لا يكفي تلقين و حفظ مواد الدستور و القوانين و أحكام القضاء لمعرفة جوهر القانون و دوره المرغوب أو الفعلي في المجتمع . و مسببات استقامة القانون أو انحرافه تكمن معرفتها إلى قدر كبير في حقول معرفية أخرى كالاقتصاد و العلوم السياسية و علم الاجتماع و الأخلاق و الفلسفة و غيرها من حقول العلوم الإنسانية . و التعلّم القانوني المنطوي على ذات القانون الصرف بمعزل عن العلوم الإنسانية الأخرى يصنع أجيالا من القانونيين اللاهوتيين و عبدة النصوص ممن يعتقدون في حاكمية كل تشريع يصدره طاغية طالما صدر مستوفيا لإجراءات الصياغة و المصادقة و الإصدار الشكلية . و حامل جرثومة هذا الفهم التبسيطي الشكلي للقانون عرضة لعمى البصيرة و عجز التمييز بين القانون كأداة للإذلال و القهر و الغصب و القانون كأداة لضمان الحقوق و الحريات الأساسية. و مجال القانون هو الحقوق بمختلف أنواعها و ما يقابلها أو يناقضها من مفاهيم و كليات. و الحقوق أنواع منها الدستوري و القانوني العام و القانوني الخاص و غيرها. و الحقوق بجميع أنواعها تنقسم من حيث مصدرها أو الأساس الذي تقوم عليه إلى: -حقوق مكتسبة بطريقة صحيحة و نافذة كأمر واقع. -حقوق مكتسبة بطريقة صحيحة و مسلوبة و مغتصبة كأمر واقع. -حقوق في أصلها مغصوبة بالتغلب و القهر أو الخيانة و نافذة كأمر واقع. و الأصل أن الأمر الواقع لا يعتبر بمفرده أساسًا جوهريًا للحق . فقد يكون منزلك ذو الألفين متر مربع المشيّد على قطعة أرض مملوكة لك بشهادة بحث صادرة في 1995 حق ثابت لك بالأمر الواقع . و لكن إذا ثبت أنه مبنيّ على أرض مخصصة لخدمات الحيّ العامة فإن ثبوت حقك بالأمر الواقع لن يضمن لك تمتعك بالمنزل ما لم تثبت أأن الملكية قد آلت إليك بطريق صحيح . و ذلك لأن الحقوق يشترط فيها صحة الأساس بمعنى أن تكون مكتسبة بطريقة صحيحة. و لمزيد من التوضيح أقول: إذا كنت تملك بالأمر الواقع خلال العقود الماضية صحيفة أو قناة فضائية نشطة و مرخصة و مسجلة طبقًا للقوانين الصادرة من نظام شمولي متسلط فأنت بالأمر الواقع لك حق ملكية و لصحيفتك أو قناتك حقوق الحرية الإعلامية و النشر. و لكن إذا ثبت بالإقرار أو البراهين أن ملكية تلك القناة أو الصحيفة قد آلت إليك بالتعدي منك أو من غيرك على حقوق الآخرين أو المال العام فيجب أن تعلم و تتيقن أن مصير حقك رهين بمصير النظام الشمولي المتسلط و أنه بسقوط ذلك النظام قد يهدر حقك لأنه مصدره الغصب . و معلوم أن الغصب لا يكسب الغاصب حقا و لا يسقط حق المالك الأصلي. كذلك الحال إذا كنت تملك بالأمر الواقع نقابة مؤسسة و مسجلة و نشطة وفقا لتشريعات النظام الشمولي المتسلط فلك في الظاهر حرية التنظيم و العمل النقابي و الحماية من الحل و التصفية و المصادرة. و لكن إذا ثبت بالإقرار أو البراهين أن النقابة قد آلت إليك بالتعدي على حقوق الآخرين و حرياتهم و حياة بعضهم أو أنه تم التمكين لها بمال مغصوب من الآخرين أو الخزينة العامة فيجب أن تعلم أن حقك بالأمر الواقع لن يحوز أو يستحق الحماية القانونية المقررة للحقوق المكتسبة بطريقة صحيحة. و الاصل في المجتمعات الديمقراطية حيث تهيمن سيادة حكم القانون أن تكون الحقوق في كل وقت و حال مستوفية لصحة الأساس (الجوهر) و نافذة بالأمر الواقع (المظهر) أو قيد النظر