شاهد.. مقطع فيديو للفريق أول شمس الدين كباشي وهو يرقص مع جنوده ويحمسهم يشعل مواقع التواصل ويتصدر "الترند"    محلية حلفا توكد على زيادة الايرادات لتقديم خدمات جيدة    شاهد بالفيديو.. خلال حفل حاشد بجوبا.. الفنانة عشة الجبل تغني لقادة الجيش (البرهان والعطا وكباشي) وتحذر الجمهور الكبير الحاضر: (مافي زول يقول لي أرفعي بلاغ دعم سريع)    شاهد بالفيديو.. سودانيون في فرنسا يحاصرون مريم الصادق المهدي ويهتفون في وجهها بعد خروجها من مؤتمر باريس والقيادية بحزب الأمة ترد عليهم: (والله ما بعتكم)    شاهد بالفيديو.. لاعبون سودانيون بقطر يغنون للفنانة هدى عربي داخل الملعب ونجم نجوم بحري يستعرض مهاراته الكروية على أنغام أغنيتها الشهيرة (الحب هدأ)    محمد وداعة يكتب: مصر .. لم تحتجز سفينة الاسلحة    غوتيريش: الشرق الأوسط على شفير الانزلاق إلى نزاع إقليمي شامل    الدردري: السودان بلدٌ مهمٌ جداً في المنطقة العربية وجزءٌ أساسيٌّ من الأمن الغذائي وسنبقى إلى جانبه    أنشيلوتي: ريال مدريد لا يموت أبدا.. وهذا ما قاله لي جوارديولا    سوداني أضرم النار بمسلمين في بريطانيا يحتجز لأجل غير مسمى بمستشفى    محاصرة مليوني هاتف في السوق السوداء وخلق 5 آلاف منصب عمل    غوارديولا يعلّق بعد الإقصاء أمام ريال مدريد    امين حكومة غرب كردفان يتفقد سير العمل بديوان الزكاة    مدير المستشفيات بسنار يقف على ترتيبات فتح مركز غسيل الكلى بالدندر    نوير يبصم على إنجاز أوروبي غير مسبوق    تسلا تطالب المساهمين بالموافقة على صرف 56 مليار دولار لرئيسها التنفيذي    مناوي ووالي البحر الأحمر .. تقديم الخدمات لأهل دارفور الموجودين بالولاية    محافظ بنك إنجلترا : المملكة المتحدة تواجه خطر تضخم أقل من الولايات المتحدة    منتخبنا يواصل تدريباته بنجاح..أسامة والشاعر الى الإمارات ..الأولمبي يبدأ تحضيراته بقوة..باشري يتجاوز الأحزان ويعود للتدريبات    لم يقنعني تبرير مراسل العربية أسباب إرتدائه الكدمول    نشطاء قحت والعملاء شذاذ الافاق باعوا دماء وارواح واعراض اهل السودان مقابل الدرهم والدولار    بايرن ميونخ يطيح بآرسنال من الأبطال    بالصور.. مباحث عطبرة تداهم منزل أحد أخطر معتادي الإجرام وتلقي عليه القبض بعد مقاومة وتضبط بحوزته مسروقات وكمية كبيرة من مخدر الآيس    العين يهزم الهلال في قمة ركلات الجزاء بدوري أبطال آسيا    مباحث المستهلك تضبط 110 الف كرتونة شاي مخالفة للمواصفات    قرار عاجل من النيابة بشأن حريق مول تجاري بأسوان    العليقي وماادراك ماالعليقي!!؟؟    الرئيس الإيراني: القوات المسلحة جاهزة ومستعدة لأي خطوة للدفاع عن حماية أمن البلاد    بعد سحق برشلونة..مبابي يغرق في السعادة    جبريل إبراهيم: لا توجد مجاعة في السودان    خلال ساعات.. الشرطة المغربية توقع بسارقي مجوهرات    مبارك الفاضل يعلق على تعيين" عدوي" سفيرا في القاهرة    وزير الخارجية السعودي: المنطقة لا تحتمل مزيداً من الصراعات    لمستخدمي فأرة الكمبيوتر لساعات طويلة.. انتبهوا لمتلازمة النفق الرسغي    عام الحرب في السودان: تهدمت المباني وتعززت الهوية الوطنية    تنسيقية كيانات شرق السودان تضع طلبا في بريد الحكومة    مضي عام ياوطن الا يوجد صوت عقل!!!    