نال المخرج السوداني أمجد أبو العلاء جائزة "أسد المستقبل" من أمير كوستوريتسا، في ختام الدورة ال76 (28 أغسطس/ آب 7 سبتمبر/ أيلول 2019) ل"مهرجان البندقية (فينيسيا) السينمائي الدولي"، عن باكورته الروائية "ستموت في العشرين". أثار الحدث بهجة العديدين من أهل السينما، وأدخل الفرحة إلى قلوب سودانيين كثيرين، خصوصًا أنّ الفيلم يستحق هذا الفوز، ويساهم في وضع السينما السودانية على خارطة المهرجانات الدولية، بعد أعوام من الغياب. "ستموت في العشرين" يروي حكاية شاب يدعى مزمل، يتنبأ له شيخ صوفي بأن حياته ستنتهي فور بلوغه 20 عاماً. في الآتي، حوار أجرته "العربي الجديد" مع أمجد أبو العلاء في البندقية. * هل كانت السينما شغفك منذ الطفولة؟ * كنتُ طالباً أبلغ 14 عامًا في مدينة "مدني" في ولاية الجزيرة، حيث صوّرتُ الفيلم، أمضي النهار مع العائلة في البيت، بينما يحاولون العثور على فيلم مناسب ليشاهدوه في التلفزيون. فجأةً، ظهر مشهد من فيلم مصري، أثار انتباههم واستهجانهم في آن معًا، وكان عنوانه "حدوتة مصرية". المشهد تحديدًا كان مشهد عملية القلب المفتوح للبطل، وشخصيته كطفل صغير يتجوّل داخل قفصه الصدري، مُقيماً محاكمات لأسرته، في ما يشبه الحلم. عندها، صرخ الجميع: "دي شنو العوارة دي؟ ده شنو المخرج المجنون ده؟ ده أكيد يوسف شاهين"، وغيّروا القناة بضجر. شعرتُ بالدهشة عندما اكتشفتُ أنّهم يقصدون المخرج. كيف تعرّفوا بسهولة إلى الفيلم؟ ما هو الشيء الذي يجعل مواطناً بسيطاً من السودان يتعرّف إلى أسلوب مخرجٍ ينتمي إلى بلدٍ آخر، من مشهد واحد في منتصف الفيلم؟ ولماذا المخرج؟ لماذا لم يعرفوا الفيلم باسم ممثّل دور البطولة؟ لم يقولوا "فيلم نور الشريف" مثلاً، بل أشاروا مباشرةً إلى شاهين. من يومها، بدأ الفضول يراودني. طلبتُ من ابن خالتي، الذي يعيش في العاصمة، أن يجمع لي ما يستطيع من شرائط فيديو لهذا المخرج المجنون. وددتُ أن أعرف مَن هو. ثم، شيئاً فشيئاً، أردتُ أن أكون هذا الصانع القادر على التحدّث، بأيّ أسلوب كان، حتى لو لم يعجب الآخر. في منتصف التسعينيات، انتشرت ظاهرة سمّاها السودانيون "حرامي الدش"، وهي تركيب جهاز لالتقاط القنوات الفضائية بشكلٍ غير قانوني، في ظلّ النظام الإسلامي، الذي كان يحرّم ال"ستالايت" بهوس، إلى حدّ أنّه كانت هناك طائرات استطلاع تابعة للجيش تحلّق فوق أسطح البيوت، للاستدلال على أصحاب الصحون اللاقطة. تخيّل. كان الشباب المحرومون مهووسين بالقناة الفرنسية الخامسة، فقط لأنّها كانت تعرض أفلاماً لا تخضع للرقابة. كانت فرصة لهم لاقتناص مَشاهد حبّ وعري. لكنّي كنتُ أمتلك دافعاً إضافياً، وهو مشاهدة السينما الأوروبية. لاحقاً، بعد عودتي إلى الدراسة الجامعية في دبي، زاد اهتمامي بالسينما. أذكر زياراتي المتكرّرة إلى محلات "فيرجن" لشراء ال"دي. في. دي.". لم أكن أجد سوى الأفلام الأميركية التجارية، ما كان يدفعني إلى طلب أفلام أوروبية غير متوفرة، كانوا يطلبونها خصيصاً لي، مقابل أجور إضافية. ورغم أنّي طالبٌ حينها، كنتُ أبدِّد مصروفي على ال"دي. في. دي."