عندما يكون الحديث عن أمريكا وعلاقاتها مع بقية دول العالم فاعلم انك أمام حالة خاصة فى العلاقات الدولية. دولة ترى فى نفسها أنها سيدة العالم بما تملك من مقومات القوة، وتمارس طغيانها وجبروتها بكل صلف وتجبر، مستخدمة القانون الدولى، المؤسسات الدولية، الدول الصديقة واخيراً استحدثت بعض المفاهيم مثل "الارهاب" كذريعة ومدخل ومبرر لتحطيم آمال الشعوب التى تنشد الرفاهية. وهى لا تستهدف الأنظمة ولا الحكومات كما يتوهم البعض، بل تستهدف الدول فى حد ذاتها، وتسعى على الدوام لابقاء سيف من سيوفها مسلط على رقاب عدد من الدول حتى تحتفظ بمكانتها الدولية ونفوذها. هذه هى أمريكا التى يسعى السودان فى ظل ظروفه الحالية لكسب ودها واستجداء تعاطفها مهما كان الثمن. هى دولة لا تعرف العواطف، ولا المثاليات، الهدف النهائي عندها هو المصلحة الوطنية والكسب الدولى، وما سواهما عبث ولعب. ومتوهم من يظن انها تنشد الديمقراطية والحكم الراشد للدول المأزومة، او أن بامكانها ان تساعد دولة ضعيفة لكى تنهض. وأعجب كثيراً لمن يرفعون سقف التوقعات بتغيير السياسة الامريكية تجاه السودان بعد التغيير الذي حدث، بينما الشواهد لا تشير الى ما يؤيد هذه التوقعات، والأمثلة المشابهة كثيرة لدول أسلمت سيادتها كاملة لامريكا ومع ذلك لم تنال ما تتوق اليه من الرضاء والنظر بعين الشفقة. وقد تبين هذا الوجه الامريكى المتجبر بكل جلاء فى شخص رئيسها الحالى "دونالد ترامب" الذى صرح علنا عدة مرات بأن أمريكا لا تعرف غير مصلحتها، بل وأعلن على الملأ عن ملامح الابتزاز الذي تمارسه دولته ضد أقرب وأهم أصدقائها فى المنطقة وهى المملكة العربية السعودية التى يبلغ مستوى التبادل التجارى بينهما مليارات الدولارات سنوياً. ومع ذلكتعاملت معها بنفس طريقتها مع السودان مع قليل من التمايزات الناتجة عن المكانة الاقتصادية للسعودية والمصلحة الامريكية من هذه الميزة. فقد قامت أمريكا باعداد وتصميم قانون خصيصاً لابتزاز حليفتها وهو قانون "JASTA" الذي يعرف ب" قانون العدالة ضد رعاة الارهاب"، وهو قانون يخول لاى مواطن امريكى أن يقاضي السعودية حول هجمات الحادى عشر من سبتمبر. وبعد كل هذا يتطلع بعض الواهمين من السودانيين بأن امريكا سوف ترفع العقوبات عن السودان وأنها سوف تدعمه فى خطواته نحو تحقيق الحكم المدنى الكامل، وتساعده على الخروج من أزمته الاقتصادية الحالية، لكنها لعمرى أوهام وسذاجة وعدم دراسة للتاريخ. يشهد الواقع بأن دولة كوبا تخضع لعقوبات امريكية منذ أكتوبر 1960م فى عهد الزعيم الراحل "فيديل كاسترو"، بحجة الصراع التقليدى بين الشيوعية والراسمالية. وبالرغم من التغيير الكبير الذي حدث فى نظام الحكم الكوبي، واندثار الفكر الشيوعى الاشتراكي ومد حبال التواصل والتعاون معها ومع دول أوروبا عامة الا أن كل ذلك لم يشفع لها، وظلتالعقوبات الامريكية سارية الى يومنا هذا. بل قبل شهور قليلة فرضت وزارة الخزانة الامريكية عقوبات جديدة على كوبا تتمثل فى حظر عدد من الرحلات الجوية بسبب دعمها لنظام "مادورو" فى فنزويلا. ودولة فنزويلا هى الأخرى تمثل نموذجاً حياً من نماذج السياسة الأمريكية القائمة على استراتيجية "بسط النفوذ" التي تتلخص في أن الدولة التى تجد أمريكا عليها ذريعة ملائمة لفرض عقوبات عليها تصبح رهينة هذه العقوبات مدى الحياة، ولن ترفع عنها مهما انكسرت وتوددت، لأن الهدف منها فى المقام الأول هو الحفاظ على الهيمنة الامريكية الدولية متمثلاً فى شخوص الدول التى تقع عليها العقوبات. أما فى حالات ايران وكوريا الشمالية فإن اللعبة هنا "غير صفرية" بمعنى أنها قابلة للتفاوض. وبما ان موازين القوى متقاربة الى حد كبير فإن العقوبات الأمريكية على هذه الدول لا تتصف بالاستمرارية انما تسعى أمريكا من نفسها للتفاوض مع هذه الدول واحياناً يفضى التفاوض التى رفع العقوبات على الفور كما حدث مع ايران عند مفاوضاتها من مجموعة دول "خمسة+1" فى الأعوام 2012م – 2017م. مناسبة هذا المقال هى زيارة السيد رئيس وزراء الحكومة الانتقالية فى السودا الى الولاياتالمتحدة فى الايام الفائتة سواء بدعوة منها او بمبادرة منه هذا لايهم.