مصدر بالصحة يكشف سبب وفاة شيرين سيف النصر: امتنعت عن الأكل في آخر أيامها    واشنطن: اطلعنا على تقارير دعم إيران للجيش السوداني    ماذا تعلمت من السنين التي مضت؟    إنهيارالقطاع المصرفي خسائر تقدر ب (150) مليار دولار    أحمد داش: ««محمد رمضان تلقائي وكلامه في المشاهد واقعي»    إصابة 6 في إنقلاب ملاكي على طريق أسوان الصحراوي الغربي    تقرير: روسيا بدأت تصدير وقود الديزل للسودان    تسابيح!    مفاجآت ترامب لا تنتهي، رحب به نزلاء مطعم فكافأهم بهذه الطريقة – فيديو    راشد عبد الرحيم: دين الأشاوس    مدير شرطة ولاية شمال كردفان يقدم المعايدة لمنسوبي القسم الشمالي بالابيض ويقف علي الانجاز الجنائي الكبير    وصفة آمنة لمرحلة ما بعد الصيام    إيلون ماسك: نتوقع تفوق الذكاء الاصطناعي على أذكى إنسان العام المقبل    الطيب عبد الماجد يكتب: عيد سعيد ..    ما بين أهلا ووداعا رمضان    تداعيات كارثية.. حرب السودان تعيق صادرات نفط دولة الجنوب    بعد نجاحه.. هل يصبح مسلسل "الحشاشين" فيلمًا سينمائيًّا؟    السلطات في السودان تعلن القبض على متهم الكويت    «أطباء بلا حدود» تعلن نفاد اللقاحات من جنوب دارفور    دراسة: القهوة تقلل من عودة سرطان الأمعاء    الجيش السوداني يعلن ضبط شبكة خطيرة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



انضمام السودان لمنظمة التجارة العالمية 2
نشر في الراكوبة يوم 15 - 07 - 2017

وعود برَّاقة و حملة تضليل جديدة يقودها هذه المرة السفير مصطفي عثمان إسماعيل (2)
بدأنا هذه الحلقات بتاريخ 13 مايو 2017م علي أثر عودة السيد مصطفي عثمان إسماعيل حينها بعد غياب طويل مهللا كعادته ومسوقا لبضاعة منتهية الصلاحية لا يعرف مصدرها ومواصفاتها جازما بأن مصير إقتصاد السودان هو الهلاك بدون الدخول في منظمة التجارة العالمية. وقبل كل شئ، نعتذر للقارئ الكريم للإنقطاع عن المواصلة أكثر من شهرين لأسباب خاصة جدا. ويمكن الإطلاع علي نص الحلقة الأولي في الرابط أسفل المقال لمجرد تنشيط الذاكرة والمتابعة.
وقد كان ملخص تصريح سعادة السفير حينها ما نصه (أن إصلاح الإقتصاد السوداني رهين بإنضمام السودان لمنظمة التجارة العالمية لأن الإقتصاد مُعوَج بسبب أن الواردات أكبر من الصادرات). وقد قلنا وقتها بأن ذلك التصريح يأتي ضمن سلسلة من التصريحات المماثلة لعدد من المسئولين المسوقين لنفس البضاعة الكاسدة في مناسبات عدة عن قرب إنضمام السودان لمنظمة التجارة العالمية كأنه فتحا عظيما سينقل البلاد في لمح البصر من حالة التدهور الإقتصادي والفقر إلي الرفاهية والإزدهار. وأن الضجة الإعلامية التي يمارسها النظام للترويج لإنضمام السودان لمنظمة التجارة العالمية لا تختلف في مضمونها عن حملات تضليل الشعب السابقة، كحملة الترويج لقرار بنك السودان بتعويم الجنيه السوداني تحت مسمي سياسة سعر الحافز، ورديفتها الخاصة برفع العقوبات، والتي صورتهما الحكومة وقتها وكانهما حصان طِروَادة أو عصي موسي، اللتان ستُغدِقان خزائن البنوك السودانية بفيض من العملات الأجنبية، وتقلب معادلة الميزان التجاري لصالح السودان.
