يعتقد ايمانويل كانط أن الحرية عند الانسان هي هبة الطبيعة و أصل في وجود الانسان و ليست نتاج مجرى التاريخ و بالتالي تصبح فكرة معادلة الحرية و العدالة هي تحقيق لفكرة الشرعية و المثال و حينها يجسد المثال فكرة العدالة الناتجة من فكرة الشرعية التي تعكسها الديمقراطية و مسألة التبادل السلمي للسلطة. ينظر ايمانويل كانط الى أن طبيعة الانسان المجبول على الحرية هي الأساس في حركة الانسان و ما التاريخ الا لاعمال الطبيعة و هنا يتحدث كانط عن الأخلاق عند الانسان حيث تصبح الاخلاق كما المحرك أو قل موتور التاريخ و بالتالي يصبح كل من ايمانويل كانط و فولتير فيلسوف الثورة الفرنسية معتمدان في فكرهما عن الانسانية التاريخية و الانسان التاريخي على الاخلاق و ليس الدين. ايمانويل كانط هو أول من أسس لفكرة الانسان التاريخي و الانسانية التاريخية و بالتالي هو أول من فتح الطريق و من بعده الكانطيين الجدد لمحاربة فكرة نهاية التاريخ التي يعتقدها كل من هيغل و ماركس و بالتالي يرى ايمانويل كانط أن الانسان مرتبط بالطبيعة و التاريخ و بالتالي ان الانسان مجبول على الحرية و عليه تبرز الاخلاق و بالتالي تصبح الطبيعة هي الدافع و ليس التاريخ كما يعتقد كل من ماركس و هيغل و بدلا من التاريخ الذي يعتمد عليه كل من هيغل و ماركس نجد أن ايمانويل كانط يعتمد على العقلانية.
و عليه نجد عند ايمانويل كانط أن فلسفة الأخلاق التاريخية هي التي تخلق فلسفة التاريخ التي تقود الى فكرة السلام العالمي و تؤشر الى من يحكم العالم بعكس الماركسية و الهيغلية. و عليه نجد فيما يتعلق بالأخلاق كموتور أو محرك للتاريخ عند كل من كانط و من بعده الكانطيين الجدد نجد أن عبر الأخلاق يصبح الانسان عقلاني و مطيع لنفسه أولا و بعدها يصبح جزء من المجتمع فعقلانيته تجعله مطيع لنفسه أولا و من ثم مطيع لقوانين و لوائح المجتمع و من هنا تصبح السياسة شرط انساني لتحقيق معادلة الحرية و العدالة و روح مفتاح الليبرالية السياسية العائدة لفكرة الكانطيين الجدد في رجوعهم لفكرة العقد الاجتماعي في اعتماده على الأخلاق و ليس الدين.
و لكن يجب أن نسأل من اين لايمانويل كانط بكل هذه الأفكار التي تعتمد على الأخلاق و ليس على الدين؟ أنها يا سادة مستمدة من نظرية المشاعر الأخلاقية لأدم اسمث و بالتالي يؤكد استلاف ايمانويل كانط لفكر نظرية المشاعر الأخلاقية لأدم اسمث أن ادم اسمث كفيلسوف أخلاق كان يعتمد على الأخلاق و ليس الدين و أدم اسمث نفسه كان قبل أن يصادف فلسفة ديفيد هيوم كان يريد أن يصبح رجل دين و لكن بعد اطلاعه على فلسفة ديفيد هيوم قد تغير فكره و أيقن بأن الاخلاق و ليس الدين هي روح العقد الاجتماعي و بعدها رفض رفضا نهائيا أن يكون رجل دين.
