كان أنور، الذي يعيش في مدينة جنوبي فرنسا، يجري مكالمة فيديو مع زوجته المقيمة جنوبي سوريا، عندما أتاه إشعار على هاتفه المحمول. عرفا فوراً أنها الرسالة التي بقيا ينتظران وصولها من السفارة الفرنسية في بيروت طيلة أشهر. "بكينا. قلتُ لها ‘افصلي التلفون لأتأكد ‘. رأيتُ رسالة قبول منحها الفيزا هي وابنتنا، وموعد الاستلام خلال أسبوعين. اتصلتُ بها وطمأنتُها: وأخيراً، مرحلة وتجاوزناها"، يتحدث أنور (اسم مستعار) ببهجة وهو يتذكر. غادر أنور، وهو اليوم بعمر ال27، سوريا في صيف عام 2018، في حين بقيت زوجته التي تقاربه في العمر مع ابنتهما. "عندما سافرت كان عمر ابنتي تسعة أشهر. كنت أتكلم مع زوجتي كل يوم على واتساب، وكانت ترسل لي صور ابنتنا". "أتذكر كيف تأخرت ابنتي بالمشي. زاد قلقي وتوتري. احتاجت حذاءً طبياً جيداً من دمشق، فكنت أتصل وأنسق بسبب صعوبة الحركة بين المدينتين. كنت أحاول أن أطمئن زوجتي دائماً أنهما قريباً سيكونان عندي. كنت أعلم أنهما لن تكونا ‘قريباً ‘ معي، لكني لم أرد أن أبعث التشاؤم لزوجتي"، يخبرني أنور. عند وصوله فرنسا مر بالرحلة المعتادة: مركز استقبال طالبي اللجوء، سكن جماعي صغير لفترة قصيرة، مواعيد كثيرة مع جمعية الهجرة والاندماج للمساعدة في تقديم الأوراق المطلوبة، ومن ثم الاستقرار في المدينة المختارة له. كما التحق بجامعة قريبة لتعلم الفرنسية فور أن علم أنه يحق له ذلك كطالب لجوء. وكان الانتقال من خطوة لأخرى يستغرق كثيراً جداً من الوقت. وكان على أنور الانتظار سنة وتسعة أشهر حتى حصل على حق اللجوء. "ليس هناك وقت محدد للحصول على حق اللجوء حتى لمن لديهم نفس الظروف؛ بعض الأصدقاء حصل عليه خلال 20 يوماً في حين انتظر آخرون ثلاث سنوات. بقيت أنتظر وكانت حياتي متوقفة فأنا كطالب لجوء لا يحق لي العمل ولا الحصول على منزل مستقل، وغير ذلك. البيروقراطية سبب التأخير". "أكثر ما يؤلم هو أنه لا توجد مواعيد محددة. كل شيء متروك للحظ. يبقى الشخص على أعصابه طوال الوقت وبكل مرحلة من مراحل الإجراءات. ليست هناك فترة زمنية محددة لأي مرحلة ولا سقفاً زمنياً". ويعد لم الشمل (أو توحيد العائلة) حقاً للاجئ، لكن بشرط أن يحصل طالب اللجوء على حق الحماية أولاً كي يتمكن من التقدم بالطلب. وجاء في دليل طالب اللجوء إلى فرنسا أنه إذا كانت العائلة موجودة خارج فرنسا عند حصول الشخص على الحماية، فيمكن جلبها إلى فرنسا دون شرط توفر الموارد والسكن. ومن بين المعنيين بهذا الحق: شريك الحياة (بشرط أن يكون الزواج أو الاتحاد المدني قد سجل بتاريخ يسبق تاريخ طلب اللجوء بعام على الأقل)؛ أو الشريك العاطفي (وله شروط)، والأولاد (حتى عمر 19 كحد أقصى إن كانوا غير متزوجين)؛ والأبوين مع أولادهما القصّر (في حال كان الحاصل على حق الحماية قاصراً وغير متزوج). لكن أنور قرر عدم اللجوء إلى إجراءات