يا د. كامل إدريس: ليست هذه مهمتك، وما هكذا تُبنى حكومات الإنقاذ الوطني    بحث علمي محايد    عضو المجلس السيادي د.نوارة أبو محمد محمد طاهر تلتقي رئيس الوزراء    "وثائقي" صادم يكشف تورط الجيش في استخدام الأسلحة الكيميائية ضد المدنيين (فيديو)    السودان.. وفد يصل استاد الهلال في أمدرمان    الجيش السوداني يعلّق على الهجوم الكبير    اللواء الركن (م) أسامة محمد أحمد عبد السلام يكتب: التقديم الالكتروني (الموحّد) للتشكيل الوزاري    "الكنابي": تهجير المواطنين بإزالة السكن العشوائي في الجزيرة والخرطوم تطور خطير    السودان.. كامل إدريس يعلن عن 22 وزارة    هل ستتأثر مصر في حال ضرب المفاعلات النووية؟    إيران تغرق إسرائيل بالصواريخ من الشمال إلى الجنوب    كامل إدريس وبيع "الحبال بلا بقر"    إنريكي: بوتافوجو يستحق الفوز بسبب ما فعله    "كاف" يعلن عن موعد جديد لانطلاق بطولتي دوري أبطال إفريقيا وكأس الاتحاد الإفريقي    عندَما جَعلنَا الحَضَرِي (في عَدّاد المَجغُومِين)    نص خطاب رئيس مجلس الوزراء "كامل ادريس" للأمة السودانية    الاهلي المصري نمر من ورق    الجمعية العمومية الانتخابية لنادي الرابطة كوستي    ميسي يقود إنتر ميامي لقلب الطاولة على بورتو والفوز بهدفين لهدف    فقدان عشرات المهاجرين السودانيين في عرض البحر الأبيض المتوسط    عودة الخبراء الأتراك إلى بورتسودان لتشغيل طائرات "أنقرة" المسيّرة    6 دول في الجنوب الأفريقي تخرج من قائمة بؤر الجوع العالمية    30أم 45 دقيقة.. ما المدة المثالية للمشي يومياً؟    الإدارة العامة للمباحث الجنائية المركزية تتمكن من ضبط منزل لتزييف العملات ومخازن لتخزين منهوبات المواطنين    بين 9 دول نووية.. من يملك السلاح الأقوى في العالم؟    لماذا ارتفعت أسعار النفط بعد المواجهة بين إيران وإسرائيل؟    وزارة الصحة تتسلّم (3) ملايين جرعة من لقاح الكوليرا    "أنت ما تتناوله"، ما الأشياء التي يجب تناولها أو تجنبها لصحة الأمعاء؟    ماذا قالت الصحف العالمية عن تعادل الهلال مع ريال مدريد؟    نظرية "بيتزا البنتاغون" تفضح الضربة الإسرائيلية لإيران    السودان والحرب    شاهد بالصورة والفيديو.. حسناء سودانية فائقة الجمال تبهر المتابعين وتخطف الأنظار بتفاعلها مع "عابرة" ملك الطمبور ود النصري    شاهد بالصورة والفيديو.. خلال حفل زفاف بالقاهرة.. العازف عوض أحمودي يدخل في وصلة رقص هستيرية مع الفنانة هدى عربي على أنغام (ضرب السلاح)    شاهد بالصورة والفيديو.. مطربة أثيوبية تشعل حفل غنائي في أديس أبابا بأغنية الفنانة السودانية منال البدري (راجل التهريب) والجمهور يتساءل: (ليه أغانينا لمن يغنوها الحبش بتطلع رائعة كدة؟)    هل هناك احتمال لحدوث تسرب إشعاع نووي في مصر حال قصف ديمونة؟    ماذا يفعل كبت الدموع بالرجال؟    الإدارة العامة للمباحث الجنائية المركزية تتمكن من الإيقاع بشبكة إجرامية تخصصت فى نهب مصانع العطور بمعاونة المليشيا المتمردة    الصحفية والشاعرة داليا الياس: (عندي حاجز نفسي مع صبغة الشعر عند الرجال!! ولو بقيت منقطها وأرهب من الرهابة ذاتا مابتخش راسي ده!!)    