ومن الصدف أن تأتي هذه الحلقة عقب مظاهرات هامبورج التي نقلتها الفضائيات والأسافير قبل أيام. وعلي الرغم من أنها ليست مقاما للحديث هنا، إلا أنها مرتبطة ارتباط وثيق بموضوع الحلقات وتطرح أمام المتأمل في مجري أحداثها وفي أبطالها عددا من الأسئلة التي تساعد علي فهم ظاهرة العولمة وتفسيرها. يا تري ما الذي يجمع عشرات الآلاف من الشيب والشباب، نساء ورجال (علي نفقتهم الخاصة ومساهماتهم الفردية التطوعية دون أن تربطهم جنسية واحدة أو بلد واحد أو فكر سياسي واحد أو منظمة واحدة ودون أن تنظمهم وتحركهم جهة واحدة أو كيان موحد) ويدفعهم لتنظيم مظاهرات وحركات إحتجاجات واسعة ضد العولمة وتحرير التجارة تلاحق وتحاصر مقر إنعقاد قمة ال 20 سنويا أيا كان مكان إنعقادها منذ تأسيسها عام 1999م وحتي تاريخ اليوم؟ وما الذي أدي لاتساع نطاق هذه الحركة الاحتجاجية وزيادة أعداد المشاركين فيها هذه المرة لما يزيد عن مائة ألف متظاهر في مدينة هامبورج؟ وما الذي يجعلهم يحاصرون، ليس فقط مقر إنعقاد القمة، بل أيضا مقر إقامة زوجة الرئيس الأمريكي ميلانيا ترمب؟ ويحرقون عددا من السيارات المصطفة في بعض الشوارع؟ وما الذي يدفع بشرطة مكافحة الشغب التصدي لهم بحشود غير مسبوقة تجاوزت أعدادها العشرين ألف شرطي بالعصي والهروات والغاز المسيل للدموع أمام العالم أجمع؟ وما الذي كان يدور بِخُلد السفير مصطفي عثمان إسماعيل وغيره من المسوقين لمنظمة التجارة العالمية من بطانة المشير وهم يتابعون تلك الأحداث؟
القضية المحورية للعولمة
وحتي نستطيع الإجابة علي هذه الأسئلة ضمنيا في سياق هذه الحلقة والحلقات القادمة نحاول فيما يلي إلقاء الضوء علي القضية المحورية التي تقوم عليها العولمة والتي تعتبر منظمة التجارة العالمية أحد أدواتها، وتاريخ وظروف نشأتها كظاهرة عالمية، وأهدافها وأشكالها كمدخل أساسي لفهم طبيعتها الطبقية قبل الخوض في مناقشة مبادئها وعدم ملاءمتها لظروف بلادنا الراهنة.