لم الشمل خوفاً من أن يستغرق الأمر وقتاً طويلاً، بل قدّم لزوجته وطفلته طلباً لدى السفارة الفرنسية في بيروت للحصول على تأشيرة للتقدم باللجوء. إعادة اللاجئين إلى سوريا "أولوية" للرئيس بوتين ورغم سوء الوضع الأمني في لبنان في شهر أكتوبر/تشرين الأول الماضي أثناء الاحتجاجات واسعة النطاق، ذهبت زوجة أنور إلى موعد المقابلة في بيروت، بسبب خشيتهما أن تتأخر السفارة بإعطاء موعد جديد. "طبعاً ما حبينا تروح ويكون في مخاطرة، لكن خفنا أن يعتقد موظفو السفارة أننا مستهترون". حصلت زوجته بعد نحو خمسة أشهر على تأشيرة، وكان من المقرر سفرها في نهاية شهر آذار/مارس من هذا العام، ولكن بسبب إجراءات إغلاق الحدود بين سورياولبنان جراء وباء كورونا، تأجل السفر إلى فرنسا. ووفقاً لتقرير صادر في فبراير/شباط 2019 عن مفوضية الأممالمتحدة لشؤون اللاجئين، أصدرت فرنسا 23,200 موافقة للم شمل عائلات اللاجئين وطالبي الحماية على أرضها عام 2017، في حين لم يتجاوز العدد عام 2016 ال 2,400 موافقة. عندما أجريتُ المقابلة مع أنور في بداية شهر ديسمبر/كانون الأول الماضي، كان ينتظر وصول زوجته وابنته ويحاول الاستعداد لمجيئهما وتأمين سكن للعائلة، كما أنه كان قد حصل على قبول في مركز تدريب على عمل. "أقيم الآن عند صديقي وأنا أبحث عن سكن. شروط الحصول على سكن خاص شروط تعجيزية للاجئ؛ فالمطلوب عقد عمل براتب يساوي ثلاثة أضعاف إيجار البيت مع وجود كفيل"، كما يشرح أنور، ويضيف: "الخيار الثاني هو السكن الذي تؤمنه الدولة وهذا مثله مثل باقي الأمور من غير المعروف توقيت استلامه كما أن الدولة تحدد المدينة التي تريدنا أن نعيش فيها". يقول أنور إن أولويته الآن أن "نسكن معاً ولو بنص غرفة. هي أكيد تعبت وأنا تعبت أكثر". ويتذكر كيف كانا يفكران بديكور بيتهما، الذي كان قد عمّره في مدينتهما قبل أن يقرر المغادرة. ويتذكر كيف "تخوّفت" زوجته من سفره واحتمال تعرّفه على امرأة أخرى. "عندي ارتباط بزوجتي وبابنتي. بيننا ألفة ومحبة وهي صديقتي. وعاطفياً ليس من السهل عليّ الانفصال. ومنطقياً، لماذا أغامر وأبدأ حياة جديدة؟ رغم أني قادر على فعل هذا فلا أحد هنا ليعاتبني أو يضغط عليّ، لكني أعرف أنني لن أجد إنسانة مثلها. هناك حب ومشاعر بيننا وهي قريبة مني ومن بيئتي وثقافتي". وفقاً للأمم المتحدة، يساعد توحيد العائلات اللاجئين على إعادة بناء حياتهم واندماجهم في المجتمع الجديد، كما يزداد التماسك الاجتماعي والاقتصادي في المجتمع المضيف. ويؤمن هذا الإجراء طرقاً آمنة لإحضار بقية أفراد العائلة مما يقلل مخاطر الإتجار بالبشر. رغم أن موعد وصول زوجة أنور وابنته تأجل أكثر من مرة، عاد أنور ليعلمني بوصولهما منذ أيام قادمتين من سوريا إلى فرنسا. "أهلي في الجهة الثانية من الكرة الأرضية" وصل والد سنا وأخوها الوحيد إلى ألمانيا عام 2015، ولحقت