كيم كارداشيان تنتقد "قسوة" إدارة الهجرة الأمريكية    "دم على نهد".. مسلسل جريء يواجه شبح المنع قبل عرضه    التهديد بإغلاق مضيق هرمز يضع الاقتصاد العالمي على "حافة الهاوية"    السلطات السودانية تضع النهاية لمسلسل منزل الكمير    المباحث الجنائية المركزية ولاية الجزيرة تنفذ حملة أمنية كبري بالسوق العمومي وتضبط معتادي إجرام    مباحث شرطة الولاية الشمالية تتمكن من إماطة اللثام عن جريمة قتل غامضة وتوقف المتورطين    المملكة تستعرض إستراتيجية الأمن الغذائي لدول مجلس التعاون الخليجي    خسائر ضخمة ل"غانا"..تقرير خطير يكشف المثير    والي الخرطوم يصدر عدداً من الموجهات التنظيمية والادارية لمحاربة السكن العشوائي    أدوية يجب تجنب تناولها مع القهوة    (يمكن نتلاقى ويمكن لا)    بالصورة.."أتمنى لها حياة سعيدة".. الفنان مأمون سوار الدهب يفاجئ الجميع ويعلن إنفصاله رسمياً عن زوجته الحسناء ويكشف الحقائق كاملة: (زي ما كل الناس عارفه الطلاق ما بقع على"الحامل")    3 آلاف و820 شخصا"..حريق في مبنى بدبي والسلطات توضّح    معلومات جديدة عن الناجي الوحيد من طائرة الهند المنكوبة.. مكان مقعده ينقذه من الموت    إنهاء معاناة حي شهير في أمدرمان    رؤيا الحكيم غير ملزمة للجيش والشعب السوداني    شاهد بالفيديو.. داعية سوداني شهير يثير ضجة إسفيرية غير مسبوقة: (رأيت الرسول صلى الله عليه وسلم في المنام وأوصاني بدعوة الجيش والدعم السريع للتفاوض)    أثار محمد هاشم الحكيم عاصفة لم يكن بحاجة إلي آثارها الإرتدادية علي مصداقيته الكلامية والوجدانية    ما هي محظورات الحج للنساء؟    قُلْ: ليتني شمعةٌ في الظلامْ؟!    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



المسألة الشرقية(4): الزبائنية الإنقاذية ما بين الغفلة المدنية والتربُّح الشمولي!
هاشم الحسن
نشر في الراكوبة يوم 21 - 12 - 2020

1) في المقال السابق عن (المسألة الشرقية: السياسة القبلية والقبيلة المسيسة) ذكرت أو أشرت إلى بعض الأسباب التي أوصلتنا إلى حال الاصطراع القبلي/السياسي الجاري في الشرق. ومن بين هذه ألأسباب التي سنعود هنا لبعضها بجراء التواشج والتبادل العميق فيما بينها، فسنجد مثلا؛ الغياب أو التغييب الشمولي للأحزاب التقليدية وتراجع وجودها بين الجماهير، وسياسات التمكين والولاء والمحاصصات الإنقاذية وحاصلها في الاستقراب والاستبعاد على مبدأ (فرّق تسُد)، وتصاعد خطاب التهميش الجهوي، فحاجة النظام لخطاب مضاد لذلك معبرا عنه بالترميز التضليلي. كل هذه منفردة وبالتضامن مع غيرها، فقد عملت على وتفاعلت مع موضوعية وأولية الحضور القديم والفاعل كمونا وإمكانا في مؤسسة القبيلة. ولكن فمن بين كل تلك السياسات والأدوات والآليات فما من أداة وآلية سياسية إنقاذية أبعد أثرا من "الزبائنية" التي تحتوي غالب الشرور السابقة وتجملها في حزمة واحدة متفجرة هي التي أسرعت بتدهور النزاع إلى هذا مثل الحال الاصطراعي الماثل في الشرق. وعموما فمصطلح "الزبائنية" يستخدم سلبيا لارتباطه بالفساد والإفساد السياسي والإداري وبعرقلة دولاب ألعدالة وبالقطع على مؤسسات الدولة الحديثة، ولمخالفته البيّنة للقيم الديمقراطية، ولتعلقه بالمحسوبية والمحاباة وبسياسة (فرّق تسُد) وبمظالمها، وبالمحاصصات القبلية وخبط عشوائها، وبالترميز التضليلي والخداع، وبالتمكين الذي يقدم الولاء على كافة الاعتبارات الأخرى، وبغير هذا مما انتظم عقود السياسة الإنقاذية المسمومة، وكبر مقتا ما جنته علينا سموم الإنقاذ باعتمادها وتفعيلها لآلة وسلاح الزبائنية القبلية!