، وكنتُ أشعر بسعادة غامرة. * كيف تعلّمتَ إنجاز الأفلام؟ * في البداية، وقف أهلي حاجزاً أمام هذا الطموح. المفارقة أنّ أسرتي كانت متحرّرة جداً، لكنّي في المقابل كنتُ متمرّداً جدّاً على المستوى الفكري. كانوا يرون أنّه من الطبيعي على ابنهم أنْ يصبح طبيباً أو مهندساً، بينما كان حلمي أنْ أدرس في "فيميس" الفرنسية. منذ المراهقة، تمرّدتُ على كلّ شيء، على الدين والجنس والسياسة. اصطدمتُ بالمجتمع على نحوٍ جعل أهلي يتقبّلون اختلافي. إلّا أنّهم لم يتقبّلوا أنْ أمارس هذا التمرّد كمهنة. كانت المساومة الأقرب أنْ أدرس في معهد السينما في القاهرة، فرفضوا أيضاً. وجدتُ نفسي أدرس الشريعة والقانون في جامعة الإمارات. من دون معرفة عائلتي، تحوّلتُ في السنة الأولى إلى دراسة الإعلام. كان ذلك أقرب ما في مقدوري لدراسة السينما. وجدتُ حلولاً كثيرة، منها أنّي استحوذتُ على كاميرا كلية الإعلام 4 أعوام كاملة في غرفتي في السكن الجامعي، بذريعة تصوير الأفلام. كوّنتُ فريقاً سميته Group For Ever، أنجز 12 فيلماً قصيراً. شاركنا في مهرجانات طالبية في العالم. المضحك أنّي وضعت الكلية أمام الأمر الواقع، فكان الطلاب الراغبون في تصوير المشاريع يحصلون على التصريح والأوراق الضرورية لاستخدام الكاميرا من غرفتي. خلاصة ذلك، أنّي وصلت إلى حلول وسط لكيفية أن يصنع الشخص الشغوف بالسينما سينما من لا سينما، حتى لو وُضع وأجبر على البقاء في المكان الخاطئ. * كيف اكتشفتَ رواية حمور زيادة؟ * ذات يوم، توفيت جدتي التي كانت المسؤولة عن تربيتي. توجّهتُ لحضور العزاء. في طريقي من دبي إلى السودان، طالعت المجموعة القصصية "الموت عند قدمي الجبل" لحمور زيادة. وجدتني مشغولاً بالموت، ومهموماً به، كوني لا أتحمّل فكرة الموت. بدأتُ أتساءل: لماذا تموت جدّتي، وهي إنسانة تحبّ الحياة، وممتلئة بها؟ كانت علاقتي جيّدة وبسيطة بحمور زيادة. أبدى فضولاً كبيراً لمعرفة كيف سأحوّل روايته إلى فيلم. لم يتدخلّ في شيء. الفيلم يتحدّث عن الموت، لكن أيضاً عن التحرّر. كيف نتمرّد على القيود، ونخرج من القوالب التي يجبرنا المجتمع على أن نقبع فيها. * هل هناك مخرج من الذين تحبّهم كان له تأثيرٌ في الفيلم؟ * واضحٌ من حكايتي السابقة أن حبّي للسينما انطلق مع يوسف شاهين. بعد تعمّقي في سينماه، بدأتُ أتعرّفُ إلى كيفية قراءة المخرج للمجتمع والسياسة والعالم، من وجهة نظر ذاتية بحتة. مخرجون آخرون شغفت بهم لاحقاً، كاليوناني العظيم ثيو أنغلوبولوس، والسوفييتي أندره تاركوفسكي، الذي أعتقد أنه مؤثّر في تفكيري بشكل أكبر. لكن الأهم أن شاعرية هذين المخرجين تحديدًا طاردتني في تكوين طريقة السرد السينمائي. عندما أنجزتُ "ستموت في العشرين" كنت واضحاً في ذلك، إذ إنّي قدّمتُ تحيات في 7 مَشاهد ل7 مخرجين: شاهين وشادي عبد السلام وأنغلوبولوس وتاركوفسكي وجيوسيبي تورناتوري، والمخرج السوداني جاد الله جبارة. أثناء تصوير أحد المَشاهد، تلقيّتُ نبأ وفاة المخرج المصري أسامة فوزي. من دون قصد، وجدتني أُعيد ديكوباج مشهدٍ معين، ليتحوّل إلى تحيّة لروحه، فخرج المشهد بعد تعديله أجمل ممّا كان مُقدّراً له أن يكون، وحمل برأيي ثقل حزننا كفريق عمل على وفاة هذا السينمائيّ، الذي كنّا ننتظر منه الكثير. * هل كان صعباً إيجاد تمويل ل"ستموت في العشرين"؟ * في العادة، تكون مسألة التمويل صعبة، وتستغرق أعواماً. لكن، كنا محظوظين، أنا وشريكي المنتج السوداني محمد العمدة، والمصري حسام علوان، بأنّ أول تقديم لمنحة كان ل"مؤسّسة الدوحة للأفلام"، وحصلنا عليها. حينها، كانت المؤسسة تشارك في 4 أفلام مُرشّحة لجائزة ال"أوسكار"، وبالتالي فتح الحصول على منحتها الأبواب أمامنا، للحصول على منح أخرى، حصلنا عليها من ألمانيا والنرويج وفرنسا ولبنان ومصر، بالإضافة إلى عدد من ورش تطوير النصّ. * يا لها من مصادفة هذا التزامن، بين بدء تصوير الفيلم والاحتجاجات في السودان. * رغم الصعوبات كلّها، شعرنا بأننا نساهم في صناعة ثورة موازية. لكنّ الأهم بالنسبة إلينا أنّ ما حصل جعل السلطات الأمنية تصرف النظر عنّا، فلم تعد تهتم بأنّنا نصوّر فيلماً في قرية في ولاية الجزيرة. صناعة فيلم في السودان يُمكن اعتبارها ثورة بحدّ ذاتها. * هل تعتقد أنك مثّلتَ السودان في البندقية، أم نفسك؟ * أشعر بالفخر والسعادة لو وَجَد أي سوداني نفسه، أو وَجَد أنّي أمثّله في هذا الفيلم، رغم أنّي أرى علاقة المخرج بفيلمه علاقة ذاتية وشخصية خاصة جداً، وبالتالي أنا أمثّل نفسي وفيلمي يمثّلني أنا، بأحلامي وأفكاري وطموحاتي بالدرجة الأولى، ويمثّل السودان بطبيعة الحال، كفيلم يحكي عن بيئة وشخصيات وقصّة سودانية. إنّي ابن هذه البيئة، وطموحاتي تتلاقى مع طموحات أهل السودان. * هل سيُعرض الفيلم في السودان؟ * بدأتُ التحضير لهذا الفيلم في عزّ وجود الإسلاميين في السلطة، وحصلنا على تصاريح التصوير من حكومتهم، رغم تزمّتها، وصوّرنا مشاهد الفيلم أثناء بداية نهاية هذا النظام. كنتُ أنوي بطبيعة الحال عرض الفيلم في السودان أثناء وجودهم، ويا للحظّ، وصلنا إلى 6 إبريل/ نيسان حيث احتشدنا وسط الخرطوم مع عشرات الآلاف، ونجحنا في إزاحة النظام. فما بالك الآن، في دولة جديدة، نسعى جميعاً إلى تحقيق مدنيّتها بشكل كامل، بكلّ ما يعنيه ذلك من حرية تعبير. بالتالي، فإنّ إجابتي عن سؤالك هي: نعم، سأعرض هذا الفيلم في هذا الوطن الجديد. العربي الجديد