(1) في السودان ثورة.. لا انتفاضة: يقول الثائر الأرجنتيني الأممي أرنستو شي جيفارا :( ما زال الأغبياء يتوهمون أن الثورة قابلة للهزيمة)! ولأن الثورة واحدة ، ثورة ضد الظلم والإستبداد، فإن الثورة التي يعنيها جيفارا ، هي التي يقوم بها شعبنا اليوم وتقوم بها شعوب في الجزائر وفي بلاد أخرى. الثورة ، ذلك الطوفان الذي يقتلع الإستبداد من جذوره. البديل الذي يؤسس لنظام مختلف في الكم والكيف. عمل لإرساء مفاهيم جديدة بشكل جذري ، وليس جراحة مبضعية محدودة. هنا يكون الفارق في المصطلح بين الثورة Revolution والإنتفاضة Uprising. فالأولى كما قلنا إرساء لنهج مفاهيمي جديد. تصوّر لعالم مختلف من حيث تركيبة شكل الدولة وعدالة المشاركة في الحكم وفي سبل كسب العيش. أما الإنتفاضة فهي توظيف جزئي لغضب شعبي قد لا يستمر طويلاً، وربما ينتج عنه تغيير في السطح لمنظومة الحكم وليس بالضرورة في رسم معالم الدولة. ربما تطمح الإنتفاضة لإزاحة نظام سياسي ، لكنها لا تذهب بعيداً في تشكيل وعي كاسح ينتظم شعباً بأكمله كما الثورة، حيث يتصدى للتغييير جيل لا يؤمن بالضرورة بطقس سياسي سابق إلا بقدرما يتفق وأطروحاته الثورية الجديدة لصناعة الحاضر والمستقبل. لذا فإن نقول في السودان اليوم ثورة ضخمة. يقودها جيل الشباب الذي يمثل حسب آخر إحصائية دولية 65% من تعداد سكان البلاد. ليس غريباً إذن أن يكون إصرار الشباب أكثر صلابة وثباتاً في المضي قدماً صوب المستقبل! وليس غريبا أن يضمر بغضاً لماضي البلاد السياسي يكاد يقترب من الطلاق البائن!! (2) ولأنّ الثورة عمل تراكمي.. لا تأتي الثورة من فراغ، فهي حصيلة عمل تراكمي قد يمتدّ أجيالاً. ليس من الحكمة إذن، بل ليس من الإنصاف أن يدّعي جيل من الأجيال إنفراده بصناعة الثورة دون الآخرين. نعم.. يمكننا أن ننسب لجيل الشباب تفجير الحلقة الأخيرة للثورة السودانية، لكن من الحماقة أن ينسب الشباب لجيلهم الحالي صناعتها. فالثورة تشكلت في رحم حصة من الزمن ، بدأت منذ ولادة الدولة الحديثة قبل أكثر من ستين سنة. وكلما قام شعبنا بانتفاضة، أخمدت قوى الثورة المضادة والرجعية نيرها بالتمهيد لانقلاب عسكري يقضى على أحلام شعبنا في قيام سودان جديد. وفي المقابل ، كلما جلس عسكري على سدة الحكم ونظر للعلامات العسكرية على كتفيه وللنياشين على صدره ، حسب أنه مخلّص الشعوب وباني مجدها الجديد. فيسيل لعاب الوصوليين والرأسمالية الطفيلية، ويتحلقون حوله ليطيلوا أمد الإستبداد وتمكين الفقر. ولينقسم شعب بأكمله إلى قسمين: القلة التي تملك كل شيء، والكثرة التي تقبع تحت خط الفقر ! The haves & the have-nots وهو ما فعله الإسلامويون في السودان طيلة ثلاثين سنة. وحين يقود الشارع جيل الشباب في بلادنا بهذه الكيفية من الحماس والعنفوان فاعلم أنت ما يجري على الأرض وليس انتفاضة قصيرة الأجل والأهداف. يفعلون ذلك لأنّ الثورة حلم، لذا فقد اكتظ الشارع والحافلة والبيت وحفلات الأعراس بأنماط من الأهازيج والشعر والهتاف المنغم لم تشهده الإنتفاضات التي قام بها شعبنا منذ التظاهرات ضد المحتل قبل 63 عاماً. تظاهرات طابعها السلمية التي أصابت خطط العدو في مقتل. ونعود لنقول لجيل الشباب بأن تراكمية الثورة تعني أنّ إدارة دفتها تتوزع بين مسيراتهم السلمية المليونية دقيقة التنظيم، والتي أفقدت النظام الدموي صوابه، وحرمته أن يستلم زمام المبادرة .. وجهد النقابات المهنية وقوى التغيير ممثلة في الأحزاب السياسية والحركات المسلحة في إضعاف النظام الدموي على المناورة. إن إضعاف نظام الإنقاذ الدموي حصيلة جهدٍ تراكمي لشعب السودان كله. وهو عمل صاحب الإمتياز فيه شعبنا السوداني العظيم. (3) الثورة وأعداؤها.. الفرق بين الحلم والكابوس: وإذا كانت الثورة هي الحلم في حالة التمدد إلى