2) أما موسوعة ويكيبيديا في الشبكة العنكبوتية فتعرّف الزبائنية أو "الغنائمية" (بتصرف)؛ بأنها ما اصطلح عليه لوصف العلاقات غير المتكافئة وغير الندية في نظام سياسي واجتماعي بعينه. بين مجموعات من الفاعلين السياسيين ينقسمون إلى (أ) الرعاة من الملوك والأمراء والحكومات والتنظيمات والأحزاب السياسية مثلا(. و(ب) العملاء/ وسطاء/ وكلاء/ زبائن من الرعية، ساسة أكانوا أم أفرادا أو قبائل أو مجموعات مصالح الخ الخ. وبحيث سيلجأ الراعي إلى تسخير موارده الكبيرة (موراد الدولة مثلا) ليمكن العملاء والوكلاء، محدودي الأصول والموارد، من توسيع شبكات المؤيدين المحتملين للراعي، ومن استدرار واستدامة الدعم السياسي له. ولكن لفهم أفضل لآلية عمل الزبائنية السياسية ولسبر كيفية عملها وأثرها على واقع بعينه، فالمفتاح إلى ذلك ليس في مجرد المنفعة والمغانم المتبادلة. بل في القدر من أو درجة انعدام التماثل والتكافؤ في السلطة والثروة والمواقف بين الرعاة (الأعلى) والعملاء (الأدنى). فالرعاة يعتمدون على تبعية وخضوع عملائهم، وبحيث أن الراعي من حيث موضعه في المناصب وتراتبيات السلطة، سيتمكن من تحويل الموارد والخدمات والفرص الشتّى لصالح عميله. وأما مهمة العملاء لاستجلاب التأييد السياسي فقد تنحصر في شراء الأصوات الانتخابية، أو ستتمدد إلى ما هو أبعد وأخطر تأثيرا، مثل توفير وتجيير كامل موقف مجتمعاتهم (قبائلهم) كظهير سياسي للراعي الشمولي.
3) ولأن الزبائنية السياسية/القبلية ستحتاج إلى شبكات أدنى منها، فغالبا ما ستنشأ هذه الأخيرة عبر المحسوبية والمحاباة والولاء والمصالح، وكهذا إذن فسيكون ذلك على حساب البقية من أعضاء المجتمع الأبعد عن دوائرها (القبائل الأخرى)، من الذين ليسوا جزءً من شبكات المحسوبية في الزمان والمكان المعيّن. وعليه، فإذ سيتهيأ للزبائن والرعاة معا الاستفادة من الدعم المتبادل ومن تعظيم الفرص للحصول على المغانم على أصعدة سياسية وإدارية واجتماعية مختلفة، وبما أن الغنائم لا تتأتي إلا على حساب خسائر آخرين من أعضاء المجتمع الذين ليسوا جزءً من شبكات المحسوبية، فعليه، ستتراكم المظالم عند غالب الفئات الأخرى.
4) ونعم فالزبائنية ليست بالجديدة في السودان. وربما كانت فينا منذ كانت السياسة والحكومات والأحزاب والانقلابات. ولكن الذي حدث منذ يونيو 1989 ثم تزايد فيما بعد المفاصلة بين الإسلامويين، فانقسام الشعبيين، فهو أن طغمة الإنقاذ، في غياب وغيبوبة المجتمع المدني، قد شغبت بالزبائنية شغبا غير مسبوق البتّة، فاستخدمتها بضراوة ضارية للتحكم في الأقاليم، ولعبا بتوازناتها ألمجتمعية حتى لقد أمست الزبائنية هي واسطة العقد في مصفوفة من الميكيافلية القحّة لخدمة المصالح التكتيكية الآنية الأضيق من حلم الوطن والدولة المستقرة. ذلكم خاصة فيما وراء المركز، في الأقاليم والريف ذي التأهيل المسبق للفرقة والانقسام على خطوطه القبلية، وحيث ظلت الزبائنية، بتوابعها، هي الأهم بين أدوات الإنقاذ وأشدها نكاية وفعالية في ترجيح موازين القوة نحو اطباق سيطرتهم المطلقة على البلاد، وحتى رزحنا تحت النير لثلاثين حسوما، بغضّ بصرها والبصيرة عن التبعات والأضرار الأكيدة على المصلحة الوطنية العليا، أوعلى وحدة وسلم الأهالي والمجتمعات. وإذ أصبح صبح الثورة أخيرا، ولكن بشراكة مع بقايا الإنقاذ المتلمظة للاستفراد بالحكم، فالواجب التحذير من أنه لا شيء سيضير الشموليين (لو يهزموا الثورة) أن يعودوا إلى ما كان ويستعينوا بتركة الإنقاذ وميراثهم فيها، طالما سيخدمهم لفرض واقع شمولي جديد يسيء مزيدا إلى الواقع الاجتماعي الهش ويفتّق مزيدا من جروحه.