وكمدخل لتبسيط فهم المسألة نستدعي عبارة قالها أحد الأصدقاء من فطاحلة تجار السودان في حديث ودي قبل عدة سنوات وقد كنا نتحدث وقتها عن ظاهرة تدفق أعداد مهولة من المفصولين من الخدمة المدنية والعسكرية والخريجين العاطلين عن العمل في بداية التسعينات، بسبب سياسة التمكين التي انتهجتها الإنقاذ ذلك الوقت للعمل مضطرين كسماسرة في السوق وهم لا يملكون رؤؤس أموال ويعتمدون بشكل أساسي علي ثقافتهم العامة وبعض العلاقات الخاصة. وقد كان معظمهم مكان سخرية غير معلنة عند فطاحلة التجار لعدم خبرتهم الكافية بالسوق ولعدم إمتلاكهم لرأس المال ولكثرتهم وسرعة إنتشار وتداول المعلومات غير الدقيقة بينهم. فقد حكي لي صديقي التاجر المخضرم أن أحد هؤلاء الشباب وقتها عرض عليه بضاعة كان في حاجة ماسة لها. وعندما طلب منه معاينة البضاعة للتأكد من وجودها قبل الإتفاق أخذه الشاب للمخزن الذي توجد به البضاعة فإذا به يفاجأ بأن المخزن هو مخزنه الذي لا يمكن أن تُخطيه عيناه وأن البضاعة هي بضاعته بتمامها وكمالها، وأن العاملين في المخزن هم عماله بشحمهم ولحمهم. فأصبح منظر الشاب مثيرا للشفقة من شدة الحرج مما إضطر صديقي التخفيف عنه بوجبة معتبرة من الفول والسمك المُحَمَّر وبما تيسر من مصاريف كتعويض لجهوده التي باءت بالفشل. العبارة التي قالها لي في سياق حديثه العفوي الطريف كدرس من هذه الحادثة ومن حالة السوق تلك الفترة، تعكس خبرة قدامي التجار بأمور السوق، وتلخص في نفس الوقت كل ما نحن بصدده في هذه الحلقة. فقد قال لي علي حد تعبيره (لو جاك واحد من الشباب ديل أول شئ، أسأله "يا ولدي عندك بضاعة ولا سوق؟ فلو قال عنده بضاعة أنساهو، وإذا طلع عنده سوق أمسك فيهو قوي).
فالتجارة عموما تقوم علي السوق بل هي السوق بشكل أكثر دقة وتحديد (إن جاز لنا استخدام هذا التعبير). وحتي المهن التجارية الأخري من محاسبة بأفرعها المختلفة بما في ذلك المحاسبة الضريبية، وإدارة، وتسويق، وتحليل مالي وغيرها ماهي إلا مهن مكملة لعملية التجارة. والسوق في تعريفه البسيط هو المكان الذي يلتقي فيه البائعين والمشترين للتنافس في بيع وشراء العديد من السلع والخدمات المختلفة أو المتشابهة أو التي تمثل بدائل لبعضها البعض مهما كان موقع أو مستوي أو طبيعة أو تخصص هذا المكان ومهما أختلفت الوسائط والأدوات والنظم المالية والإدارية والقانونية والتقنية المستخدمة فيه، سواء كان ذلك في سوق عكاظ قديما، أو في ملجة الخضار بالسوق المركزي، أو في دِلالة السيارات بكرين بحري، أو في سوق تمبول، أو في ذريبة الأبيض للمحاصيل، أو في مول عفراء، أو في أحد مولات دول الخليج ومانهاتن ولندن وباريس الراقية، أو في سوق الحمراء للتجارة الحرة بعمان الأردن، أو حتي في بورصات لندن وطوكيو ونيويورك وغيرها من البورصات، أو في أحد مواقع التسوق عبر الإنترنت التي أصبحت سمة من سمات عصرنا الحالي. ولعل أصدق تعبير عن ذلك هو ما قاله الأسطورة جاك ولش رئيس مجلس الإدارة السابق لشركة جنرال إلكتريك الأمريكية خلال الفترة 1981-2001م وأحد أبرز علماء الإدارة المعاصرين: (لا يوجد شيء يدعي اقتصاد قديم، التجارة هي نفسها كما كانت عليه قبل 500 سنة سابقة، الناس تبيع وتشتري سواء كان ذلك من خلال عربة متنقلة أو من خلال الإنترنت) (there is no such thing as an old economy. Commerce is the same as it was 500 years ago. People sell and people buy whether it's from a wagon or the internet)
وانطلاقا من هذا التبسيط تصبح قضية السوق هي القضية المحورية في كل شئ متعلق بالتجارة وأن رأس المال مهما كان حجمه وجهته وجنسيته يبحث دائما عن سوق (كما في حالة مقولة صديقي سابق الذكر). ويشتمل هذا السوق علي سوق المواد الأولية والعمالة، وأيضا علي سوق توزيع المنتجات والخدمات النهائية والوسيطة. وأن أول وأهم مرحلة من مراحل دراسة الجدوي الإقتصادية للمشاريع هي دراسة ومسح السوق التي تمثل مؤشراتها العامل الحاسم في مفاضلة رأس المال بين الاستثمار في هذا المشروع أو ذاك. لا يختلف الأمر كثيرا في حالة استثمارات الأفراد عن استثمارات الشركات متعددة الجنسيات أو استثمارات الدول أوالكيانات الإقتصادية الدولية. كما أن هذه الحقيقة (أي حقيقة البحث عن السوق أو الأسواق) ظلت حقيقة قديمة منذ ظهور فائض الإنتاج و منذ أن عرف العالم الملكية الخاصة وعرفت إقتصاديات الشعوب التخصص وتقسيم العمل. ولم تقتصر فقط علي النطاق المحلي أو الإقليمي بل تعدتها إلي النطاق الدولي منذ حقب طويلة شهدها التاريخ البشري.