لذلك يرى كثير من النقاد أن أدم اسمث في كتابه نظرية المشاعر الأخلاقية قد قدم للانسانية كثير من المفاهيم التي تفوق ما قدمه من فكر في كتابه الذي قد نال شهرة أكثر و هو ثروة الامم و في الحقيقة و في نظر تاريخ الفكر الاقتصادي نجد أن أدم اسمث قدم من الأفكار الاقتصادية في نظرية المشاعر الأخلاقية ما يفوق فكره في ثروة الامم. و عليه يجب ألا تفوتنا الملاحظة المهمة و هي أن ايمانويل كانط استلف بنجاح أفكار أدم اسمث في نظرية المشاعر الأخلاقية و عبرها قد أصبحت الطريق للكانطيين الجدد و فكرة تجديد العقد الاجتماعي المنتصر لليبرالية السياسية.
و بالتالي نجد أن اعادة قرأة أفكار أدم اسمث لم تكن راجحة الا بفكرة دمج كتابه ثروة الامم بروح كتابه الآخر نظرية المشاعر الأخلاقية لكي يتساوى مع نفع علم اجتماع منتسكيو و ديمقراطية توكفيل و أخيرا نظرية العدالة لجون راولز و قطعا لاننسى ايمانويل كانط الذي نجح في الاستلاف من كل من فلسفة الاخلاق لأدم اسمث و أفكار ديفيد هيوم و أستطاع ايمانويل كانط أن يعتمد على الاخلاق و ليس الدين بعكس ماركس الذي قد فشل فشلا زريع في أن يستلف من نظريه ديفيد ريكاردو عما يتعلق بنظرية القيمة.
لذلك نجد أن الكانطيين الجدد في قرأتهم الجيدة للأفكار قبل الحرب العالمية الثانية و ما بين الحربيين قضوا زمان انتهوا فيه لرأي بأن ماركس قد فشل فشلا لا نظير له في مسألة جسر الهوة التي تفصل مابين الفلسفة التجريببة الانجليزية و الفلسفة المثالية الالمانية التي قد شارفت الى غايتها في الهيغلية و الماركسية بعكس قدرة ايمانويل كانط الذي قد استطاع أن يستفيد من فلسفة كل من أدم اسمث في نظرية المشاعر الاخلاقية و كذلك أفكار ديفيد هيوم عن المعاهدة الأخلاقية بالتالي نجد أن الكانطيين الجدد قد رفضوا كل من الهيغلية و الماركسية كتجسيد لاهوتي غائي ديني و قد أصبحت كل من الماركسية و الهيغلية كدين علماني بشري لا تختلف عن بقية الاديان و فشلها في مسألة جلب سلام العالم الذي لا يتحقق إلا عبر عقلانية الانسان الذي يعتمد على الاخلاق و ليس الدين كما أسلفلنا القول عما يعتقد كل من كانط و فولتير.
فاذا أردنا ان نعطي مثال لقولنا أمامنا نقد عالم الاجتماع الألماني ماكس فيبر للماركسية و بعده نجد أفكار غرامشي المتأثر بأفكار ماكس فيبر فيما يتعلق بفكرة المثقف العضوي و دوره في تقوية دور الطبقات الصاعدة و قد أقنع الاحزاب الشيوعية في الغرب بأن تقتنع بنمط الانتاج الرأسمالي بعكس الاحزاب الشيوعية في العالم العربي و الاسلامي و من بينها الحزب الشيوعي السوداني الذي مازال يؤمن بالايدولوجية المتحجرة و فكرة انتهاء الصراع الطبقي. غياب أفكار الكانطيين الجدد من مكتبتنا السودانية قد جعلت كثير من المفكريين السودانيين يكتبون و هم تحت تاثير المنهجية التاريخية و خاصة الشيوعيين منهم و هم في مجافاة لمدارس حديثة قد غيرت نتائج البحث كمدرسة الحوليات الفرنسية منذ عام 1929 أي قد تزامنت مع الكساد الاقتصادي العظيم في اهتمامها بالتاريخ الاجتماعي و التاريخ الاقتصادي للشعوب في الآماد الطويلة فغياب المنهج جعل من أسيري المنهجية التاريخية في السودان أكبر أعداء للفكر و قد ألحقوا بالمشهد الفكري في السودان ضررا بالغ و النتيجة باينة في مشهدنا الفكري في السودان حيث يسيطر فكر وحل الفكري الديني سواء كان ذلك في خطاب الحركة الاسلامية و احزاب الطائفية أو في الحزب الشيوعي السوداني كدين علماني قد فشل كما فشلت الاديان من قبله في جلب سلام العالم لأن المجتمع ينبني على الاخلاق و ليس على الدين.
