بدأت الاستعدادات السودانية من أجل الاستفتاء على تقرير مصير الجنوب، بعد زهاء ستة شهور، وذلك تنفيذاً لاتفاق نيافاشا الموقع في 2005 بين حزب المؤتمر الوطني الحاكم في الشمال بقيادة الرئيس عمر البشير والحركة الشعبية لتحرير السودان بقيادة نائب الرئيس سيلفا كير. ونص الاتفاق، الى الاستفتاء، على ان تكون المرحلة الانتقالية الممتدة من 2005 حتى 2011، مرحلة اختبار للقدرة على ان يبقى السودان موحداً، عبر تقاسم للسلطة والثروة بين طرفي الاتفاق، ومرحلة اختبار للديموقراطية السودانية الوليدة والجاذبة لكل الفئات السودانية، في الشمال والجنوب. في تقويم المرحلة الانتقالية، يمكن القول ان هذا الاتفاق وضع حداً نهائياً للحرب الاهلية بين الشمال والجنوب، والتي استمرت حوالى 20 عاماً وأدت الى مقتل مئات الآلاف وتشريد الملايين وإهدار بلايين الدولارات. كما انه انطوى على قناعة، في الشمال والجنوب، بأن استمرار الحرب لن يكون مفيداً لأي منهما. وتالياً، اقتنع الطرفان بأن التوجه السلمي نحو الوحدة أو الاستقلال هو مصلحة مشتركة للطرفين. صحيح ان اتفاق نيافاشا أحد العوامل في انفجار أزمة دارفور، وانه لم يؤسس لعلاقة متكافئة بين الحكم المركزي والاطراف التي ظلت تشكو من التهميش والاهمال. لكن التوازن الجديد في السلطة الائتلافية شكل طوقاً للأزمات بين المركز والاطراف خصوصاً ان الحركة الشعبية التي كانت متحالفة، قبل الاتفاق، مع كل أشكال المعارضة السودانية، لعبت بعد الاتفاق دور امتصاص الأزمات من خلال نفوذها لدى حزب البشير. لكن الأهم من هذا وذاك هو انه للمرة الاولى، منذ انقلاب البشير على الحكم الديموقراطي العام 1989، تشكلت سلطة تعددية في الخرطوم، من خلال الائتلاف بين حزب البشير والحركة الشعبية. صحيح ان هذا الائتلاف لم يتح مشاركة اوسع في السلطة والقرار، لكنه وضع حداً لسلطة الحزب الواحد، وأعاد تشريع عمل احزاب المعارضة الشمالية وأتاح عودة قياداتها من المنافي الى البلاد. ويبقى ان التوازن في السلطة المركزية، وإن كان هشاً، فرض تعددية وتمثيلاً لفئات مختلفة إثنية ودينية وسياسية. أي ان المرحلة الانتقالية التي استندت الى الوحدة بين الشمال والجنوب، والى الائتلاف السياسي بين مكونات البلد، كان يمكن ان توفر أساساً متيناً لقيام سلطة مركزية تعددية وديموقراطية من دون أن يعني ذلك انتفاء اسباب ودوافع الخلافات بين طرفي السلطة. لكن مجرد وجودهما معاً في السلطة خلال المرحلة الانتقالية فرض على كل منهما ان يأخذ هواجس ومطالب الطرف الآخر في الاعتبار. وبهذا المعنى، كان يمكن ان تشكل الوحدة السياسية للبلاد ضمانة للتعددية واستبعاد العنف. يكاد يجمع المراقبون على ان نتيجة الاستفتاء ستكون لمصلحة تقرير المصير في الجنوب أي الاستقلال والانفصال. ويبدو ان ثمة دفعاً وزخماً دولياً في هذا الاتجاه، وتعهداً من البشير باحترام نتيجة الاستفتاء وتنظيم الانفصال سلماً، ما يطرح كثيراً من الاسئلة المتعلقة بقيام الدولة الجديدة في جنوب السودان، وهويتها وتوجهاتها الخ... لكن الانفصال في ذاته، سيترك الشمال في يدي حزب البشير والجنوب في يدي حزب سيلفا كير، أي ان النتيجة الفورية والمباشرة للانفصال هي انتهاء الحكم التعددي في السودان، في دولتيه الشمالية والجنوبية. واذا استندنا الى تجربة الانتخابات البرلمانية والرئاسية التي أُجريت في نيسان (ابريل) الماضي، يمكن القول ان الحزبين اعتمدا كل الوسائل الممكنة للاستئثار بالحكم وإبعاد الخصوم والمنافسين، سواء بالتزوير أو بالتهديد. ونقلت منظمة «هيومن رايتس ووتش»، في تقريرها المفصل عن هذه الانتخابات، شهادات تظهر حصول مضايقات واعتقالات عشوائية واستهداف شخصيات معارضة وصحافيين، في الشمال والجنوب. وبالنتيجة هيمن حزب البشير هيمنة مطلقة على الهيئات المنتخبة في الشمال، فيما سيطر حزب سيلفا كير منفرداً على نظيراتها في الجنوب. ولم تشذ الحكومتان اللتان شكلتا في الشمال والجنوب عن قاعدة الهيمنة الحزبية المنفردة. ولا شيء يظهر ان هذه الممارسة من الحزبين الحاكمين ستختفي مع نشوء الدولتين بعد الاستفتاء، لا بل يمكن التوقع ان الحزبين اللذين سيحكمان في الشمال والجنوب سيتحرران من أعباء المرحلة الانتقالية التعددية واعتباراتها وخصوصيتها وانهما سيحولان السلطة التعددية الحالية الى سلطة استئثارية وقمعية واستبدادية. عبدالله اسكندر