وبما أن السوق وفقا للتعريف السابق يتميز بالتنافس بين سلع وخدمات مختلفة أو متشابهة أو بدائل لبعضها البعض، وأن الهدف الأساسي لهذه المنافسة هو الربح فقد تميز تاريخيا بقضيتين في غاية الأهمية الأولي: إرتباطه بالدول التي تُعرف في عصرنا الحالي بالدول الغربية أو الدول الرأسمالية التي تؤمن بالملكية الخاصة وحرية السوق وتتبناهما كأيديولوجية ومبادئ تقوم عليها أنظمتها وسياستها وقوانينها وثقافتها. والثانية: إرتباطه بالمصالح الإجتماعية الخاصة للقوي أو الأقطاب المتباينة في هذه السوق أو تلك. سواء كانت تلك الأقطاب أفراداً أو شركات أو دول أو تحالفات إقتصادية. وبالتالي فهو سوق غير متجانس تتداخل فيه عدة دوافع مثل الرغبة في التملك والاستثمار والمضاربة وتحقيق الأرباح ومراكمة الثروات. ولذلك فإن هذه الأقطاب تتنافس وتتسابق أيضا علي إمتلاك الوسائل والأدوات والقوة التي تساعدها علي الفوز بالنصيب الأكبر أو الهيمنة علي تلك الأسواق ليس فقط علي النطاق المحلي أو الإقليمي بل علي المستوي العالمي أيضا. ومن هنا يأتي مفهوم العولمة.
مفهوم العولمة، أشكالها، وتاريخها كظاهرة كونية
علي الرغم من أن العديد من علماء التاريخ يذهبون إلي أن بدايات العولمة الأولى تعود إلى نهايات القرن السادس عشر مع بداية عملية الاستعمار الغربى لآسيا وأوربا والأمريكتين وإفريقيا بحثا عن الموارد والأسواق. إلا أنها أقدم من ذلك بكثير فبداية الفتوحات الإسلامية في عهد الخليفة عمر بن الخطاب وبداية تشكل الإمبراطورية الإسلامية، علي سبيل المثال، تُعبِّر عن شكل من أشكال العولمة لأنها إقترنت بالبحث عن الموارد والأسواق الجديدة بجانب نشر الثقافة الإسلامية. وهكذا كان الأمر أيضا في حالة الإمبراطورية الرومانية والإمبراطورية الفارسية وغيرها. وبالتالي فإن العولمة كظاهرة ليست بالجديدة بل هي عبارة عن توجه توسعي وتسابق محموم قديم قدم التجمعات البشرية نحو الهيمنة علي أسواق الموارد والسلع والخدمات ساعد تطور الإنتاج والتجارة والمواصلات والتبادل الثقافي علي تطورها، وكانت ولا زالت سمة التنافس والصراع الإجتماعي، كأحد خصائصها التي لا يمكن أن تتعضي عنها، تقدم للشعوب دائما خيارات متباينة للتفاعل الحضاري وتولد بينهم عولمة مناهضة للهيمنة والتوسع الرأسمالي بمختلف أشكاله.