واجندة الزيارة كما رشح من قبل موعدها بأيام تتمركز حول مناقشة قضية رفع اسم السودان من قائمة الدول الراعية للارهاب وبحث سبل التعاون بين الدولتين. الا أن ما صرح به سيادته عند عودته الى الخرطوم، وما كُتب على صفحته الرسمية بالفيسبوك قد اثار جدلاً كبيراً بما يشير الى خيبة امل البعض فى النوايا الامريكية، واصرار آخرين على التعويل فى الكرت الأمريكى الرابح للخروج من الازمة. وعليه سنعلق على هذه الخطوة فى بضعة نقاط موجزة. أولاً: الدكتور حمدوك يقع على عاتقه عبء كبير يتمثل فى الاحتفاء الكبير الذي وجده من جماهير الثورة السودانية التى القت عليه كل آمالها وتطلعاتها فى غدٍ مشرقٍ يعوضها عن ضنك الثلاثين عاماً الماضية. لكن فى اعتقادى أنه الى الآن لم يوفق فى ترتيب اولويات حكومته. والغالب على ظنى أنه حتى هذه اللحظة وقد تجاوز الثلاثة أشهر منذ توليه الوزارة ليس لديه استراتيجية محددة فى التعامل مع الملفات الكثيفة والمعقدة التى تنتظره. وهذا ليس نقداَ جزافا وانما محاولة للتقويم والتنبيه عسى أن يتحقق عشمنا جميعاً فى حكومة ثورة الشعب. ثانياً: توقيت هذه الزيارة لم يكن مناسباً وفيه شي من التعجل. أمريكا لا تحترم الا من يستحق الاحترام، ومن يستحق الاحترام فى نظرها هو من يحقق التوازن الداخلى أولاً. ويصنع ارضية وطنية يتكىء عليها فى مفاوضاته مع الخارج. فالحكومة الى الآن لم تحدث أى تغيير يذكر على كافة المستويات: سياسياً، النظام السابق ما يزال يسيطر على الساحة، التفاوض مع الحركات المسلحة لم يتقدم خطوات تذكر، مكونات قوى الثورة نفسها متصارعة ومتناحرة وفاقدة للحنكة السياسية. العدالة التى قامت من أجلها الثورة لم يتحقق منها أى شي الى يومنا هذا، قضية الشهداء وفض الاعتصام لم يتم التعامل معها بالشكل المرضى الذي يعكس هيبة الدولة وسيادة حكم القانون. التدهور الاقتصادى والخدمى بلغ مراحل حرجة وليس هنالك أى جهود ملموسة لتكون بمثابة بارقة الأمل. ثالثاً: ما يجهله او يتجاهله الكثيرون أن امريكا من نفسها قامت فى العام 2014م بتخفيف هذه العقوبات باستثناء التعاون الاكاديمي والمهنى ومتطلبات التكتولوجيا والمعدات والآليات الزراعية من قائمة العقوبات. وبالطبع هذه الخطوة تاتى من منظور المصلحة الامريكية لكن السودان لم يستفد الى الآن من هذا التخفيف، وهذه اشارة واضحة الى ان مسالة العقوبات الامريكية هذه ليست بالأمر الذي يستحق الأولوية القصوى لحكومة عمرها المحدد سلفاً 3 سنوات.انما الأولوية هي بلا شك التركيز على الانتاج وتحسين بيئة الاستثمار والخدمات، ثم تهيئة المناخ السياسي استعداداً للمرحلة القادمة. واذا كانت للحكومة الحالية استراتيجية واضحة للتعامل مع هذا الملف ما كان عليها أن تخطو خطوة واحدة في اتجاه التفاوض حول قائمة الإرهاب ما لم تبدأ خطوات عملية في كسر الحصار بموجب هامش التخفيف المذكور أعلاه، عقد أي صفقة لاستيراد معدات زراعية او وسائل تكنولوجية أو اتفاقيات تعاون اكاديمي ومهني كان سيفتح الباب لصفقات أكبر، وكما يعلم الجميع فإن الرأي العام الأمريكي الذي يحرك الحكومة يصنعه الرأسماليون ومجموعات الضغط وهذه كانت هي المدخل الملائم للتوصل الى التسوية المرضية واغلاق هذا الملف، لا التعويل على العواطف والاعتقادات الخاطئة. رابعاً: فى اعتقادى الشخصي أن السيد رئيس الوزراء قد تمت مباغتته وجره الى التفاوض حول قيمة التعويض الذي يجب على السودان دفعه حتى يتم اثبات المبلغ ومن ثم التفاوض على كيفية تحصيله لاحقاً ضمن صفقات أخرى حسبما تقتضي الظروف والمصلحة الامريكية. والا فكيف لشخص ذهب من أجل بحث سبل التعاون فيقال له أدفع تعويض عن قضية ليس لدولته أى صلة بها، فقط مجرد حكم تسلطى وجائر؟؟ والجميع يعلم أن هذا الحكم كان ضد نظام سابق كان موصوفاً بدعم ورعاية الارهاب، فطالما ذهب السبب لا معنى لبقاء الناتج عنه، وكان الأوفق والطبيعى أن يتم التفاوض حول سبل التسوية ومناقشة آفاق التعاون المستقبلى. وكان للتفاوض ان يتم ايضاً على الأصول السودانية المجمدة فى البنوك الامريكية وهى اضعاف مبلغ التعويض المذكور. وفرضية أن الدكتور حمدوك قد وجد نفسه متورطاً فى موضوع التعويض يعززها تصريحه عند عودته فى مطار الخرطوم حيث قال: "استطعنا أن نخفض مبلغ تعويض أسر ضحايا التفجيرات من 11 مليار الى "بضع" ملايين من الدولارات"، هكذا قالها، ولم يحدد المبلغ بالظبط فى اشارة واضحة الى محاولة تعميم الموضوع. مع ان المحكمة العليا الامريكية فى اغسطس 2014م كانت قد اصدرت حكم غريب فى هذه القضية، حيث حكمت بالغاء قرار محكمة الاستئناف القاضي على السودان بدفع مبلغ "248" مليون دولار لاسر ضحايا المدمرة كول ، مبررة قرارها بأن قرار محكمة الاستئناف قد تم تسليمه الى السفارة السودانية فى اشنطن بدلاً عن تسليمه الى السلطات السودانية فى الخرطوم كما ينص قانون حصانة السيادة الاجنبية الأمريكي، وهذا يؤشر على أن هذه القضايا كان بالإمكان تكملة مسارها القانوني واثبات براءة السودان أو على الأقل كان سيعزز السودان موقفه التفاوضي في حال ادار الترافع بحنكة وخبرة. أعزائي الثوار والمناضلون، ان التغيير الذي حدث بفضل ثورتكم المجيدة لم يكن سهلاً، ولم يتحقق بين عشية وضحاها، انما بنضال الشرفاء ودماء الشهداء الكرام، لذا عليكم ان توقفوا مسلسل الانتهازية البغيضة والتفخيم المكذوب لبعض الشخصيات ثم الانسياق الاعمى وراء السراب. الآن يقود الراى العام جيل نحسب انه واعى ويستطيع ان يقيم ويحلل الواقع بعيداً عن مهاتراب "كوز/علمانى" بل بتحكيم العقل والتفكر فى الامور بعين فاحصة متجردة. فالحقيقة الواضحة كسطوع الشمس ان الواقع لا ينبىء بخير، وعلى حكومة الثورة ان تغير من طريقة تعاطيها مع القضاية الاستراتيجية وان تكسب الزمن الذي يتسارع نحو نقطة التحول أما الى الهدف المنشود او الى السيناريو المرفوض، والا عليها ان تفسح المجال لحكومة اخرى تتشكل من الساسة والخبراء لمقدرتهم على مواجهة التحديات وادارة الأزمات. ختاماً، فان حصيلة مجهود الشهور الثلاثة الماضية فى الحوار مع الولات المتحدةالامريكية، تخللتها زيارتان لوفود كبيرة من حكومة الثورة وكلفت خزينة الدولة أموالاً كان الاولى بها قطاع الخدمات، أن تم ترفيع التمثيل الدبلوماسي الامريكى بالسودان الى درجة سفير، طبعاً فى السابق كان "قائم بالاعمال" وهى درجة أقل من مستوى "سفير"، لكن ماذا يستفيد الشعب السودانى من رفعة او انخفاض التمثيل الدبلوماسي؟ لكنه الغرور الامريكى الذي ذكرناه آنفاً. وعلى كل حال، فإن لسان حالنا يستحضر الطرفة الشهيرة التى تُحكى عن أن شخصاً ذهب لزيارة صديق عمره الذى عاد من الغربة بعد طول غياب ممنياً نفسه بالظفر بهدية قيمة بناء على المودة والعشرة الطويلة التى كانت بينهما. وبعد السلام والسؤال عن الاحوال والضيافة همَّ الرجل بالخروج الا أن صديقه العائد استوقفه وكانه سياتى اليه بشىء ما من الداخل. وبعد طول انتظار خرج اليه وفى يده "مصحف" مغلف فى شكل هدية لصديقه تقديراً للمعزة التى بينهما، عندها ساد وجه الصديق الاحباط وخيبة الامل لكنه لا يستطيع ان يرفض او يستصغر كتاب الله سبحانه وتعالى، فاستلم الهدية على مضدٍ وهو يهمهم "كتاب الله مابنرفضوا لكن الفيك إتعَرَفَتْ".