في مقال الأربعاء الماضي تناولت فكرة الجمهورية الثانية في الخطاب الرسمي لقادة حزب المؤتمر الوطني الحاكم، وهي فكرة تتلخص في أن جنوب السودان كان عبئا ثقيلا على الشمال وبالتالي فإن انفصاله خطوة إلى الأمام في اتجاه تطور الشمال ويمثل فرصة ذهبية لسيطرة مشروع الإسلام السياسي على الدولة وفرض وصايته الكاملة على المجتمع بحجة أن الشمال أصبح مسلما بنسبة 98% ، وبالتالي يصبح حدث انفصال الجنوب مناسبة لتجديد الثقة في المشروع المأزوم الذي كان له القدح المعلى في الانفصال بدلا من أن يكون مناسبة لنزع الثقة من ذلك المشروع والتفكير الجدي في مشروع وطني بديل يتجاوز كل المشروعات الضيقة التي لن تقود البلاد إلا نحو مزيد من التفكك على أسس عرقية وجهوية. وبطبيعة الحال فإن المشروع المقصود هنا هو مشروع سيطرة الأقلية النافذة داخل حزب المؤتمر الوطني، تلك الأقلية المستقوية بالأجهزة الأمنية والعسكرية وذات السطوة والنفوذ المالي والإعلامي، والأخطر من ذلك أنها أقلية تبرر احتكارها للسلطة وسيطرتها على فضاء الحياة العامة على أسس عنصرية تعزف على وتر الهوية الإسلامية والشريعة الإسلامية والثقافة العربية في حين أنها تستبطن مشروعا سلطويا ضيقا يستند إلى الاستنفار الماكر والإجرامي لمشاعر الاستعلاء العنصري الكامنة بدرجات متفاوتة في لا وعي المجتمع، وبسبب هذا الاستعلاء هناك تواطؤ خفي على أن أهل الشمال النيلي والوسط لهم حق طبيعي في الانفراد بالسلطة والثروة في السودان، وبحكم انتمائهم الإثني هم (أولاد البلد) أي هم المواطنون من الدرجة الأولى ومن سواهم في الجنوب والغرب والشرق هم مواطنون من الدرجة الثانية وأشرنا إلى أن هذه الفكرة التي يروج لها بقوة ما يسمى ب(منبر السلام العادل) وصحيفته الانتباهة الناطقة بلسان حاله فكرة مأزومة، وأي مشروع وطني محترم يجب أن يكون من أولوياته استئصالها بالوسائل التعليمية والتربوية والثقافية، ومعالجة آثارها بالبرامج السياسية والتنموية، ولكن للمفارقة فإن المؤتمر الوطني سليل الحركة الإسلامية الحديثة في السودان صاحبة الادعاءات العريضة في السعي لنشر فكرة عالمية الدعوة الإسلامية كرسالة للحق والعدل والمساواة انتهى به الأمر إلى مشروع عنصري ضيق الأفق انحدر بالحياة العامة في البلاد إلى العصبيات البدائية، وإلى مشروع سياسي قوامه الجهة والقبيلة! وبتعميق النظر في حقيقة هذا المشروع يتضح بجلاء أنه لا يمثل مصالح أهل الشمال كما يدعي، ولا يمثل صمام الأمان والحماية لهويتهم الثقافية من تغول أهل الأقاليم الأخرى، بل يمثل مصالح أقلية متنفذة من الانتهازيين الذي يبررون مصالحهم الخاصة جدا وامتيازاتهم غير المشروعة وشراهتهم المقززة في نهب المال العام، يبررون كل ذلك بأنهم يدافعون على الشمال ضد من يستهدفون دينه وثقافته وحتى وجوده، وانطلاقا من ذلك تتفنن آلتهم الإعلامية في طمس الحقائق وتزييف الوعي ونشر الأوهام والأكاذيب حتى ينصرف العقل عن جذور القضايا وجوهرها إلى القضايا المصنوعة بدرجة عالية من الاحترافية في التضليل والتعمية! فبدلا من أن ينشغل أهل الشمال والوسط بالبحث عن سبل تغيير هذا النظام الذي أفقرهم وأفسد خدمتهم المدنية وحياتهم الاقتصادية بالفساد والمحسوبية، ودمر مشاريعهم المنتجة وعلى رأسها مشروع الجزيرة وتسبب في جوعهم