صاحب مكتب تقديم: أعداد الفتيات في ازدياد شاب: قدمت للهجرة لأنني أبحث عن الحرية والعدالة الاجتماعية صحفي: منحت الكثير لبلدي وحان الوقت للبحث عن بدائل جولة سجلها: أحمد المصيرف سهير شابة تبدو من ملامحها أنها في خواتيم العقد الثالث من عمرها، بدت عليها علامات الارتياح وهي تعود إلى صديقتها التي كانت بانتظارها خارج مكتب مكتظ بالشباب، وقالت لها "الحمد لله انتهيت من التقديم، وقولي يا رب يشيلوني"، دنوت منها وتعرفت عليها فأشارت إلى أنها تدعى سهير أكملت لتوها إجراءات التقديم لبرنامج الهجرة الى الولاياتالمتحدةالأمريكية، من خلال برنامج القرعة والاختيار العشوائي "اللوتري". بدا لي أمر تقديم الفتيات مربكاً بعض الشيء، غير أنها "سهير" التي حدثتكم عنها، بددت الحالة التي اعترتني حينما قالت ضاحكة "البنات في كل مراكز التقديم عددهن أكثر من الأولاد.. "الصيحة" تجولت على مراكز التقديم ووقفت على تفاصيل شباب ينشدون مغادرة أرض الأجداد بشتى السبل، بحثاً عن واقع يرون أنه أفضل. موسم الهجرة في كل عام فإن الفترة من الرابع من شهر أكتوبر إلى السابع من نوفمبر تمثل توقيتًا منتظراً للباحثين عن الهجرة نحو أرض الأحلام، فهي الفترة التي تنشط فيها إجراءات الهجرة نحو الولاياتالمتحدةالأمريكية عبر بنامج اللوتري، والذي جاء هذا العام مختلفاً عن سابقه حيث شهدت مراكز ومكاتب التقديم ازدحاماً واضحاً. ولاستقراء الأمر تجولت "الصيحة" على عدد من المكاتب، وبدأت جولتنا من الناحية الجنوبية الغربية لعمارة الذهب بالسوق العربي بوسط الخرطوم، الملمح البارز في هذه المنطقة المكتظة بالمارة خاصة خلال ساعات النهار هو وجود عدد من اللافتات التي وضعت خارج عدد من المكاتب، وهي تشير إلى أن هذه المكاتب تجري عمليات التقديم للوتري، دلفت إلى أقرب مكان، وهو عبارة عن استديو حوله مالكه إلى مقر للتقديم كما ظل يفعل كل عام كما أخبرني، استخدمت السلم المؤدي إلى الاستديو، ودلفت داخله فوجدت أن عدد من بداخله يبلغ خمسة جلهم شباب، لم أخفِ هويتي الصحفية، فقد بادرت بكشف هدفي من الزيارة، فعلى غير المتوقع في مثل هذه الحالات التي ينكمش فيها البعض حينما يعرف الصحفي بهويته، فقد سارع شاب عرف نفسه باسم محمد، وقال وهو مبتسم: "والله كده الصحفيين يا بلاش، ألحقوا الشعب كله غادر"، وقبل أن يمضي في حديثه الذي جاء بحسب تعابير وجهه ممزوجاً بين الحسرة والسخرية من الواقع، انتبه إلى هاتفه الذي كان يرن مرددًا أغنية لفنان شاب. بعدها عم الصمت المكان، وهو ما مكننا من الاستماع إلى مكالمته التي كان مضمونها أنه قام بوصف موقع الاستديو لإحدى الفتيات في الطرف الآخر للمكالمة الهاتفية. وعد اللقيا بعد الانتهاء من مكالمته، واصل محمد حديثه قائلاً: بصراحة قدمت من قبل مرتين، وقبل أن يكمل حديثه دخلت الفتاة التي كان يتحدث معها بالهاتف، وبعد أن تبسم لرؤيتها طالب مدير الاستديو بتصويرها وتكملة إجراءاتها، من ملامح الفتاة العشرينية ذات الجمال المتوسط استنبطت أن ما يجمع بينهما أكبر من علاقة حب، فحتى أقطع ظنوني باليقين سألت محمد عن الأمر فقال إنها خطيبته وشريكة حياته المستقبلية، قالها وقد بدت على ملامحها علامات الارتياح وغشتها انبساطة لا تستطيع فتاة مقاومتها خاصة حينما ينثر العاشق - أي عاشق - ماء الثناء والإطراء والغزل، على معشوقته. والمهم أن محمد عاد وأشار إلى أنه إذا وقع عليه الاختيار فإنه سيكمل إجراءات زواجه عليها ويصطحبها معه إلى