يجب التأكيد بأنه لا توجد في العالم قضية أو مشكلة داخلية ببلد ما تكون معزولة تماماً عن المحيط الإقليمي والدولي. وهذا نتاج طبيعي لوحدة العالم وتداخل وتشابك المصالح، ولا يمكن الحديث بشكل مطلق بأن العامل الداخلي للبلد فقط هو الحاسم وهو الذي يحدد مسار القضية. إن المجتمع الدولي والذي تشكله في الواقع البلدان الرأسمالية يمر بأزمة في حلقاته المختلفة. وهنالك بلدان على حافة الإفلاس وأخرى تكابد البطالة وتراجع النمو وتتصاعد من جديد النزعات الفاشية والشعبوية والاستعداد للحرب والعسكرة وأصبحت إدارة الفضائح من أهم الأسلحة لإلهاء شعوبها. هذه التوجهات الجديدة في السياسة الدولية وأصبحت من أكبر المخاطر ليس فقط على المكتسبات، ولكن مهدد حقيقي للدولة العلمانية. ولقد كشفت الهجرة والمهجرين قسرياً زيف وإزدواجية الخطاب والمعايير, وأن الحديث عن حقوق الإنسان هو مجرد شعار سياسي. إن المجتمع الدولي وفي أطرافه الفاعلة يواجه أزمات هيكلية وهذه الأزمات أقعدته في استلام زمام المبادرة ولإتخاذ مواقف قوية وحاسمة تجاه العديد من القضايا الدولية، لكن الآن فإن كل ما يقوم هذا الكيان هو جملة من المراوغات والمناورات ويضع الاعتبارات التي تحافظ على الوضع والمصالح. وهذا الاستنتاج لا يعني في الحصيلة النهائية الاستهانة والاستخفاف بالمجتمع الدولي على الرغم من التناقضات وتباين المصالح فهو لازال يقرر ويحرك الدمي، لكن الذي ينقصه هوالفعالية والجرأة، لقد جاء مقترح حوار الوثبة في هذه الأجواء التي اتسمت بالضعف والبلبلة في مواقف القوى النافذة إزاء الكثير من القضايا الدولية. إن إختلال موازين القوى الداخلية للنظام السوداني كنتاج للأزمة السياسية والاقتصادية وضغوط المجتمع لايجاد نظام متعاون ونهوض الحركة الجماهيرية، والتي عبرت عن ذاتها في انتفاضة سبتمبر 2013م كل هذه العوامل شكلت مناخاً لما يسمى بحوار" الوثبة" . فالحوار لم يكن نتاج قناعات ومراجعات أو رؤية استارتيجية حقيقية لتقدم خطوة في اتجاه الحل للأزمة الوطنية العامة، لكن كان مشروع البرنامج هو تكتيكات أملاها الظرف السياسي والاقتصادي والاجتماعي، أملاً في ايجاد زمن إضافي لإعادة ترتيب الفريق واستبدال بعض الوجوه في لعبة جديدة للكراسي . إن ما أفضى إليه الحوار من نتائج معروفة سلفاً لا يحتاج لاجتهادات. وإن الغالبية تدرك بأن النظام داخل الحوار مجبراً أو مدججاً بمفاهيم الفزاعات التي يلوكها بلا مناسبة كال"صوملة" أو" اللبننة"ولكن النظام سواء أكان بوعي أو بدونه فإنه أول من قام بتنفيذ الاستراتيجية الغربية في تفكيك الدولة بفصله لجنوب السودان، وإذا كانت اللبننة تعني الفوضى وغياب الدولة فإن النظام قد أفلح فيما لم تفلح فيه القوى المتحاربة في لبنان بفصل شبر من أرضه. إن الخطر الحقيقي على النظام لا تشكله القوى السياسية المعارضة التي تؤمن بالتعددية ووحدة الوطن على أساس الحقوق المتساوية واحترام التنوع . إن الصوملة واللبننة هي في الواقع سياسات الاقصاء والتهميش والعنف وإلغاء دور المؤسسات وتزوير إرادة المواطن في الاختيار. إن اللبننة هي نتيجة لأسباب وممارسات ، وليس هنالك قدراً اسمه الصوملة. إن مجرد التلويح بهذه الرايات لا يحقق التوافق والتراضي. وإن الفراغات فقدت الفعالية كأدوات للتخويف لأن البشاعة أصبحت حاله أليفة. هنالك أيضاً بعض القوى السياسية المعارضة تنطلق أيضاً من نفس منطلقات النظام ولا تختلف معه في الحديث عن الفزاعات وصحيح