بهما أمها في مطلع عام 2019، فبقيت في دمشق بلا والديها منذ نحو عامين. يقول والد سنا لبي بي سي إن المحكمة الاتحادية رفضت طلبه بإحضارها مع والدتها إلى ألمانيا، لأنّ عمرها كان قد تجاوز الثامنة عشرة بنحو 22 يوماً عندما تقدم بطلب توحيد العائلة في ألمانيا. طعن الأب في ذاك القرار على خلفية وضع ابنته الصحيّ، لكنّ طلبه رفض مجدداً، وجاء في رد المحكمة أن ابنته لم تعد قاصراً وأصبحت قادرة على الاعتماد على نفسها، كما يوضّح. ووفقاً للقانون الألماني، يمكن للاجئ لم شمل الأبناء اللذين لا تزيد أعمارهم عن ثمانية عشر عاماً، ولكن توجد "حالات استثنائية" للم شمل من هم أكبر سناً. عام 2017، أصدرت ألمانيا أكثر من 54 ألف تأشيرة لأفراد عائلات الحاصلين على الحماية على أراضيها، في حين كان عدد هذه التأشيرات 32 ألفاً عام 2018، وفقاً لمفوضية الأممالمتحدة لشؤون اللاجئين. تقول سنا، وهي اليوم على مشارف الثالثة والعشرين من العمر: "كنت ضد فكرة سفرهم طيلة سنوات. كنت أقول لهم مهما كانت الظروف صعبة المهم هو أن نبقى معاً. لكني اكتشفت بعد ذلك أهمية السفر لأني قد أحصل بفضل ذلك على فرصة للعلاج من مرضي فتقبلت الموضوع". تخبرني أنّ كل ما أرادته طوال حياتها هو دراسة المسرح أكاديمياً لتصبح ممثلة محترفة، بعد أن كانت تتابع عروض المسرح في مهرجان مدينتهم منذ صغرها، ثم انتقل الأب بالعائلة إلى العاصمة دمشق عام 2008، وكانت لا تزال في فترة المراهقة، مما قربها من احتمال تحقيق حلمها والالتحاق بالمعهد العالي للمسرح. "كنتٌ مثل الفراشة.. أذهب من المدرسة، لمعهد الرقص، بعدها لدرس البيانو. كنت أريد أن أكون جاهزة كي ألتحق بالمعهد العالي للفنون المسرحية. بعدها بدأتُ أشعر بالمرض وأصبحتُ بحاجة لمساعدة أمي في كثير من الأحيان لأتحرك. تركت المدرسة ورسبت في البكالوريا أكتر من مرة"، تقول سنا. وفي عام 2014 وبعد رحلات بين الأطباء، شُخصت إصابتها بمرض مناعي. تقول سنا إن أصعب سنة مرت عليها حتى الآن كانت السنة التي سافرت فيها أمها. "قررت أن أحاول مجدداً لأحصل على شهادة البكالوريا. لكني كنت أمر بظرف صعب فأهلي في الجهة الثانية من الكرة الأرضية. رسبت. لكن أصبح كل ما أريده هو تلك الشهادة". "رغم ذلك، كان ذاك العام أيضاً نقلة نوعية في حياتي. تغيرت شخصيتي واكتشفتُ أشياء عن نفسي لم أكن أعرفها من قبل. وقعت لفترة طويلة، لكني ساعدت نفسي على النهوض. كنت أبكي في الشارع كلما شعرت بالحزن، فالضعف هو أن أخفي مشاعري. مررتُ بأصعب شعور في العالم: الوحدة. لكني أصبحتُ متصالحة مع نفسي أكثر. لو لم أمر بما مررتُ به لما أصبحتُ سنا الحالية". ورغم أنها كانت قد بدأت بأداء أدوار تمثيل بسيطة، إلا أنّ سنا قررت أن تركز على الدراسة العام الماضي، وفعلاً حصلت على الشهادة قبل أشهر. تمكنت سنا مؤخراً من التسجيل في برنامج أونلاين