5) وبما إنه، كما في دارفور، قد اعتُمِدت الزبائنية القبلية كآلية رئيسية للسيطرة في الشرق وبالأخص في ولاية كسلا، فلقد فسدت بها الأحوال المجتمعية والسياسية حتى اتسعت الخروق على راتق العهد الثوري الجديد كما نشهده راهنا. ولئن كانت الزبائنية قبلا قد ذهبت بالحالة القبلية في دارفور بصراعاتها المحلية، سواء بدوافع أولية أصيلة، أو بما تطور فيها الحراك المسلح وحتى اختلاط حابل الكل بالنابل ذهبت بها إلى حد الحرب بالوكالة، أو لدرجة اعتبار كامل قبيلة الحاكم أو المعارض هدفا للأخرى. فإنه قد كان كافيا للتهديد باستحضار ذات المصائر الدارفورية في المشهد الشرقي، أن يختار النظام وكلائه من خاصة الموثوق بهم في عضويته الملتزمة بمشروعه السياسي من أبناء القبائل هناك ليفعِّلوا له من متوالية الزبائنية وبما يتطلبه ذلك من تجويد شغل الترميز التضليلي كما استخدموه آلية أخرى فعالة لمجابهة خطاب الهامش حول التمثيل السلطوى وقسمة الثروة. وهكذا إذ استشرت الزبائنية وملحقاتها فقد سدر يها الوكلاء الولائيون في متاهات لا نهائية من المحاصصات الريعية، ومن المحسوبية والصراعات القبلية. وإذا كان الريع أو الفوائد التي قد يستفيدها الوكيل فقبيلته وجماعته المقربة فهي؛ أما معنوية من باب التمثيل السياسي، أو مادية مباشرة عبر المحسوبية والغنائم الشخصية له وللوكلاء الأصاغر من مقربيه. فإن الأمر في دارفور أو كسلا مختلف بمقدار كبير من حيث تدخلت هذه الزبائنية لترجيح موازين التمثيل السياسي والقبلي في أطر النظام، وفي الحظوظ من الموارد وقسمة الثروات والمناصب، ومن ثم فإلى ما سيتبع ذلك من الصراعات على قضايا محلية أو قومية كالهوية والجنسية والأراضي القبلية وحتى على مناهج التاريخ.
6) كيف حدث ذلك؟ لا غرابة! وكما كل العلاقات السياسية فلابد للزبائنية القبائلية أن يتوفر لها التناسب في المنطلقات، والالتقاء بين مصالح الراعي والوكيل، في المكان والزمان المعيّن. ذلك مثلا أن يتوفر من أبناء القبيلة المعنية عدد كبير ومؤثر بين عضوية وقيادة التنظيم الإنقاذي المسيطر على مقاليد المنح والمنع في الدولة. وأن تكون القبيلة ذات قابلية تاريخية أو ثقافية أو نفسية لتلقي الخطاب السياسي المعين. أو إنها كانت خلوا من الولاءات السياسية المسبقة أو العداءات المستحدثة ضد النظام. و/أو تكون هي بحاجة إلى خدمات الراعي لتحقيق مصالح محلية أو خارجية، أو هو بحاجة إليها لتخدم استراتيجيته الخارجية بامتداداتها العابرة للحدود. ومنها أن يكون الراعي الانقاذي في حاجة إلى القبيلة كظهير سياسي أو حربي في بيئة محلية معادية تقليديا، أو تحولت إلى العداء النشط بفعل عموم سياساته أو خصوصها. الأمثلة على ذلك لا تحصى، من أشهرها في التاريخ أن كيف استخدم "ونجت باشا" للعداء والثأرات بين قبيلة كردفانية وأخرى دارفورية في حربه ضد علي دينار؛ وأما من الحاضر فالشواهد من كافة وقائع دارفور القبلية/السياسية/المسلحة لا تعد، يكفي عنها النظر إلى سيرورة تحول الولاءات القبلية مع وضد الإنقاذ في شمال دارفور مثلا؛ وهكذا ما يقابلها في الشرق.