وقد كانت العولمة، بهذا الفهم، تتم في الأزمنة السابقة بالتوحيد والضم العسكري والاستعمار الاستيطاني وبناء الامبراطوريات والهيمنة المباشرة علي أسواق المستعمرات ومواردها. فكل الذين درسوا تاريخ السودان يعرفون عن ظهر قلب أن الأسباب الرئيسية لحملة محمد علي باشا علي السودان هي الهيمنة علي موارد السودان من عاج وأبنوس وريش نعام وثروات جبال بني شنقول الطائلة من الذهب، بجانب تأمين منابع النيل وزيادة رقعة الأراضي الزراعية والحصول علي العمالة الجيدة والرخيصة للعمل كجنود في جيوشه لتوسيع إمبراطوريته وتأمينها ضد الغزو الأوروبي. وأن الإستعمار البريطاني للهند يمثل أجلي مظاهر الصراع والتسابق المحموم للهيمنة علي الموارد والأسواق. فالثراء الذي حققته كلٌّ من البرتغال وإسبانيا وهولندا، من خيرات الهند خلال الفترة التي أعقبت اكتشاف البرتغاليون لرأس الرجاء الصالح عام 1498م وحتي عام 1623م تاريخ هيمنة الإنجليز علي مضيق هرمز الذي كان يمثل أهم مراكز البرتغاليين، هو الذي شجع الإنجليز لاستصدار مرسوم مَلَكِيٍّ عام 1600 بتأسيس شركة الهند الشرقية الإنجليزية بالهند بهدف حرمان البرتغال وإسبانيا من احتكار التجارة الهندية التي كانت تعتبر من أكبر المناطق التجارية الرابحة خاصة تجارة التوابل والعطور. وقد تمددت هذه الشركة داخل الهند لتصبح هي الحاكم الفعلي للهند حتي إنتقال الحكم منها إلي التاج البريطاني مباشرة عام 1854م والذي امتد بدوره حتي عام 1947م.
وبرغم أن العديد من المهتمين بالعولمة قد درجوا علي التفرقة بين ما يعرف بالعولمة السياسية والعولمة الإقتصادية والعولمة الثقافية، والبعض الآخر يضيف بعض الأشكال الأخري، إلا أن كاتب المقال يري أن هذا التقسيم لا توجد له أسانيد يرتكز عليها وأن أساس العولمة هو أساس إقتصادي بحت بحثا عن الموارد والأسواق وأن التأثير السياسي والثقافي يخدم في الأساس المصالح الإقتصادية لدول النفوذ. ففي عصر الإستعمار أو الهيمنة المباشرة علي أسواق المستعمرات كانت دولة أو إمبراطورية الاستعمار تفرض فكرها السياسي وتنشر ثقافاتها علي سكان المستعمرات وتنشئ حلفاء لها من زعماء القبائل وملاك الأراضي وكبار التجار وشرائح من المثقفين في دول المستعمرات يحملون أفكارها وثقافاتها ليشكلون فيما بعد الأساس الذي قام عليه ما يعرف بالاستعمار الحديث بعد نجاح حركات التحرر الوطني ونيل دول المستعمرات إستقلالها السياسي وجلاء الاستعمار عنها، عبر التوكيلات التجارية والزراعية والصناعية وعبر الشركات متعددة الجنسيات وغيرها. فالإمبراطورية البريطانية التي تعتبر أكبر الإمبراطوريات في تاريخ العالم حتى الآن قد فرضت فكرها السياسي وثقافتها علي نطاق واسع جدا في العالم. فقد نشأت كنتاج لعصر الإستكشاف الأوروبي الذي بدأ بالاكتشافات البحرية العالمية للدول الأيبيرية في أواخر القرن الخامس عشر لتصبح في عام 1913م مهيمنة علي 33 مليون كيلومتر مربع أي حوالي ربع مساحة كوكب الأرض تقريبا، وعلى تعداد سكاني يقارب ال 458 مليون شخص، أي حوالي ربع سكان العالم حتي استحقت لقب الإمبراطورية التي لا تغيب عنها الشمس. فقد كانت الشمس بسبب اتساع نطاق الإمبراطورية تشرق دائما علي الأقل في أحد مستعمراتها الممتدة علي نطاق العالم طولا وعرضا. وعلي الرغم من أن هنالك العديد من مناطق العالم لم يطالها الإستعمار البريطاني إلا أن التأثير البريطاني لم يقتصر فقط علي المستعمرات البريطانية بل ظل واسع الانتشار في جميع بلدان العالم علي مستوي اللغة ومختلف ضروب الثقافة وفي التطبيق الاقتصادي والنظم القانونية والدستورية والحكومية.