قد تختلف معه سياسياً، ولكن تتفق معه من حيث الوجهة الأيدولوجية في العالم السفلي للمصالح وهي تتخوف من أي تحولات عميقة وجذرية. فالتذبذب والتردد في المواقف له مبررات فكرية. ولو تناولنا المواقف الخجولة للمجتمع الدولي نجد أنها تعبير سياسي وهي تضع مصالحها في عمق كل معالجة. إن المواقف الجدية للقوى الفاعلة والنافذة في العالم تبدأ عندما تشعر بأن هنالك تهديداً حقيقياً لمصالحها. أما بخلاف هذا فإن كل المواقف يرفضها الواجب الإنساني وتبرئة الذمة. لقد فرضت القوى الغربية الكثير من العقوبات والمقاطعات على عدد من البلدان،لكنها لم تمضِ بعيداً في التطبيق والتنفيذ لمراعاة الحالة التي اتخذ من أجلها القرار ولكنها احتفظت بالعقوبات للابتزاز والتركيع عند الضرورة. إن هذا النظام كان يقول وعلى الملأ بأن العقوبات لم تؤثر على اقتصادها "الإسلامي" وإنها قادرة على التصدي فكيف لها اليوم أن تدعي ومن الناحية الأخلاقية أن تتحدث على فرض عقوبات من المجتمع الدولي على القوى الرافضة لحوار "الوثبة". على العموم هذه التناقضات أصبحت سياسة رسمية للنظام، وهذا نتيجة حتمية لنظام يعمل بعقلية القطاعي في سوق السياسة. هنالك قوى معارضة لا يشك أحداً في إخلاصها ووطنيتها إلا أنها انجرفت مع تيار الهبوط الناعم وتفلسف رؤيتها باللبننة و(سوريا والعراق) وترخي السمع لمقترحات المجتمع الدولي عن العقوبات، وتتجاهل فشل هذا المجتمع بقراراته في السودان وتتجاهل الإرادة الوطنية التي جعلت من حوار "الوثبة" شأناً يخص البيت الإسلاموي. قد يتم فرض عقوبات وواقع وهذا ممكن في مرحلة ما من الأزمة، ولكنه لا يمكن أن يصبح حلاً للأزمة وهنالك تجارب ودروس فلقد أجبرت المقاومة اللبنانية الجيش الأمريكي للخروج من بيروت وذلك فعل الصوماليون. وتحدت كوبا الحصار وقدمت نموذجاً لنظام صحي وتعليمي. وانبطحت روسيا في عهد فيكتور يلتسن وغيرها من الدول، فماذا كان نصيبها من الوعود والأوهام غير التجاهل وفرض المزيد من القيود للهيمنة والإذلال . ولقد أشرنا في مقدمة الموضوع بأنه من العسير تجاهل المجتمع الدولي لأنه موجود بالفعل في كل التفاصيل وصانع ألعاب ويظلل مساحات شاسعة، لكن هذا لا يعني الانحناء والاستسلام للظلم والقهر وإنتاج حلول تخدم طرفاً واحداً في المعادلة. وهنالك أيضاً رأي عام عالمي ضاغط ومتضامن مع الشعوب في قضايا السلام والعدالة والحرية وهذا الرأي العام يمكن الرهان عليه في خدمة القضية الوطنية. على العموم يجب أن تراهن كل القوى الوطنية والديمقراطية في بلادنا أولاً على مقدرات شعبنا على الرغم ما يطفو على السطح من مظاهر قد يفسرها بعض المحبطين والمشفقين بأنه استسلام وخيانة واللامبالاة دون قراءة لمعطيات الواقع، وهنالك من يطلق الدعايات بقوة النظام وضعف وتلاشي المعارضة وهذه حرب نفسية وخدع لتبرير نوايا أو مواقف وخلق بيئة نفسية للتعايش مع الفشل. فالقوة ليست هي عدد أفراد التنظيم او العسكر وترسانة الأسلحة ، إن القوة التي تفرض الخوف والاحترام هي العدالة الاجتماعية والانصاف والكرامة الإنسانية وتوفير الحقوق الأساسية واحترام التنوع والتعدد واحترام المؤسسات ، اما قوة التخويف والقهر الأعمى فإنها ليست دليل عافية، وإنما مؤشر على العجز وعدم الحيلة. إن المطلوب من كل القوى السياسية التي قلبها على الوطن هو أن توقظ إرادة الشعب الكامنة وجعلها السلاح في مواجهة كل أشكال الهبوط الناعم أو الحلول المعبأة أو المستوردة. الميدان