7) في سبتمبر من عام 2011 حدث في مدينة القضارف أن الشرطة بجبروتها الكتشنري المعتاد قد واجهت اعتراضات قوية عند تنفيذها أمرا بإزالة بعض زرائب الماشية هناك، فقتلت اثنين من شباب قبائل التقري (المنتسبين إلى قبائل البني عامر والحباب أساسا)، الذين كانوا قد هبوا غضبا على حكومة الولاية مطالبين بالقصاص للقتيلين وهددوا بألا يدفنوا الجثامين إلا بعد الثأر لهما. في حينها نشرت (صحيفة الانتباهة) تقريرا مغموسا في محبرة التنظيم ومكتوبا بقلم جهاز الأمن وممهورا باسم السيد الصادق الرزيقي. جاء فيه خبر ووصف لمشهد حضور ناظر البني عامر من كسلا، وكذا الوفد الحزبي/الحكومي من المركز، بقيادة أمين أمانة الشرق الشريف أحمد عمر بدر. أما اللافت في التقرير، مما يخص الزبائنية، فهو حرص كاتبيه على سرد أسماء كافة أعضاء الوفد من أبناء "التقري" والقبيلتين المعنيتين، الحكوميين منهم والحزبيين، مع ذكر مناصبهم الحالية أو السابقة، بوقتها، في الدولة. فكان مثلا أن أحدهم هو وزير الداخلية وواليا سابقا لعهدتين. وآخر قد كان واليا سابقا في ولايتين. وغيره مسئولا كبيرا بلجان المجلس الوطني، وذلك باللجنة الاقتصادية للمجلس، وسواه بإتحاد الرعاة وهكذا التعديد. بل حتى أنه قد جاء في أعضاء الوفد أحد الدبلوماسيين من وزارة الخارجية فكان هو ثاني اثنين إذ خطب في الغاضبين مع والي القضارف! ولكن ما علاقة وزارة الخارجية بمثل هذه المشكلة؟ علاقتها هي الرسالة المراد توصيلها فورا فوصلت واضحة للمعنيين وفاضحة للزبائنية ولعلاقات القوة بداخلها: "أيها الغاضبون، أنظروا لهؤلاء أبنائكم في الحكومة! من الأفضل لكم ألا تذهبوا بأمر ثأركم للقتيلين لأبعد مما حدث في مسيرات الغضب هذه. إن مصالحكم الكبرى، الأكبر بكثير من خسارتكم بالأمس، لهي معنا نحن. نحن الرعاة وأنتم الزبائن وهؤلاء الوكلاء من رموز أبنائكم يشهدون."! وهكذا انطفأ التوتر الذي ملخص ما قاله عنه محرر الانتباهة: إنه (فتنة يشعلها التحريض الذي تقوم به بعض القوى السياسية المعارضة التي يحركها الاستهداف الخارجي. ومحاولة لتفجير الأوضاع على طريقة دارفور مما يشكل تهديدا للدولة والاستقرار يستغله المعارضون المتربصون المخربون!) وهكذا أشغال الزبائنية والمحسوبية والترميز التضليلي في حزمة شاملة.