أمام القضاء. و متلازمة المفارقة بين جوهر الحق و مظهره هي من أمراض القليل من دول بينها السودان ما زالت أنظمة الحكم و القانون فيها دولا بين الديمقراطية من جانب و العسكر و المليشيات من الجانب الآخر. و عودًا على التقسيم الذي ابتدرت به هذه المداخلة فإن الحقوق المكتسبة بطريقة صحيحة و مغتصبة بالأمر الواقع قد لا يستطيع أربابها استعادتها في وجود النظام الشمولي المتسلط. و لا أدلّ على ذلك من تجربة السودان حيث ظلت حقوق النقابات الحرة مهدرة و دورها و أموالها و تاريخها مستباحا طيلة ثلاثين سنة هي عمر ذلك النظام. و لأصحاب الحقوق المكتسبة بطريقة صحيحة حال سقوط النظام أن يسعوا إلى استرداد حقوقهم و المطالبة بحمايتها و نفاذها بالأمر الواقع. و بالنسبة للحقوق المغصوبة و ظلت ثابتة و نافذة بالأمر الواقع فمصيرها رهين بمصير النظام الشمولي المتسلط. فإن كانت حقوقا مغصوبة من المال العام جاز للدولة إزالة الغصب و استرداد الأموال للخزينة العامة . و إن كانت في جوهرها حقوقا خاصة مغصوبة من أفراد أو أشخاص جاز لهم المطالبة بإهدار الغصب و استرداد حقوقهم. و مدارس القانون التي تشتط في حصر القانون في محيطه الشكلي نافية لأي علاقة أو ارتباط له بغيره من نواميس أقتصادية أو اجتماعية أو مدنية أو سياسية لها مبرراتها لذلك في حال المجتمعات الديمقراطية المتقدمة . و لكن اقتباس هذا المنهج و تطبيقه في مجتمعات ما زالت شؤونها تدار بالقوة الغاشمة له آثار مدمرة أقلها استخدام القانون لتمكين العزل السياسي و تراكم الثروة و السلطة بطريق الغصب و القتل و الإبادة و التمييز و غير ذلك من أساليب التمكين البدائية. و قد كان النظام التعليمي و المهني القانوني في السودان راسخا و موسوعيا حتى أدركته الإنقاذ في سنة 1989. و لو أن قضاة و قانونيي السودان المتبوأين لأمانة القضاء و النيابة و المحاماة في ذلك التاريخ ظلوا على رأس عملهم بعده لما حاق بالنظام التشريعي و المهن القانونية بمختلف أقسامها الضعف و الهوان و الاستكانة للظلم و الذين ظلموا. و ما أحدثته الإنقاذ من تغيير جذري سالب في سلك المهن القانونية فيما بعد 1989 ما كان له أن يتم إلا في فراغ قانوني خلقته الإنقاذ بفصل و تشريد القضاة و المستشارين و وكلاء النيابة و تصفية نقابة المحامين و ملأ الفراغ بقضاة حفاة و عسكريين و مدنيين و موالين من حدب و صوب المهن الأخرى. و نحن نرى اليوم محامين يجادلون عن متهمين أو مدعين أو مدعى عليهم من رموز النظام السابق. و هذا بالطبع من حقهم و حق موكليهم عليهم. و معلوم أن نظام المحاماة العلماني يكفل للمحامي بل يوجب عليه المجادلة عمن يستعين به دون اعتبار لكونه محقًا أو مبطلًا قبل صدور حكم نهائي بذلك. و أدب المحاماة في الشريعة الإسلامية أكثر تشددًا حيث يحظر صراحة تولي الخصومة عن الخائنين أو المجادلة عن الذين يختانون أنفسهم (النساء 105 / 107 ). و لا شك أن الزملاء المحامين يدركون ذلك. و بالنسبة لأطراف الخصومة الآخرين و الذين يتابعون المحاكمات و الدعاوى فهم بلا شك مدركون لماهية الحقوق و الحريات التي تجرى على ألسنة المحامين و أن منشأ بعضها ربما كان بقطع رزق البعض أو على أنقاض نقابته أو حريته أو حياة نفر من أحبابهم. د. صديق عبد الباقي أستاذ بجامعة الخرطوم