في الطريق إلى محمية الدندر شُحنت مُخيلتي بأشياء ظننتها حقيقة تفصل بيننا المسافة فقط لتُصبح ملموسة ومُعاشة ، إلا أنّها كانت مُغايرة البتة ، كُل شئ كان مُختلف عما ظننت وتوقعت ، وكأن شيئاً ما صفعني في وجهي قائلاً : ( أفيقي ، ليست كل الأحلام حقيقة ) والخيال هنا يُصبح عدواً شرسا لأنّه يسلبنا حتى القليل الذي حظينا به . يقولون إنّ الجواب من عنوانه يبين ، وأنّ الغيث أوله قطرة ، وأنّ بداية الطريق تُشير إلى أين ستذهب ، وكُلها صدقت ، حيث قادني هذا الطريق الذي أطلقت عليه طريق ( النار ) إلى رؤية ومعانقة جوهرة طبيعية خصنا الله بها ولكننا أجحفنا في حقها حد البكاء ، نعم ، تستحق محمية ( الدندر) البكاء لأجلها ، ودق سرادق العزاء إلى حين لفت إنتباه كافة الجهات ذات الإختصاص إلى أنّ أكبر المحميات البرية ( البكر) في العالم إلى زوال إنّ إستمر هذا الإهمال كثيراً . معسكر قلقو العاشرة إلا نصف مساءً وطئت أقدامنا مدخل محمية الدندر الإتحادية ( نقطة شرطة السنيط ) ومنها إتجهنا إلى معسكر (قلقو) والذي يبعد عن "السنيط" ساعة ونصف ، الإستراحة المخصصة لإستقبال السياح وطلاب الجامعات والأسر عبارة عن ( قطاطي) مبنية من الطوب الأحمر تحتضن غرف في داخلها ، يبدو مظهرها من الداخل مقبول سيما وأنّ سياسية إدارة المحمية كان هدفها أنّ تكون هذه الإستراحة أشبه بالسكن المحلي الذي إشتهرت به الولاية ، إلا أنّها أبدعت في الفكرة وأخفقت في التنفيذ . غرف مليئة بالحيوانات يشوب هذه الغرف العديد من المساوي والتي قد تشكل عائقاً مالم يتم معالجتها ، زجاج شفاف يصف ما بداخلها ، دورات مياه مهترئة إتخذت منها (الصراصير) منزلاً ، تركد الفئران بأحجامها المختلفة ، الضفادع والسحالي الزاحفة والخفافيش كلها إتخذت من الغرف مأوى وسكن ، إضافة لما ذكرت فإن غالبيتها لا ( مراوح ) بها ، ولن أقول مكيفات لأن وجودها أشبه بالمستحيل ، وبالرغم من إرتفاع درجات الحرارة في المنطقة لاسيما في فصول الصيف إلى أوجها. وقد تصادفك (لمبة) معطلة ، مكبس خيوطه متناثرة من موقعه ، والأرض المتسخة مع ماذكرت تجعلك تشعر أنّ هذا الوضع المزري سيفقدك صوابك ، نسيت أن أقول أنّ الكهرباء ب(البابور) هنا إذ تقطع في الساعة الواحدة أكثر من مرتين أو ثلاثة ، ومثلها المياه ، كما أنّ شبكة زين الوحيدة المفعلة هناك . ميزانية ضعيفة الإستراحة داخل المحمية تفتقر لأبسط مقومات إستقبال الوفود والسياح وتسائلت أيّ سايح إستطاع معافرة ذاك الطريق الوعر بُغية الوصول إلى المحمية ، ودفع لأجل أنّ يقضي إجازته برفقة أصدقائه أو أسرته ماله يستطيع النوم في مثل هكذا وضع بائس ، مدير محمية الدندر في حديثه ل(المستقلة) أقر بأنّ الميزانية التي تخصصها وزارة السياحة الإتحادية لمحمية الدندر ضئيلة ولا تفي بما يتم صرفه ، إلا أنّه خلال بحثنا إكتشفنا أنّه في العام قبل الماضي بلغ ما إدخلته الميزانية (11) مليار ، لتهبط في العام الماضي إلى (3) مليار فقط ، الشئ الذي قادنا لسؤال مهم ، وهو ما سر هذا الهبوط المريع ، يقول محدثنا فضل حجب إسمه أنّ البيئة السيئة التي تحيط بالمحمية قادت إلى قلة عدد الوفود في الفترة الماضية والذي إنحسر إلى أكثر من النصف ، إضافة إلى صعوبة الطريق المؤدي إليها ، مؤكداً أنّ الوضع بات يجب أن يقابل بتدخل سريع من قبل المركز. أين ذهبت الحيوانات ؟! إذا تركنا هذا الجانب بإعتبار أنّه غير مهم كما فسره البعض ، وأعني هنا توفير بيئة جيدة تليق بالسياح ، معللين ما ذهبوا إليه بأنّها محمية طبيعية ويجب أنّ يكون كل شئ فيها كذلك ، وإتجهنا إلى الضفة الأخرى حيث الحيوانات ، فجاءة يباغتك السؤال سريعاً أين الحيوانات ؟! ، أين ذهبت الحيوانات ؟! لن تجد من يجيبك ، ندرة أو