وضائقتهم المعيشية وبطالتهم، وأهلك زرعهم وضرعهم بالجبايات والضرائب وكأنما التركية انبعثت فيه من جديد، وهمشهم سياسيا باحتكار السلطة لأقلية تدعي آناء الليل وأطراف النهار أنها تحكم باسم هذا الشمال وهي في الواقع لا تحكم إلا باسم مصالحها الضيقة، بدلا من أن ينشغل أهل الشمال بإنقاذ أنفسهم من هذا النظام يلتمسون لديه الحماية من الأخطار المحدقة بهم من قبل الجنوب المتربص بدينهم والغرب الحاقد على عروبتهم وجنوب كردفان والنيل الأزرق المتواطئتين مع الجنوب القديم المتربص والغرب الحاقد!! وكل هذه أخطار مصنوعة لتصرف البصر والبصيرة عن الخطر الحقيقي المتربص بنا جميعا في الشمال والجنوب والشرق والغرب وهو الدكتاتورية وملتها الضالة المضلة(ملة الاستبداد والفساد)! فالشمال الأقصى الذي أفرغه الفقر من سكانه ويلتهمه البؤس والجوع والسرطان، والجزيرة التي يقف أهلها على حافة الهاوية في ظل السعي المحموم لنزع مشروعهم منهم بعد ان تم تدميره وتحويله إلى (أطلال مشروع الجزيرة)، والمقهورين في مناطق السدود، وشباب الخرطوم ومدني وكوستي والأبيض وعطبرة ودنقلا وكسلا وبورسودان المحاصرين بشبح البطالة والفقر وانسداد أفق الحياة أمامهم مالم يؤدوا فروض الولاء والطاعة للحزب الحاكم وحتى إذا فعلوا ربما يقبضون الريح لأن تماسيح الحزب الحاكم لم يتركوا شيئا للأسماك الصغيرة، كل هؤلاء من أهل الشمال والوسط مصلحتهم الراجحة في التغيير السياسي والاقتصادي والاجتماعي الجذري في اتجاه دولة القانون والعدالة والديمقراطية والشفافية والتعددية، مصلحتهم الراجحة في هزيمة الفساد وشرطها اللازم استئصال الاستبداد وإقامة الحكم الراشد، مصلحتهم الراجحة في إعادة هيكلة العلاقة بين المركز والأقاليم في اتجاه الديمقراطية والعدالة حتى تتحقق المصالحة التاريخية بين كل مكونات الوطن ويطرد شبح الحرب الأهلية بشكل حاسم ونهائي لأن الشمال الفقير المتخلف نهضته مشروطة بالسلام والتنمية والاستقرار السياسي الذي يستحيل ان يتحقق دون تغيير جذري في منهج الحكم والإدارة، هذا من ناحية المصالح السياسية والاقتصادية، أما من الناحية الأخلاقية فليس من مصلحة الشمال أن يرتبط بالاستعلاء العنصري وتهميش وظلم شركائه في الوطن الواحد والتمسك بتراتبية استعلائية، ولذلك فإن الشمال لكي يستوفي شروط النهضة من الناحية الأخلاقية لا بد أن ينتظم المستنيرون من أبنائه وبناته في تعرية (المسكوت عنه) في نظرة الكثير من أهل الشمال والوسط لأهل الجنوب(قديمه وجديده) وأهل الغرب والشرق، فهذا (المسكوت عنه) إذا ظل كامنا في العقل الجمعي دون تعريته فكريا وأخلاقيا سيكون على الدوام مادة مبذولة في (سوق المواسير السياسي) يستغلها تجار الدين وسماسرة السياسة والنازيون الجدد في تكريس الأنظمة الاستبدادية التي تفرخ الظلم والمعاناة للجميع بمن فيهم أهل الشمال والوسط الذين تتم ممارسة الاستبداد باسمهم! وترتكب المظالم والانتهاكات في حق الأطراف باسم هويتهم وثقافتهم، ولذلك لا بد أن يتبرأ الشمال والوسط من هذه الأوزار ليس فقط بالإدانة اللفظية وتصحيح المفاهيم على أهمية ذلك، بل باتخاذ المواقف السياسية المنحازة لمن وقع عليهم الظلم والتهميش الهيكلي في الدولة السودانية والسعي لبناء مشروع وطني يرد لهم اعتبارهم. الجريدة [email protected]