أرض الأحلام، تاركاً الباب موارباً حينما قال بأنه أكمل لها إجراءاتها على أمل أن يبتسم الحظ لأحدهما. وهو الحال ذاته إذا وقع عليها الاختيار. عندها وجهت وجهي صوبها فوجدتها تبتسم كناية عن موافقتها على حديث خطيبها، غير أن محمد واصل حديثه قائلاً "سفرنا إجباري وليس اختيارياً"، مبررًا أن سعيه للهجرة إلى الولاياتالمتحدةالأمريكية بدعوى عدم عثوره على التقدير داخل بلده، سألته كيف يكون إجبارياً وأنت تكمل إجراءات التقديم بحرية كاملة، فأجاب وقد بدأت ملامحه وجهه تميل نحو الغضب: أبلغ من العمر خمسة وثلاثين عاماً، أحمل شهادة جامعية منذ سنوات في علوم الحاسوب، ورغم ذلك ظللت أبحث عن وظيفة تمكنني من تحقيق أحلامي والارتباط بمن اخترتها لتكوين أسرة ولكي أرد الدين لأهلي الذين قاموا بتربيتي والصرف على تعليمي، ولكن لم أعثر عليها،"فلماذا لا أهاجر". شعرت حينها أن الشاب محمد سيدخل في نوبة من البكاء وأن دموعه ستتسلل من مقلتيه، فأشحت بوجهي عنه حتى ينهي ثورته الخطابية التي تحمل قدراً وافرًا من الصدقية والمنطق. الخليج.. صفحة من الماضي تركت محمد وهو غارق في حسرته وأمانيه بأن يبتسم له الحظ، وسألت من كان يجلس بجواره ويدعى حسين، عن أسباب تقديمه وتفكيره في الهجرة إلى أمريكا وعدم طرقه أبواب دول الخليج، فأبدى امتعاضاً واضحاً من سؤالي، إلا أنه أجاب عليه قائلاً: رفضت عقد عمل بسائق خاص، في الخليج لأن أرباب العمل والكفلاء يطالبون بأداء مهام تبدو في غاية الغرابة ولا تحترم إنسانية المقيم، منوهًا إلى أن هناك من يطالب بغسل فناء المنزل، وأضاف: "لا لا.. الخليج ليس من ضمن اهتماماتي.. أخي يقيم في دولة خليجية، وكثيرا ما حدثني عن تردي وتدهور أوضاع السودانيين هناك". وعن أحلامه إذا شاءت الأقدار وتم قبوله للهجرة إلى أمريكا قال إنه يريد أن يؤسس لمستقبل أفضل بأن يكمل نصف دينه ويقتني منزلاً وسيارة، وأكد أنه يبحث أيضًا عن أوضاع يتمتع فيها بالحرية الشخصية لا تحكمها ضوابط تحط من قدر إنسانيته. موسم الهجرة في جولتنا هذه جلسنا إلى أحمد وهو مسؤول عن الإستديو الذي يقوم بعملية التقديم لمن يرغب مقابل سبعين جنيهاً. يقول "أحمد" إن فترة التقديم للوتري تعتبر موسماً جيدًا يدر عليهم أموال مقدرة في ظل أفول نجم استديوهات التصوير التي لم يعد يغشاها أحد بعد ثورة الهواتف الذكية إلا مجبراً، وقال أحمد إن عشرات الأشخاص من الجنسين قدموا للوتري عبر مكتبه، وقال بعد أن رسم ابتسامة على محياه "لولا وجود عدد كبير من المكاتب في هذه الانحاء من السوق العربي لكانت حصيلتي وافرة في موسم تقديم اللوتري. هجرة جماعية بعد الخروج من استديو "أحمد" توجهت صوب شارع القصر فقد تمت إفادتي بوجود مقدر من المكاتب، فلم أجد كبير عناء في التعرف عليها لجهة وضعها لافتات بالخارج كتب عليها "هنا يوجد التقديم للوتري"، فدلفت داخل مكتب وجدت أنه ليس استديو بل وكالة سفر وسياحة يديرها شاب يدعى محمد فاروق، طلبت منه إلقاء الضوء على مراحل الإجراءات، فقال بزهو إن استمارة التقديم تحوي عددا من البيانات الهامة ويتم استخراجها من الشبكة العنكبوتية "النت" في موقع لوزارة الخارجية الأمريكية، وقال إن المعلومات التي تتم كتابتها في الاستمارة هي الاسم، تاريخ ومكان الميلاد، العنوان الحالي، بالإضافة الى الإيميل الذي كشف عن أهميته الكبيرة، موضحاً أن المستوى الاكاديمي ايضاً من ضمن المعلومات المطلوب توضيحها وكتابتها، علاوة على وجود صور واضحة