فالعولمة إذن ليست كما يعتقد البعض مجرد ثورة علمية تكنولوجية واجتماعية تغطى العالم بشبكة دقيقة معقدة من نظم الاتصالات أنتجت أنماطا من المعايير والقيم السلوكية الغربية المقبولة قبولا عاما وتؤثر بشكل مباشر وفعَّال علي مختلف جوانب حياة البشر الخاصة والعامة وأنها وفقا لهذا الفهم تصبح غير قابلة للرد أو الإختيار أو التعديل أو ما يصطلح عليه بمصطلح (حتمية العولمة) المرتبط آيدويولجيا ارتباطاً وثيقاً باللبرالية الجديدة القائمة علي نظرية نهاية التاريخ والإنسان الأخير للفيلسوف الأمريكي فرانسيس فوكوياما، ونظرية صدام الحضارات أو إعادة صنع العالم لصمويل هنتنغتون. كما أنها (أي العولمة) أيضا ليست، كما يعتقد البعض الآخر، مفهوم مثالى رومانسي يسعي لبناء عالم موحد يقوم علي توحيد المعايير الكونية وتحرير العلاقات الدولية السياسية والاقتصادية والتقريب بين الثقافات ونشر المعلومات وعولمة الإنتاج والتبادل التجاري والإعلام وتكنلوجيا المعلومات وتسخير كل ذلك لمصلحة الشعوب. فمثل هذا المفهوم المثالي لن يتحقق إلاّ جزئيا علي المستويات الإقليمية بين قوى متكافئة إقتصاديا وسياسيا وثقافيا تتمتع بالندية والمصالح المشتركة. فالعولمة كما كانت سابقا في عصور الإمبراطوريات الإستعمارية أو في عالمنا المعاصر تقسم العالم إلي قسمين الأول: قوي كبري تتسابق علي أسواق الموارد والسلع والخدمات لها مصالح إقتصادية متبادلة ومؤسسات عابرة للحدود، وتعتبر هي القوي صاحبة النفوذ والتأثير الأكبر علي كافة الجوانب الإقتصادية والسياسية في العالم. والثاني: دول ضعيفة هي دول مستعمرة في السابق وتابعة ومرتبطة بمصالح الدول الكبري في الوقت الحالي عبر تلك الشركات عابرة للمحيطات وعبر مختلف وسائط وأدوات ما يعرف اليوم بالعولمة من منظمات إقتصادية دولية كصندوق النقد الدولي والبنك الدولي ومنظمة التجارة العالمية ومجموعة ال 20 وغيرها، أو عبر تكتلات وتحالفات سياسية وعسكرية، أو من خلال إتفاقيات سياسية وإقتصادية دولية.
