في الحقيقة لفتت مقولة ايمانويل تود نظري لشئ مهم جدا و هو ان ارادة الشعب السوداني المتمثلة في انتصار ثورة ديسمبر و مبتغاها في تحقيق الحرية و العدالة تعاكسها رغبة السياسيين السودانيين و اذا بحثنا عن السبب نجده كامن في أن وعي الشعب متقدم جدا على وعي النخب السودانية لذلك لا نجد أي غرابة في أن خروج الشعب في ديسمبر الثورة المجيدة كان مؤشر على تقدمه على نخبه التي لا زالت في كسادها الفكري الذي يمنعها من الفهم المفضي لتحقيق ما يطلبه المجتمع هو الذي ينبغي أن يكون و ليس الاصرار الذي يعكس بئس الذنب في تحقيق رغبات السياسيين و هيهات.و لكن منذ متى كان السياسيون السودانيين يحققون ما يطلبه المجتمع؟ و اذا اردت أن تتحقق من ذلك ايها القارئ الحصيف أنظر الى تركيزهم على الماضي في احتفال المثقف التراجيدي بثورة اكتوبر في محاولة بائسة لاحياء ماضي لأحزاب قد أصبحت خارج التاريخ و هم بين يديي ثورة ديسمبر التي لم ينقضي عامها الأول بعد و هي ثورة لا تختلف عن الثورات الكبرى في محاولتها أن تصالح الشعب السوداني مع الحضارات و تدخله الى التاريخ الذي يعني المستقبل هروبهم الى الاحتفال بثورة اكتوبر 1964 لأنهم خاليي الوفاض من قيم ثورة ديسمبر التي تمثل ارادة الشعب و ما يريده الشعب يتعارض مع رغبات السياسيين. و الذي يفضح النخب بان ثورة ديسمبر كانت مفاجاة لم تستعد لها النخب بفكر جديد يستطيع أن يقول ما قالته الشعوب الحية التي تتمتع بروح حضارة تقدم وجه الحداثة و فكرها و عقلها الذي يجسد عقل الانوار. لذلك المخبى الآمن الوحيد لدي النخب الفاشلة هو الهروب الى الاحتفال بثورة اكتوبر التي لم تمثل و لم تجسد أي نوع من أنواع القطيعة مع التراث و كأنهم يريدون أن يقولوا لنا أن ثورة ديسمبر نفسها لا تمثل قطيعة مع التراث القريب منه قبل البعيد و هيهات. لماذا نقول أن احتفالهم بثورة اكتوبر هروب الى الأمام و عدم قدرة على مواجهة عجز ميزان مدفوعاتهم الفكري؟ لأنه و منذ ذلك التاريخ البعيد قد فارقت الشعوب الحية ما يرتكزون عليه من فكر في حاضرهم اليوم و باختصار شديد أن الشعوب الحية اليوم تتقدم علينا بما يفوق الخمسة عقود لأنها قد فارقت فكر الايدولوجيات المتحجرة و فكرة انتهاء الصراع الطبقي و أيقنت بأن الرأسمالية و نمط الانتاج الراسمالي متغير مستقل بمتغير تابع يعكس وجه الديمقراطية و فكرة الفردانية في زمن الفرد و العقل و الحرية ذلك الفرد الذي قد تجاوز فكرة العرق و الدين و قد أصبحت مسألة حقوق الانسان عنده ليست وجه سياسي يتباهى باشراقه بل يمثل نقطة الانطلاق و نقطة الوصول و منها يبتدئ الشرط الانساني و مسألة تحقيق الشرعية و المثال و هذا الشرط الانساني تجسده السياسة في توجهها الى فكرة العقد الاجتماعي الذي قد ارتكز على العقلانية في نزعتها الانسانية. فهل ترتكز أحزاب ثورة اكتوبر على العقلانية و فيها أحزاب وحل الفكر الديني أي أحزاب الطائفية و أحزاب الأيدولوجية المتحجرة أي الشيوعية كدين بشري فشلت بسرعة فاقت فشل الأديان في تحقيق سلام العالم كما رأينا في فشل الحركة الاسلامية السودانية في الثلاثة عقود الاخيرة؟ نحن هنا نركز على الشرط الانساني الذي يجسد السياسة و بالتالي تصبح هوية الانسان فعله السياسي بعد أن أصبح عاقل يطيع نفسه أولا ثم يطيع لوائح و قوانيين مجتمعه ثانيا و بالتالي تصبح الحرية و ليست الهوية هي المبتغى بعد أن تجاوز الانسان و الانسانية التاريخية جناحي الهويات القاتلة المتمثلة في العرق و الدين. ما تجاوزته الانسانية التاريخية أي العرق و الدين نجده يمثل العمود الفقري لأحزاب وحل الفكري الديني في السودان و تحاول في مراوغتها بالاحتفال باكتوبر تأبيد فكر الهويات القاتلة و هيهات كما يقول أمين معلوف. لذلك يتأكد لنا الآن أن النخب اللاحقة للأحداث أي أحداث ثورة ديسمبر مازالت أسيرة ماضي فارقته الشعوب الحية و تريد أن تجر عقارب الساعة لنصف قرن للوراء و لكن هذا الشعب الذي فاجأ النخب بثورة كبرى كثورة ديسمبر يستطيع أن يقول لهم في كل حين أن ما يريده من حرية و سلام و عدالة لا يخرج من فكر أحزاب وحل الفكر الديني سواء كانت أحزاب الطائفية و الحركة الاسلامية السودانية أو فكر الايدولوجية المتحجرة في تجسيدها للشيوعية في نسختها السودانية المتخشبه في فكرة انتهاء الصراع الطبقي و هي فكرة قد فارقتها الأحزاب الشيوعية في الغرب في زمن سبق تاريخ قيام الحزب الشيوعي السوداني بعقود. عليه اذا ارادت النخب السودانية أن تسير بعلاقة طردية مع ارادة الشعب السوداني الذي قد قرر بشكل واضح أن يخرج من حيز المجتمعات التقليدية و يعبر العتبة لتأسيس دولة حديثة في تصالحه مع التاريخ عليها أن تفارق أي النخب السودانية أفكار أحزاب الطائفية السودانية وكثير من النخب التي تقود الآن جاءت من أحزاب الطائفية و أحزاب وحل الفكر الديني و مازالت نخب الأيدولوجية المتحجرة تنادي بمساومة تاريخية تصالح ما بين أتباع وحل الفكر الديني و الشيوعية السودانية كدين بشري ويسار قوامه القوميين و الشيوعيين مع يميين سوداني متخلف قوامه خطاب ديني قد تجاوزته الثورات التي أعقبت ثورة ديسمبر المجيدة في كل من العراق و لبنان. نقول ذلك لنلفت الانتباه بأن هناك مهادنة لأفكار أحزاب الطائفية و الحركة الاسلامية السودانية و نذكر الكل بأن الطائفية و الحركة الاسلامية تمثل في خطابها سلطة الأب و ميراث التسلط فصورة الامام و مولانا في أحزاب الطائفية و صورة الاستاذ كما يرددها شيوعي سوداني كبير ناسب الحزب الشيوعي السوداني لأستاذه بشكل يتضح لك بأنه يرزح تحت نير سلطة الأب و ميراث التسلط و رأينا الحركة الاسلامية السودانية تنادي صورة سلطة الأب و ميراث التسلط بتقديس شيخها و غيرهم كثر و عكس ذلك نريد للفرد السوداني أن ينعتق من سلطة الأب و ميراث التسلط لأننا في زمن الفرد و العقل و الحرية و من العار أن تنادي أي كان بالامام أو مولانا أو الاستاذ أو الشيخ فانت سيد نفسك و اذا ناديت الآخرين بسيد فعليهم أن ينادوك يا سيد. كرامتك كانسان يضمنها لك فكر الليبرالية السياسية الذي ينتج ديمقراطية مضبوطة بمعادلة الحرية و العدالة التي لا تخرج من وحل الفكر الديني و لا من وهم الايدولوجيات المتحجرة و هذا هو السائد في مشهد الفكر في السودان و قطعا لا ينتج الناخب الرشيد و المستهلك الرشيد لأن الناخب الرشيد و المستهلك الرشيد سيد نفسه لا يعرف امام و لا مولانا و لا استاذ و لا شيخ.