8) وأما الترميز التضليلي من خطة الإسلامويين في توهين المقاومة لنظامهم، فهو فضلة في الزبائنية وقريب نسيب إلى المحاصصة القبلية. ففي ولاية البحر الأحمر مثلا حيث لم تستفحل الزبائنية لتشمل قبيلة بأكملها كوكيل عن الراعي، فستجد أنه لو خرج البجا المعارضون للسؤال عن مجريات التحقيق حول مجزرة بورتسودان في 29 يناير 2005، فإن الإسلاموي العتيد والوالي محمد طاهر إيلا، أو (بلدوزره) محمد طاهر أحمد حسين وهما ممثلا حصة الترميز التضليلي البجاوية/الهدندوية بوقتها، وأما الآن فليسا على قلب واحد قد كان سيسارع من فوره إلى نادي البجا التاريخي ليحدثهم عن المظالم التاريخية وعن التهميش الواقع عليهم من المركز. وسيخبرهم عن مساعيه الجادة في مقاومة التهميش ولإنهائه وكذا لتوصيل مياه النيل ونشر التعليم ومعالجة المرض والفقر! ثم إنه سيختم حديثه بالهتاف المعتاد (بجا حديد!)، ولكن دونما أي إشارة للخطل في حوكمة راعيه (المؤتمر الوطني) التي أدت إلى تلك المجزرة ابتداءً وحتى راح ضحيتها العشرات من الشهداء. أو عن السياسات التي فاقمت من التهميش والتجويع والفقر والمرض! ومع ذلك، فثم حين سيأتي عمر البشير في زيارة ليخطب الناس بغوغائيته المعهودة، وعندها، فإنه أبدا لن ينسى تذكيرهم بكيف أن الإنقاذ قد أتت لهم بحاكم من أنفسهم وفضلا منها عليهم ومنّا. وأما الحقيقة فإن هذا التمثيل (البجاوي) لهو محض ترميز تضليلي. ذلك لأن الوالي فأولا وأخيرا لمن بيت الإنقاذ الآيديولوجي والسياسي بمكان، وهو عندها لقوي على وكالته لها وأمين. بل هو يعرف أن هذا التضليل لن يمر على كثير من الأقربين حوله. فإذ لا بد قد صكّت سمعه الاعتراضات (البجاوية أيضا) على تطاول عهده بغير ما تدوير لمنصبه محاصصة بين القبائل. وكذا الاحتجاجات على كيف أن كأس الوكالة والمحاصصة والزبائنية والاستقراب والاستبعاد لم تدار بين القبائل إلا بمقدار أن نشوة الترميز التضليلي ستخدم سيطرة الوالي وراعيه على نواصي القوم ومقاليد الأمور. ومن المعلوم كيف أن مثل تلك الاعتراضات على الوالي إيلا قد وصلت حد أن إحدى كبريات القبائل في البحر الأحمر قد هددت بالانفصال بأراضيها عن الولاية والالتحاق بولاية اخرى! كل هذه، وغيرها هنا، فليست بالأسرار وكانت مخفية فأخرجها الآن! بل ما كان على المهتم، بتحصيل الفهم والمعرفة بالواقع على ماهو عليه، سوى مراجعة الصحف والمواقع الاسفيرية في عامي 2011 و2012 بحثا عن تصريحات صحفية للناظر محمد أحمد ترك أو كتابات للفريق عثمان فقراي أو غيرهما.
9) وبالمقابل، فإن مثل هذا الاحتجاج في البحر الأحمر أو أشد منه، ناقصا الخروج عن الولاية، قد جرى وظل يجري في كسلا على توالي الولاة الإنقاذيين عليها ما بين إبراهيم محمود حامد وحتى آدم جمّاع، الذي على عدم انتمائه للولاية فقد حافظ على سياسات من سبقوه فيها، ذلك لأنها ليست سياسات ولائية مستقلة ولا الوالي بالبحر المستقِّل عن السواقي. بل الحقيقة فالسياسة إنما تصدر للولاة عن مركز السياسة الحزبية للراعي الحصري في (النادي الكاثوليكي) بالخرطوم. ومما كان في كسلا أن الأمر السياسي الإنقاذي فيها قد بلغ من المحاصصات والزبائنية حد قررت الإنقاذ، بالتواطؤ مع وكلائها ومصالحهم، إن قيادة الولاية يجب أن تكون من حصة مكونات التقري (الموحّدة والمتكاثرة حديثا في بنية البني عامر). وأما رئاسة المجلس التشريعي (وكذا في ولاية البحر الأحمر) فتكون من حصة وكيل آخر ذي مصلحة كبرى في آلية (فرّق تسُد) العاملة بين الهدندوة ذوي الولاءات ما قبل الإنقاذية والحاضنة الكبرى لمؤتمر البجا. الشاهد؛ أن توالي الولاة والطواقم الحزبية من نفس القبيلة/الإثنية، مع استبعاد الآخرين عن التمثيل العادل إنقاذيا قد أدى في المحصلة إلى تفاقم الشعور بالغبن القبلي عند هؤلاء الآخرين. و/أو إلى الإحساس بالحاجة إلى حماية تلك المكتسبات السياسية والاقتصادية والاجتماعية عند من ظن أنه قد نالها بحصر التمثيل السياسي للولاية عليه. هذان الإحساس بالغبن أو بالخشية فهو تحديدا ما تسبب بانفجار الواقع بآخرة وتعبيرا عنهما. سواء كان ذلك في قضية تعيين وإعفاء الوالي صالح عمّار، أو كما قد يكون ويهدد بانفجار أكبر وأوسع ما لم تعالج قضية مسار الشرق بجوبا، وخاصة ما يتعلق منها بالتمثيل السياسي لمكونات الشرق الإجتماعية وحصصها في المناصب. إذن، فهذه هي الأوضاع التي تركتها الإنقاذ، قد هيأت فأفضت إلى تمام حضور حالة القبيلة المسيسة أصالة، لتمارس السياسة مباشرة، منفردة أو متحالفة. وهو تماما كما حدث ويحدث حتى الآن في دارفور وبعض كردفان، بما دارت فيها الرحى الإنقاذية من محاصصات قبلية، وترميز تضليلي، وزبائنية، وشبكات محسوبية يربح بها البعض ويخسر آخرون. والأمثلة متوفرة لمن يتحرى الشواهد ويتجنب الزور.
