دوناً عن كل السنوات العشر السابقة بدا ياسر محمود، الشاب السوداني الحاصل على بكالريوس العلوم الزراعية، غير آبه بنتيجة (اللوتري) رغم تقديم أوراقه للمرة السادسة توالياً، بغية تحصيل الحلم بالوصول إلى أرض الأحلام الأمريكية، يقول ياسر مبرراً عدم اهتمامه بنتيجة اللوتري هذه المرة، بأن أمريكا في حقبة ترامب لم تعد هي الأرض التي يريد الجميع الارتياح بين جنباتها.. يقول ياسر "في مرحلة تبلور الشعبوية عليك أن تبقى حيث أنت"، يتراجع ياسر عن فكرته المتعلقة بالهجرة إلى الولاياتالمتحدةالأمريكية وبالتالي فهو يبدو قانعاً من إمكانية إيجاد وطن بديل. لكن هل تبدو رؤية ياسر الشاب غير الراغب في الفوز بفرصة (اللوتري) هي رغبة جماعية بدأت تتبلور على المستوى العام للشباب السوداني، أم أنها لا تعدو سوى كونها حالة (يأس) ضربت الشاب، وبالتالي، بنى على أساسها رؤيته في التعاطي مع رغبة الولاياتالمتحدةالأمريكية في جلب مواطنين جدد تمنحهم شارة الولوج الخضراء؟ في هذا الاتجاه يقول عبد الله عبد الرحيم، وهو شاب سوداني تخرج منذ ثلاث سنوات في إحدى الكليات العلمية، وحُفيت قدماه في سبيل الحصول على وظيفة يرى أنه يستحقها وقادر على القيام بواجباتها: "أمريكا دي لو جاتني في آخر محطة ما بمشي ليها"، يبرر عبدالله لرفضه فكرة (اللوتري) بأن الأمر في نهاية المطاف رهين بتوفير فرصة يمكنك أن تحصل عليها هنا، دون أن ترهق نفسك بأشياء أنت في غنى عنها، وكمن ينتهج نهجاً عاطفياً أكثر منه موضوعياً، يكمل: "يمكننا أن نجد أمريكا هنا في ذات هذه الأرض طالما أن الأمر رهين بتوفير قيم العدالة والمساواة وسيادة القانون". لا يتجاوز السوداني غير الراغب في الحصول على اللوتري هذه النقطة دون أن يطرح تساؤلاً: هل قيم المساواة والعدالة واللا عنصرية هي قيم متوفرة في النموذج الأمريكي الحالي؟ تؤكد مجريات الأحداث في مرحلة ما بعد تولي دونالد ترامب مقاليد الإدارة في البيت الأبيض، على أن صورة التعامل مع القادمين إلى أمريكا من خارجها باتت على درجة كبيرة من السواد، رغم أن المؤسسات الأمريكية المستقلة تحاول جهدها الانتصار لنموذجها المعلن باعتباره الأصل الذي يجب أن يمضي الآخرون في سبيل تحقيقه. بحالة من الحزن يستقبل طارق يوسف سوداني وحاصل على بكالريوس في الهندسة نتيجة عدم فوزه في اللوتري في العام السابق، ولكنه يكمل "ما أضيق الحياة لولا فسحة الأمل"، يسرع بخطواته من أجل الحصول على أورنيك التقديم الجديد فهو موقن بأنه لابد من أمريكا وإن طال السفر، يرى طارق في فرصة الحصول على الإقامة هناك قمة الأحلام، فالأمر يتجاوز فكرة أمريكا كدولة عظمى إلى ضرورة أن يهرب بشبابه من هذه الجهات التي تقتلك قبل أن تجهض حلمك.. مثل الكثير من أبناء جيله، يحمل طارق قناعة بأن دول العالم الثالث لا تعدو سوى كونها مقابر لأحلام مواطنيها وشبابها بالتحديد. أحد عشر فائزاً باللوتري من السودان هذا العام بحسب مهتمين ومتابعين للملف، ينبغي عليهم الانخراط في مشاوير ماكوكية بين أماكن سفرهم وموقع السفارة الأمريكية بسوبا، بغية إكمال الإجراءات المتعلقة بالحصول على (الفيزا)، ومن ثم بدء رحلة السفر إلى أرض الأحلام دون أن تغادرهم المخاوف من إمكانية أن يتم إرجاعهم من المطارات أسوة ما حدث في أوقات سابقة، لكنهم في كل الأحوال سيمضون في مسيرة أحلامهم حتى الوصول إلى بر الأمان المتوقع. يقول أحد الشباب وهو يحمل حقيبته مغادراً الخرطوم إلى أرض الأحلام الأمريكية (أوطان الآخرين لن تكون لك وطناً)، ويردف في التبرير لخطوته بأن ضيق الأرض التي أنجبتك كافٍ لأن تبحث لك عن أرض جديدة، يمكنها أن تحتوي بعض أحلامك الموؤودة هنا. حين تصل إلى هناك عليك البدء من نقطة الصفر ربما تصل وربما لا.. عندها تصعب عليك فكرة أن تعود من حيث انطلقت، يكتب ذات الشاب في صفحته على (الفيسبوك) بعد وصوله "حين نعجز فإننا نجعل من وطننا واحداً صحيحاً، علينا أن نبحث عنه في أماكن أخرى يمكنها أن تقدم لك بعض منه، لكن لا وطن غير ذلك الذي أنجبتك أرضه". يبدأ ياسر مشواراً جديداً داخل بلاده بعد حصوله على وظيفة في إحدى الشركات العاملة في مجال الزراعة، دون أن ينسى تمزيق الأوراق الخاصة برحلة بحثه عن اللوتري، ويكمل ساخراً: "أنا الموديني أمريكا شنو، مش أمريكا جايانا هنا؟"، وقريباً سيصب المسيسيبي في النيل. اليوم التالي