للمتقدم، وعن النساء قال إنهن ممنوعات من وضع المكياج، مؤكداً ان الإقبال هذا العام جاء متفوقاً على السنوات الماضية، واعتبر أن عدد الذين تقدموا كبيراً، وكشف أن اللافت في الأمر أن أسر بكامل أفرادها قدمت للوتري، مبيناً أن معظم المتقدمين من الشباب خاصة دون الثلاثين عاماً. الفتيات على خط الهجرة كما أشرنا في حالة سهير التي أوردنا قصتها في المقدمة، فإن اللافت للنظر من خلال جولتنا التي شملت عددا من المكاتب والاستديوهات أن عدد التفيات اللواتي قدمن للوتري كبير، وهذا ما كشف عنه مدير وكالة السفر محمد فاروق الذي يبرر تنامي هذه الظاهرة بعدم اشتراط أمريكا في التقديم أن تنال المتقدمة موافقة ولي أمرها، وحذر محمد فاروق من وجود محتالين عاملين في مجال اجراءات التقديم للوتري، وفسر حديثه قائلاً: البعض يحفظ الرقم الخاص للمتقدم وحينما يتم إعلان النتيجة ويقع الاختيار على المتقدم يتصل من أكمل له إجراءاته طالبًا منه مبلغاً باهظاً من المال، منوهاً الى أن إجراءات السفر بعد الاختيار كانت تتم في مصر ولكن تغير هذا الواقع وبات يمكن للمهاجر أن يكملها في السفارة الأمريكية بالسودان، وقال إن من حق الذي يتم اختياره عبر اللوتري أن يسافر الى أمريكا ويعود منها دون التقيد بالبقاء فيها لمدة خمس سنوات حتى ينال الجنسية الأمريكية. صحفي يطرق الأبواب بالقرب من مول الواحة لمحت صحفيا أعرفه، خرج من مكتب وابتسامته ارتسمت على محياه، اقتربت منه وسألته عن سر تواجده في أماكن التقديم للوتري، باغتني بالإجابة قائلاً إنه قام بالتقديم، ومضى بعيداً في قوله وهو متهلل الأسارير، وأتمنى أن يحالفني الحظ.. سألته عن ملاحظاته بوصفه صحفياً بمكاتب التقديم، فأشار الى أن عدد الفتيات اللواتي قدمن للوتري يبدو كبيراً، وكشف عن تواجد سبع من عشر منهن في المكتب الذي أكمل فيه إجراءات التقديم، وقال إن كل واحده فيهن تمني نفسها بالذهاب الى امريكا حيث الحرية والإنسانية والرعاية والعدالة الاجتماعية، لافتا الى أنه لاحظ وجود أسر بكاملها وهي تكمل إجراءات التقدم للوتري، وأكد أن الهدف من تقديمه تحسين وضعه المادي "لأن المرتبات لا تكفي"، مشيرًا الى أن عمره "ناطح" الأربعين وما زال المرتب ينتهي منه قبل انتصاف الشهر، لافتًا إلى أنه كصحفي قدم للوطن كل هذا العمر، وتساءل لماذا لم يقدم لي مثل ما قدمت له، خاتماً حديثه قائلاً: حتى الآن لم أتزوج وليست لي عربة، وأضاف: "أكون واضح معاك تمام الآن محفظة النقود بها عشرون جنيهاً فقط، وبعد كل هذه التفاصيل أليس لي حق التقديم". البنات في تزايد وفي أم درمان شارع الموردة كانت لي جولة أخرى والتقيت بصاحب استديو قال إنه ظل يعمل في برنامج التقديم للوتري منذ ثلاث سنوات، ويعتبره موسماً بالنسبة له، لافتًا الى أنه يعرف أشخاصا لم يحالفهم الحظ في المرات السابقة لكنهم لم يصابوا باليأس وقدموا هذه المرة أيضاً، وبالنسبة لعدد المقدمين رفض الإفصاح عنه بالتحديد، لكنه اعترف بأن النسبة كبيرة مقارنة بالسنوات الماضية، لافتاً الى أن عدد الفتيات في تزايد. بحث عن الأفضل في ختام جولتي التقيت جمال عبدالله الذي كشف عن أنه أكمل بمعية أسرته كل إجراءات التقديم الى أمريكا وأنه ظل يفعل هذا منذ سنوات على أمل أن يحالفه الحظ في كل مرة، وقال إنه يريد الهجرة الى أمريكا حتى يتحسن وضعه "ويعيش عيشة كويسة". أما الطالب الجامعي محمد فتمنى أن يحالفه الحظ، وأيضاً هذا ما تمنته شابة في العقد الثالث من عمرها.