذلك أن الأفغانى إدعى:" أنه يعرف مهدى السودان "محمد أحمد المهدى" معرفة شخصية بعد أن علمه فى الأزهر بمصر وظل على صلة به بعد ذلك" بالرغم من أن الثابت تاريخياً أن المهدى تلقى كل تعليمه الدينى فى خلاوى السودان وليس فى الأزهر. لقد كانت تلك الكذبة ضرورية لكى تفتح للأفغانى أبواب أجهزة المخابرات وصانعى السياسة الدولية حيث حظيت الثورة المهدية وقتها بإهتمام دولى خاصة بعد مصرع الجنرال غردون الذى كانت له أصداء عالمية واسعة ولذلك سعى الكثير من ضباط المخابرات وصانعى السياسة حينها لجمع اى معلومات متوفرة عن المهدية وعن قائدها فانتهز الأفغانى الموقف وأعلن أن المهدى تلميذه. وفى تأكيد آخر لموقفهم المبدىء من معارضتهم للثورة المهدية عبر محمد عبده عن سعادته بماقام به الضباط المصريين الذى شاركوا فى حملة كتشنر لغزو السودان وإسقاط دولة المهدية. فعندما زار السودان بعد سبعة سنوات من الغزو 1905 حيث لا تزال أشعة شمس النهار تصلى بقية دماء السودانيين فى كررى وغيرها ذهب مخاطباً الضباط المصريين فى ناديهم بالخرطوم (26 يناير 1905) مبدياً إعجابه الشديد بنشاطهم ونظامهم قال ضمن ما قال: " لقد قمتم أيها الضباط بالأعمال التى عهدت إليكم فى السودان أحسن قيام، وإن ما شاهدته من آثار المدنية التى تمت بأيديكم ليجعلنى – مع شدة ميلى للنظام والدستور – أتمنى ان تكون الحكومة المصرية حكومة عسكرية لينالها من التقدم على أيديكم ما ناله السودان". [ الأعمال الكاملة للإمام محمد عبده]. ترى هل نسى الرجل أن اولئك الضباط لم يكونوا سوى جنوداً فى خدمة الإمبراطورية البريطانية وانهم إشتركوا فى حملة غزو أجنبى على دولة وشعب مسلم وحكومة رفعت رأية الإسلام! ما نود الإشاره له هو أن هنالك أختلاف جوهرى بين الثورة المهدية وحركة الأخوان المسلمين ومشتقاتها. فالمهدية – أياً كان موقف الشخص منها – كانت حركة وطنية نشأت نتيجة لظروف موضوعية داخلية قادها رجل وطنى بمقدراته الذاتيه ومواهبه القيادية، لم ترتبط مطلقاً بدوائر المخابرات العالمية. أما حركة الأخوان المسلمين ومفكريها الأوائل مثل جمال الدين الأفغانى ومحمد عبده وحسن البنا فقد كانوا عملاء كاملى الدسم لمخابرات الإمبراطورية البريطانية، فالحركة نفسها نشأت من أفكار المخابرات البريطانية. كان هدف المخابرات الاساسى هو إستغلال العاطفة الدينية عند العامة وتوحيدهم خلف قيادات عميلة لضرب الإسلام من داخله كما نصحها بذلك الأفغانى. للحركة إرتباطات ضاربة الجذور مع المخابرات الغربية ، ولذلك عندما يعلن نظام الخرطوم عمالته الصريحة لوكالة المخابرات المركزية الأمريكية لا يأت بجديد (متعودة)، إنما فقط صرح بما كان تنظيم الأخوان يسكت عنه فى السابق. فى ذلك، ربما لاحظ القارئ المتابع أن جميع الحركات الإسلامية التى تدعى مقاومة أمريكا صمتت عن إدانة سلوك نظام الخرطوم! بل من ما هو متوفر من وقائع تاريخية، يستطيع الشخص أن يراهن أن هذا الصمت سيطول، بل ربما تدافعت بقية التنظيمات لإعلان عمالتها لأمريكا تدافع الجوعى على القصعة او تدافع الأطفال لصدر أمهم. ماقام به أتباع الترابى يتطابق تماماً مع أهداف جماعة الأخوان المسلمين فى خدمة الإمبريالية العالمية وأجهزة المخابرات الغربية، خاصة واننا نعلم أن الترابى نفسه كان قد عرض خدماته منتصف عقد التسعينات لأمريكا إلا أن عرضه لم يجد القبول. نتناول هذه القضايا بتفصيل أكثر فى كتاب نعد لإصداره نهاية العام إن شاء الله. خلاصة القول، إن موقف جمال الدين الأفغانى وتلميذه محمد عبده، المفكرين الأوائل لما اصبح يعرف لاحقاً بحركة الأخوان المسلمين، من الثورة المهدية، كان موقفاً مخزياً لأنهم تعاونوا مع الإستعمار وقدموا له الإستشارة والنصح لكيفية ضرب الثورة. لذلك فالقول بأنهم رحبوا بها حسب ما نقل الإمام عن يونان لبيب رزق قول غير سليم. [email protected]