10) وكيف سيمكننا التعامل مع هذا الوضع؟ لتهدئته أولا بالطبع (قبل القضاء عليه بالقوة وقمعه، هيبة وجبرة، كما في جزافيات بعض الحداثويين أو رغبات الشموليين!). ومن ثم ما العمل لاحتواء مسبباته والحد من أثرها على السلم الأهلي والأمن القومي والتحول (الثوري) الديمقراطي، وحتى يبلسمها اكتمال واستقرار الديمقراطية والدولة المدنية. كيف؟
هذا هو السؤال والتحدي المناط كمسئولية ثورية ووطنية عاجلة بعاتق الحكومة المدنية وتحديدا برئيس وزرائها. وذلك قبل كل إناطة بعواتق آخرين، بمن فيهم أي طرف من أطراف الشراكة. وخاصة ذلك الطرف الذي لا يمكن الوثوق به في مضمار مفتوح للتربح السياسي لطالما اعتاد عليه. إنه وقت السيد رئيس الوزراء وحكومته أن يخرجا لنا من ظلمة جهلها وتجهيلنا بحقائق الأقاليم إلى العلم بها ومباشرتها في الضحى الأعلى. وأن ينتقل بموقفها من حالة الكسل المشهودة حتى الآن إلى حال النشاط والهمّة في مجابهة افرازات الإنقاذ وكبحا لآلياتها الفاعلة لا تزال. وأن تتفضل الحكومة ورئيسها فتخاطب الكافة بخطاب صريح مباشر يقطع مع ماضي الزبائنية والمحاصصة العشوائية والترميز التضليلي، وليتصل بآفاق التحول عن الشمولية ويبشر بالانتقال من دولة الراعي والوكلاء والزبائن إلى دولة الحريات والديمقراطية (التوافقية يا حبّذا)، والدولة المدنية التي يصبح التمثيل فيها رهنا للكسب في الانتخابات (النسبية ضرورة)!!
ومن بعد، فهي مسئولية الأحزاب القومية الكبرى (بل حتى الأحزاب الصغرى والجهوية والقبلية التكوين، مع ترشيد الخطاب!) التي كان تغييبها ومن ثم غيابها حتى الآن عن جماهيرها المحتملة، هو أحد العوامل الأساسية في صنع هذا الواقع السياسي القبلي. سيتوجب عليها منذ الآن أن تسعى عاجلة في استعادة وجودها بالأقاليم وبين الناس بما يوفر لهم خيارات مدنية ديمقراطية أخرى غير خيار القبيلة كفاعل سياسي مباشر بأدوات ما قبل (الحداثة!)!
وأخيرا، فهي مسئولية أبناء الأقاليم في تبصير المركز ومصارحة أهاليهم بحقائق النزاعات كما هي عليه، وليس كما تشابه بقرها على الرعاة، أو كما تمليها انحيازاتهم. وهي أولويتهم في البحث عن مقاربات واقعية (لمباصرة) التحديات والإشكاليات والتظلمات، ليس على طريقة (البصيرة أم حمد لا زيرا حفظت ولا عجلا أبقت) ولكن بما يوفر قدرا من التراضي تتهيأ به الأرض للسلام، فيستتب بها السلم المحلي والسلام الوطني المستدام وتتوهط المسرة.. وكضرورة من باب الأمانة؛ فالسلام المستدام يعني أن نتعوذ من شراك الشموليين في قصب الشراكة، وأن نقاوم طموحاتهم!!
هاشم الحسن


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.