فالمقصود إذن بالعولمة، في نظر الكاتب، أنها مصطلح حديث لظاهرة تاريخية قديمة كانت ولا زالت تُعبِّر في كل مرة عن مرحلة متقدمة من مراحل تطور النظام الرأسمالي، وأصبحت اليوم أكثر تطورا وتعقيدا في عصر هيمنة القطب الواحد وسيادة نظام عالمي جديد غير متكافئ ارتبط بحاجة تلك الدول للأسواق خارج حدودها للحصول علي المواد الأولية والعمالة الرخيصة ولتسويق منتجاتها النهائية والوسيطة لتجاوز أزماتها الإقتصادية الدورية وتوسيع نطاق هيمنة شركاتها الكبري علي الأسواق باستخدام وسائل تقنية وإقتصادية وسياسية وعسكرية مستحدثة دون الإعتبار لحقوق الشعوب في تلك الأسواق وللتلوث البيئي والثقافات واللغات المحلية والصناعات الوطنية .
أهم مراحل وموجات العولمة الحديثة
ولعل أهم مراحل العولمة الحديثة التي مهدت للعصر الحالي للعولمة هي أولا: الفترة 1870-1914م حيث أدي تطور وسائل النقل والمواصلات إلي هيمنة بعض الدول الرأسمالية الكبري خلال تلك الفترة علي أسواق جديدة ساعدتها علي مضاعفة معدلات إنتاجها وزيادة صادراتها، وازدات تبعا لذلك رؤوس الأموال الأجنبية بما يزيد عن ثلاثة أضعاف حجم الناتج المحلي لدول إفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية، وهاجر 60 مليون شخص من أوروبا إلي أمريكا الشمالية والعالم الجديد وزادت معدلات هجرة العمال إلي حوالي 10% من مجموع سكان العالم من الدول ذات الكثافة السكانية العالية كالصين والهند إلي الدول ذات الكثافة السكانية المنخفضة كسيريلانكا وفيتنام والفلبين وتايلاند وبعض الدول الإفريقية. وثانيا: الفترة 1950-1980 وهي الفترة التي شهدت نهوض حركات التحرر الوطني في العديد من المستعمرات، والتي شهدت ميلاد ما يعرف بالإستعمار الحديث. فقد تميزت هذه المرحلة بالتكامل بين الدول الغنية عبر سلسلة من عمليات تحرير التجارة متعددة الأطراف كاتفاقية التعرفات الجمركية والتجارة (الغات)، بينما اقتصرت خلالها صادرات الدول النامية علي المواد الأولية. وثالثا: الفترة التي أعقبت عام 1980 والتي ارتبطت ببدايات تطور تكنلوجيا المعلومات والاتصالات، وضاعفت خلالها مجموعة الدول الرأسمالية الكبري معدلات تبادلها التجاري وحجم ناتجها المحلي الإجمالي. ورابعا: المرحلة الحالية للعولمة والتي تتميز بعدم التكافؤ دون الإعتبار للحريات العامة وحقوق العمال والضمان الإجتماعي وحماية البيئة والمنتجات والحرف والصناعات والثقافات المحلية وأفرزت بحسب تقارير الأمم المتحدة والبنك الدولي، واقع من الفجوة الضخمة بين أقلية غنية تهيمن علي معظم موارد العالم وأغلبية محرومة (سمير أمين، فرانسوا أوتار، 2004). وتتميز هذه المرحلة أيضا بنمو حركة عولمة مناهضة للأبعاد الكارثية للعولمة الرأسمالية وهيمنة الشركات عابرة الحدود علي موارد الكون دون اعتبار لقضايا الغالبية العظمي من شعوب العالم المضهدة. وتحولت حركة مناهضة العولمة إلي حركة عالمية كبرى تضم الملايين من الأفراد وعشرات الألاف من المؤسسات والمنظمات الحقوقية والاجتماعية والإعلامية. والتي تأتي مظاهرات هامبورج المذكورة سابقا جزءا لا يتجزأ عنها.
ما هي أهم خصائص العولمة الحالية وما هي أدواتها والمفارقات والتناقضات التي أحدثتها؟ هذا ما ستتناوله الحلقة القادمة فتابعونا.
المراجع: (سمير أمين، فرانسوا أوتار، 2004)، مناهضة العولمة، مركز البحوث العربية والأفريقية، والمنتدى العالمي للبدائل، القاهرة، الطبعة الأولي، 2004م.
[email protected]


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.