و أذا سألنا لماذا سيطر وحل الفكر الديني عندنا في السودان؟ فالاجابة موجودة من السهولة بمكان أي أن سيطرة المنهجية التاريخية الى الآن في كتابات و بحوث الشيوعيين السودانيين و كذلك عند تلاميذ يوسف فضل و تلاميذ الدكتور عبد الله الطيب و قد كرس لهم في مكتاباته مع طه حسين الذي كان يريد أن يصنع من الدكتور عبدالله الطيب طه حسين السودان نجد ان الدكتور عبدالله الطيب في رده لطه حسين بأنه قد إلتزم أن يكون بجانب التراث و الدين و الأمة و بالتالي نجد أفكار عبدالله الطيب و تلاميذه لا تعرف سبيل الى القطيعة مع التراث كما رأينا في أفكار كثير من المفكريين الذين قد ساعدهم المنهج الحديث كمنهج مدرسة الحوليات الفرنيسة في أنتاج المعنى الذي غاب من بحوث اسيري المنهجية التاريخية عندنا في السودان.
أفكار الدكتور عبدالله الطيب و الترابي تقليدية لا تعرف طريق الى القطيعة مع التراث كما رأينا في أفكار كل من محمد أركون و الفيلسوف التونسي يوسف الصديق أو أفكار عالم الاجتماع الطاهر لبيب أو أفكار هشام جعيط و السبب في ذلك لأنهم قد فارقوا سبيل المنهجية التاريخية السائدة عند مفكرينا في السودان و اتخذوا من المناهج المناهضة للمنهجية التاريخية سبيل قد وسع لديهم الرؤية فأصبحت فكرة لا تاريخانية النص الديني عند كل من الطاهر لبيب و محمد أركون لا تنتج إلا أمثال الدواعش و في نفس الوقت نجد ان الدكتور عبدالله الطيب قد إلتزم بأن يكون بجانب التراث و الدين و الأمة لا يعرف سبيل الى القطيعة مع التراث شأنه كشأن الترابي الذي قد اصطدم بحائط الفكر الأصولي و استحالة التأصيل كعنوان لأنتاج المعني قد اشتغل عليه محمد أركون بفضل مناهج حديثة غابت عن رفوف المكتبة السودانية و كذلك يقف الدكتور عبدالله الطيب في وقوفه بجانب التراث و الدين و الأمة مجافي لأفكار يوسف الصديق الفيلسوف التونسي في ابداعه المتجسد في كتابه نحن لم نقراء القرأن بعد مقارنة بشرح عبدالله الطيب للقرأن و ترتيل الصديق محمد حمدون عبر الاذاعة السودانية كدليل قاطع لغياب فكرة القطيعة مع التراث في فكر عبد الله الطيب كتقليدي رسخ فكرة الاسلاميات الكلاسيكية التي قد أضنت محمد أركون في محاربته لها عبر الاسلاميات التطبيقية.