الأمام ، فإنّ خصوم أعداء الثورة يعيشون الإحباط باستمرار كلما اتسعت دائرة الثورة وأصبحت وعياً ينتظم شعباً بأكمله. لا تغرنكم محاولات النظام اليائسة في إعاقة خط سير الثورة. حقاً الأغبياء وحدهم من يظنون أنّ بإمكانهم هزيمة الثورة. فنظام الأخوان المسلمين الذي هيمن على مقاليد الأمور لثلاثين سنة، عازلاً شعباً بأكمله من المشاركة في السلطة، مسيطراً على مفاصل الإقتصاد وموارد البلاد باسم "التمكين"، يتباكى سدنته وهو يحتضر بأن الثورة قامت بإقصائهم! صفاقة لا حدود لها!! قلت بأن أعداء ثورات الشعوب يمارسون الحلم في صورته العكسية (الحلم حالة كونه كابوساً). ما ينبغي أن تنتبه له فيالق الثورة السودانية أنّ كل المحاولات اليائسة من لدن الدولة العميقة (الحاكم في الظل حالياً) ربما تؤخر قطار الثورة بعض الوقت، لكنها قطعاً لن تقضي عليها، ذلك لأنّ آليات الثورة وميكانيزم حركتها منسجم تماماً مع جريان نهر التاريخ. ميكانيزم الثورات لا يعرف العودة للأمس إلا بقدرما يأخذ منه العبرة لبناء الحاضر والمستقبل. بينما يتعلق أعداء الثورة بحلمهم في إعادة عجلة التاريخ إلى الوراء. وذاك شيء مستحيل!! (4) لن تحصد أجهزة الأمن و كتائب الظل والجنجويد غير الفشل تلو الفشل: لا يخفي على كل سوداني أنّ تظاهرات شعبنا منذ الإنفجار الكبير لثورته في ديسمبر 2018 ما برحت يلاحقها رصاص أجهزة الأمن وكتائب الظل والشرطة والجنجويد. أجهزة مؤدلجة، تأتمر بقادة النظام الذين دفعوا بما يعرف بالمجلس العسكري ليقوم لهم بدور التغطية، وتمثيلية الزج بهم في السجن وهم طلقاء ، يديرون معركتهم الأخيرة من وراء الكواليس. وكلما أقاموا مجزرة ضد شعبنا وأردف المجلس العسكري مبرراً القتل وأن "مندسين" هم من فعل ذلك، كلما اتسعت التظاهرات السلمية المليونية ! وهكذا يأخذ حلمنا – نحن شعب السودان – طريقه صعداً لبناء دولة المواطنة، الدولة المدنية الديموقراطية التي يتساوي فيها الكل بعيدا عن الجهة واللون والعرق والدين. وفي المقابل يمارس القتلة من قادة وأجهزة النظام المحتضر حلماً إلى الخلف..ولأن نهر التاريخ لا يجري عكس مصبه فإنّ حلمهم بعودة نظام "الإنقاذ" يظل كابوساً يؤرق منامهم. وكلما لاحقهم الكابوس فأقاموا مجزرة في ركن من أركان وطننا الجميل اتسعت في المقابل رقعة المسيرة المليونية على امتداد السودان. وأمس يجهر أحد قادة الإسلامويين عبر إحدى الفضائيات بما يعني أنهم لن يقبلوا أن يتم عزلهم عن المشاركة في السلطة، وإلا فإن من يصوبون السلاح على رؤوس وصدور الشعب المسالم لن يتوقفوا عن هذا الفعل، ضاربا مثلا سخيفا بالحالة في سوريا وليبيا – الفزاعة التي لم تعد تخيف أحداً. قال الأخ المسلم صديق محمد عثمان – القيادي بحزب المؤتمر الشعبي: (من يقتل الناس في السودان قوى اجتماعية تطورت خلال 30 عاماً، وأن قوى الحرية والتغيير لا تريد الإعتراف بها ويجب أن تفاوضها بدل مفاوضتها المجلس العسكري، ليتوقف القتل أو سيستمر القتل مراراً وتكراراً. يهدد الكوز صديق محمد عثمان الثوار السودانيين الذين غطت مليونياتهم في كل أنحاء البلاد قرن الشمس بأنه إما أن تشركونا في السلطة يا دعاة الدولة المدنية أو إننا سنواصل قتلكم بالرصاص بدم بارد. هذا هو الكابوس بعينه. يحلم أحد قادة حزب ابتدع وشارك في النظام الفاشي المنهار ، وبعد 30 سنة من حروب الإبادة والتجويع لشعب بأكمله ..يحلم بأن يكون مشاركاً في سلطة أنجزتها ثورة قامت ودفعت فوجاً من الشهداء ، ذهبوا ضحية أفكار حزبه والهوس الديني الذي تربوا عليه. تلك هي الصفاقة بعينها ! أختم بجملة قصيرة أثق أنّها تستمد صدقيتها من تاريخ وفقه ثورات شعوب العالم ضد الإستبداد: نتحداكم أن تخمدوا لهيب ثورتنا يا كيزان السودان !! فضيلي جمّاع [email protected] لندن في 03/08/2019