فلنقل قلة أعداد الحيوانات بأنواعها سيكون أول ما تلاحظه داخل المحمية ، ولن يستطيع أنّ ينكرها أحد ، في الصباح الباكر تتجول أعداد مقدر من القرود بانوعها المختلفة وتظل حتى العاشرة صباحاً تركد مُشكِلة جو جميل من المساكشة زارعة بداخلك ذاك الشعور (أنت الآن داخل محمية طبيعية ) ، إلا أنّ رحلة البحث عن حيوان تصبح صعبة للغاية بعد ذلك ، حيث تظل تترصد كاميرات المصورين قدومها وغالباً لا تأتي ، على صعيداً شخصي ، شاهدت عدد مقدر من الغزلان بأنواعها المختلفة (كاتنبور ، التيتل ) ، وكذلك القرود ، وطائر ( جداد الوادي ) أكاد أجزم أنه من أكثر الحيوانات الموجودة في المحمية و( الحلوف ) وبعضاً من الطيور والعصافير الملونة ، وظلت رؤية الأسد حلم يروادني إلى أنّ وطئت أقدامي الخرطوم . وضع صحي حرج أثناء تجوالي داخل المحمية وجدت( بقرة ) نافقة ، سألت أحدى العساكر المرافقين لنا فقال إنها واحدة من المشاكل العويصة التي تواجه شرطة الحياة البرية والمسؤولين عن المحمية ، حيث تضِل بعض الحيوانات الأليفة طريقها إلى داخل المحمية وقد تنقل بعض من الأمراض للحيوانات الموجودة ، وهذا ما أكده الطبيب البيطري مدد العشاء ل(المستقلة) قائلاً إنّ من أكبر المهددات التى تواجههم هي احتمالية انتقال الامراض من الحيوانات الاليفة إلى الحيوانات بالمحمية مضيفاً أنه لا توجد (عيادة) في الوقت الراهن ولا حتى ( صيدلية ) داخل المحمية لمعالجة الحيوانات ، كما أنّه الطبيب البيطري الوحيد داخل المحمية ، وإنه في حالة العثور على حيوان في وضع حرج يبذلون جهدهم لمساعدته بما يملكون من معوينات فقط ، مقراً بأن الوضع الصحي بالمحمية ليس للحيوانات وإنما حتى الزوار في حال تعرض أحدهم لظرف طارئ صعب للغاية ، حيث لا توجد حتى إسعافات أولية لإنقاذ المصابين . تجارة المخدرات مهددات عديدة تواجه المحمية في الوضع الحالي جائت على لسان مدير شرطة الحياة البرية ومدير الشؤون العامة بالحياة البرية عقيد عادل خلال تحدثه ل(المستقلة) قائلاً تواجهنا مهددات كثيرة جداً يأتي في أولها الرعي الجائر للحيوانات الأليفة ، سواء كانت ماشية أو ضان ... الخ ، والتي ترعى في المحمية ، مسببة بذلك تدمير كبير في البيئة و إنقراض الأعشاب (الكَلى) . إضافة إلى الصيد الجائر ، فهناك عدد مقدر من المواطنين يمارسون الصيد غير المشروع ، يقتلون الحيوانات البرية خاصة (الغزلان) ويقومون بتسويقها في الأسواق ، مضيفاً استطعنا أن نحد من هذه الظاهرة ، إلا أنها مازالت مستمرة . أما المشكلة الأكبر هي الصراع بينا وأثيوبيا ، والتي يزرع بعض مواطنيها في أرضينا الصالحة للزراعة الشئ الذي خلق مشاكل كثيرة حاولنا تلافيها بالعديد من الإتفاقيات المبرمة بين الطرفين ، أهمها كانت إتفاقية أُبرمت قبل فترة قصيرة تقتضقي منعهم من الزراعة في أرضينا . يقول (عادل) أنّ هناك من يستقل مساحات المحمية الواسعة في تهريب المخدرات القادمة من إثيوبيا والإتجار بالبشر ، وكذلك تهريب الأسلحة والذخائر ، إلا أنّها مهددات ومشاكل يعملون على الحد منها ، مشيراً إلى أنّ دفاتر الشرطة لديهم مليئة بمثل هذه التجاوزات ، حيث ألقت قواتها القبض في الإسبوع قبل المنصرم على عدد مقدر من مهربي المخدرات داخل أراضي المحمية . واقع مرير محمية الدندر الطبيعية تُفوق مساحاتها مساحة دول عديدة ، لو وجدت الرعاية والاهتمام سوف تنافس البترول والذهب في الدخل وإستجلاب العملات الحرة ، بهذا الكلمات حاول أبن المنطقة أحمد حامد إيصال تأسفه على ضياع كل هذه الثروات الطبيعية إضافة إلى معاناة أهله من الإهمال الذي طال أمده ، فبالرغم من أنّ تلك البقعة من أرض الوطن ( حلوة ) الطبيعة ، إلا أنّ واقعها (مرير) ، فهل من مجيب ؟ . [email protected]