و بالمناسبة نجد أن محمد أركون و منذ عام 1962 قد انتبه الى عيوب و قصور المنهجية التاريخية و قد استبدلها بالمناهج الحديثة و قد أوصلته الى الذي نفتقده الى اليوم في مكتبتنا السودانية بسبب سيطرة كتاب و مفكريين سودانيين مازالوا تحت تأثير المنهجية التاريخية لذلك مازالوا يعتقدون في أنهم قد فارقوا الماركسية ليس لعيب فيها بل أن العيب يكمن في تحجر الحزب الشيوعي السوداني الا أن الحال يوضحه واقع مفكري المجتمعات الحية كالمجتمع الفرنسي و قد توصلوا الى نتيجة مفادها أن الماركسية نفسها خاوية و ليس فيها ما يجعلك أن تكون ماركسيا و لكن يختلف الأمر عندنا في السودان لأن هناك كثر قد ذهبوا الى الحزب قبل أن يذهبوا الى الكتب كما يقول ريموند أرون و أضف الى ذلك أن الماركسية قد وصلتهم عن طريق العنعنة عن لينين عن ماركس بعكس أمثال ريموند أرون فقد أطلع على أعمال ماركس نفسه و كذلك ملم بالفلسفة المثالية الألمانية و وصولها الى غاياتها لذلك كان متأكد من أن ماركسية ماركس خاوية و ليس فيها ما يجعلك ان تكون ماركسيا.
الدليل على ذلك أن فلاسفة كثر في فرنسا كانوا على اختلاف كبير مع جان بول سارتر في دفاعه عن الشيوعية كنظام شمولي بغيض و نجد من بينهم كلود ليفي اشتروس و قد وصف سارتر بأنه يجهل علم الاجتماع لذلك قد سجن نفسه في أبرد قاع فيها و كذلك نجد اختلاف ألبير كامو مع سارتر و كذلك اختلاف كلود لوفرت و ادغار موران كلهم كانوا قد فارقوا نهج سارتر بسبب معرفتهم بالمناهج التي تغيب عن مشهدنا السياسي. أما مارسيل غوشيه فقد وصف الماركسية بأنها أجمل فكرة خاطئة تستريح على الايمان بأن هناك امكانية تحقيق تناغم العالم و هذا ما كانت تحلم به الأديان بالأمس البعيد لأن الماركسية ذات فكر لاهوتي غائي ديني لا يختلف عن فكر الأديان و قد فشلت لأن المجتمع الانساني يبنى على الاخلاق و ليس الدين.
و عليه على المجتمع السوداني أن ينتبه الى أن العالم يتخلق ليولد من جديد و أن ثورة ديسمبر كانت علامة جيدة بأن الشعب السوداني متقدم في الوعي على نخبه و أن ثورة ديسمبر كانت تجسيد لفكرة تقدم الشعب و سقوط النخب و كل النخب كانت لاحقة للأحداث بل لم تتنباء بثورة ديسمبر و الأغلبية منهم كانوا على استعداد لفكرة الهبوط الناعم و هناك من النخب من دعت لفكرة انتخابات 2020 و عليه قد فاجأهم الشعب في انتصاره للحياة بثورة قد أشاد بها أحرار العالم فعلى الشعب السوداني أن يحرس ثورته بالوعي الذي من خلاله يستطيع أن يرفض فكر أحزاب وحل الفكر الديني من كل شاكلة و لون أحزاب الطائفية و أحزاب الحركات الاسلامية و احزاب الايدولوجيات المتحجرة كالشيوعية كدين بشري و ليعلم الشعب السوداني أن الانسان التاريخي و الانسانية التاريخية ترتكزان على الأخلاق و ليس على الدين و تعتمدان على العقلانية التي لا يرافقها الا الناخب الرشيد و المستهلك الرشيد نتاج العقد الاجتماعي سليل الليبرالية السياسية التي تنتج الديمقراطية و زهرتها اليانعة الفردانية. نحن في زمن الفرد و العقل و الحرية و يؤكد ذلك ثورة لبنان و العراق على الطائفية و أفكار وحل الفكر الديني من كل شاكلة و لون و بالمناسبة قد أستمد العراقيون و اللبنانيون روح ثورتهم من روح ثورة ديسمبر السودانية.