صدرت قبل أيام عن دار مدارات للنشر والتوزيع رواية للكاتب جمال محمد إبراهيم عن معاوية محمد نور(1909- 1941 م) بعنوان (نور: تداعي الكهرمان) قال جمال عنها "هذا عمل روائي عن سيرة الأديب السوداني الراحل مقتبس من وقائع حياته بممازجة مع مقتضيات التخييل الروائي دون مفارقة للوقائع الرئيسية في حياته ." ويضيف: " أن كثيرين كتبوا عن معاوية في أوقات مختلفة بل إن للأستاذ مجاهد علي خليفة رسالة ماجستير غير منشورة بعنوان" معاوية محمد نور: حياته وآثاره النقدية" كما أن من ضمن من كتبوا عن معاوية: " د.الطاهر محمد علي، أحمد محمد البدوي، الرشيد عثمان خالد، عبد القدوس الخاتم، السني بانقا، د.النور حمد، عبد الغني كرم الله، أميرة أبا يزيد، محمد بشير أحمد، سلمى الشيخ سلامة. وذلك على سبيل المثال لا الحصر" كما أشار جمال إلى أنه ألم بأطراف من سيرة الأديب الراحل من عدد من أقربائه وأصدقائه." وقد جاء إهداء الرواية كالآتي: " إلى روح شهيد الاستنارة في السودان معاوية محمد نور. "
أول ما يلفت النظر في الكتاب تداخل رواية جمال عن سيرة نور مع رواية إدوارد عطية أستاذه في كلية غردون "عربي يحكي قصته " التي يروي فيها طرفاً من سيرته الذاتية بين أم درمان والإسكندرية ولندن والخرطوم وذلك للعلاقة الوثيقة التي ربطت المعلم إدوارد بتلميذه وصديقه نور للدرجة التي تجعل من إدوارد أحد رواة السيرة الذاتية لنور.. وقد تقاطعت الروايتان في بعض الأحيان خاصة عندما تحدث الأخير عن أيامه في السودان.
يقول إدوارد في جزء من كتابه: " في السطور التالية انتقيت من دفتر يومياتي بعض جوانب عن قصة الفتى السوداني (نور) تلميذي العبقري على أيامي في كلية غردون التذكارية وهو تلميذي وصديقي الذي قضى نحبه لاحقاً في ظروف مأساوية . "
تطوّف بك رواية جمال بأيام نور في كلية غردون في النصف الثاني من عام 1926 ثم بالجامعة الأمريكية ببيروت ومن ثم في القاهرة بعد تخرجه منها. في ذلك يقول جمال على لسان نور: " القاهرة ايتها المدينة التي أحببت افتحي ذراعيك لي أنا الأسمر القادم مع النيل أحمل الطمي وغمامات الخصب وحرارة الشموس الحارقة من الجنوب أجئ إليكم.. ولكني ملكت ثروة من الشمال كما لامست حضارة الغرب ملامسة غير مباشرة ولكنها عميقة جئت متسلحاً بثقافات أوربا وهي تراث إنساني مشاع فليس في زكائبي غير مجلدات لكتاب وأدباء كثيرين من أوربا:هكسلي،وتي إسإليوت،وبرنارد شو، دي اتش لورنس،فولتير،وبلزاك،وموليير،نيتشه،وجوته.أولئك صحابي وأهلي وعشيرتي في دنياي الجديدة .
في هذا السياق أورد جمال قصة أول لقاء للفتى نور بالعقاد صدفة في مكتبة (الأنجلو) بالقاهرة في أحد أيام مايو 1931 وما جرى بينهما من حوار حول كتب برنارد شو أظهر فيه نور معرفة عميقة بكتابات الأديب الإيرلندي – والأدب الغربي عموماً – مما أثار إعجاب العقاد فدعاه لحضور صالونه الشهير للمشاركة في نقاشات كبار الأدباء المصريين.. ولعل هذا اللقاء هو الذي أوحى للأديب الكبير القول :
تبينت فيه الخلد يوم رأيته * و ما بان لي أن المنيّة آتية و ما بان لي أني أطالع سيرةً * خواتيمها من بدئها جد دانية
ما يميز هذه الرواية أنها أوضحت أن جمالاً قد طور لغته الروائية وملك ناصيتها فجاءت سلسة معبرة – بل شاعرية في بعض الأحيان – مما جعلها، في تقديري، أجمل من رواياته السابقة بمعنى أنه قد تفوق على نفسه كما يقولون..
وأكتفي بهذا القدر في هذا المجال تاركاً الحديث عن الجوانب الفنية في الرواية للمتخصصين في مجال النقد الأدبي .
في نصاعة اللغة و سلاستها اخترت من الرواية هذين النصين :
ص 16 (يقول الراوي على لسان معاوية: " تفتحت رغبتي لتعلم اللغة الأجنبية مما أسمع من نصائح خالي عثمان ولما كنت في المرحلة الابتدائية أتلقى دروساً في اللغة الإنجليزية فقد ظللت أزور بيته لأجلس إلى مكتبته العامرة واتصفح الكنب والمجلدات في لغتها الأجنبية تستهويني أغلفتها السميكة وطباعتها لا أفقه أكثر مدلولاتها لكنها تسحرني ومع مرور السنين وبعد أن التحقت بكلية غردون صرت أتحسس الكتب في مكتبة خالي فأجد لها رائحة نفاذة كأنها العطر تجذبني فأتعلق بها تعلق العاشق بمحبوبته كبر ولعي بها وصار هياما بل صار ولهاً ملك علي كياني فسكنت آخر أمري بمكتبة خالي ! ).
ص56 ( ويقول أيضاً : " سألتني زميلتي في الفصل وكنا وحدنا في مقهى وموسيقى حالمة تملأ جو المكان هل أعجبتك هذه الموسيقى الحالمة .. إنها سوناتا ضوء القمر لبتهوفن.. هل تعرفه؟! نعم.. نعم..أستطيع أن أطرب لهذه الموسيقى.. برغم أنها أبعد عن ما تعودت أن أسمع في بلادي.. كنت بالفعل أطرب لموزارت وباخ وبتهوفن لكن سرح خاطري بعيداً إلى أم درمان مدينتي الحبيبة وإلى أهل مدينتي وكيف إنهم يطربون في أحزانهم.. أجل إنهم يطربون في أحزانهم.. بل إنني لا أعرف شعباً فتن بأغانيه وأعجب بها فتنة السوداني وإعجابه بها: فأنت تجد الموظف في مكتبه والتاجر في حانوته والطالب في مدرسته والشحاذ والحمّار والعامل والمزارع والطفل كلهم يتغنون بها ويرددونها في كل ساعة وكل مكان! )
و بعد : هذا استعراض مختصر– و مخل لا ريب – لعمل روائي جرئ قام على حبكة فنية مبتكرة للسيرة الشخصية لأديب سوداني كبير التمع كشهاب ثاقب فترة قصيرة ثم أفل بصورة مأساوية وهو في أوائل ثلاثينياته .
و أرجو أن ألفت النظر بصفة خاصة إلى : العقاد في الخرطوم لزيارة قبر معاوية عام 1942 من ص 161 – 167 قصيدة العقاد ص 167و مطلعها ( أجل هذه ذكرى الشهيد معاوية * فيا لها من ذكرى على النفس قاسية).