لدراسة المسرح في روسيا، كآخر خياراتها بعد أن رُفض طلب انتسابها للمعهد العالي للمسرح بدمشق، كما تقول. "المسرح الروسي مهم. والحصول على التأشيرة هناك ليس صعباً. كما أن معرفة اللغة ليست شرطاً للدراسة هناك. لكني إن سافرتُ إلى روسيا ستصبح إمكانية العيش مجدداً مع أهلي صعبة. ستصبح لقاءاتنا مقتصرة على أوقات زيارتهم لي – إن تمكنت من السفر بعد رفع إجراءات كورونا". "لا أشعر بالسعادة" بعد رحلة شاقة استغرقت عاماً كاملاً تقريباً، بدأت من السودان مروراً بتشاد وليبيا وإيطاليا وفرنسا، وصل السوداني تاج الدين إلى بريطانيا في نهاية عام 2016. كان عمره حينها 15 عاماً فقط. ترك خلفه والديه وإخوته الثلاثة، وغادر قريته خوفاً من أن يُجند مع قوات الجنجويد، كما يقول. وقوات الدعم السريع هذه، التي يقودها حميدتي، هي قوات مثيرة للجدل، لا يعرف عدد أفرادها بالضبط. وتعود بداية تشكلها إلى عام 2003، عندما استخدم الرئيس السابق، عمر حسن البشير، رجالاً من شمال دارفور شكلوا ميليشيات غير نظامية سُميت "الجنجويد" للتصدي لمتمردي دارفور. وتتهم منظمات حقوقية دولية هذه القوات بارتكاب عدة انتهاكات لحقوق الإنسان أبرزها في إقليم دارفور. من مطبخ البيت الذي يعيش فيه حالياً في برمنغهام، يخبرني تاج الدين بالإنكليزية عبر تطبيق زووم أنه يدرس الآن لكي يصبح شرطياً. "شاهدتُ كيف يعامل رجال الشرطة الناس في بلدي. وشاهدت الشرطة في تشاد وليبيا وإيطاليا وفرنسا. أحياناً تكون الشرطة آخر أمل للشخص، وإن لم يجد الشخص لديهم ما يريده فيكون قد خسر فرصته الأخيرة. أريد أن أكون شرطياً لأغير حياة الناس. أريد أن أقدم شيئاً لهذا البلد مقابل ما حصلتُ عليه". لكنه يقول إنه لا يشعر بالسعادة، رغم أن وضعه تحسن كثيراً عن السابق؛ وثقته بنفسه قد زادت، وأصبح متمكناً من اللغة الإنجليزية، كما أنّه كوّن عدة صداقات. "أستطيع فعل كل ما أريده، لكني لا أشعر بالسعادة. أبقي نفسي مشغولاً طوال اليوم. وعندنا أخلد للنوم أفكر. أحياناً أفكر بما فعلتُه وبما أريد فعله. فلا أشعر بالسعادة. قد يكون الوصول للسعادة صعباً". "أحياناً أعتقد أن هذا اليوم هو أفضل يوم لي. ثم أتذكر إحدى الليالي السابقة عندما كنت أجلس مع عائلتي حول مائدة العشاء وعندما كنا نتحدث بعد العشاء طوال الليل. قد تكون تلك هي السعادة". تطوّع تاج الدين مع الصليب الأحمر لمساعدة طالبي اللجوء، وتفرغ ليدرس الإنجليزية لمدة عام، كما عمل لفترة في مطعم، ويركز الآن على دراسته، لكن أصعب ما في الأمر، بالنسبة له، هو أنه قد لا يكون قادراً على جلب عائلته للعيش معه أبداً. فهو اليوم بعمر العشرين، والقانون البريطاني بالأساس لا يضع الوالدين ضمن قائمة من يحق للاجئ لم شملهم. هذا يعني أنّ عليه الانتظار حتى عام 2024 لكي يكون قادراً على زيارتهم بعد أن يكون قد أصبح مواطناً بريطانياً حاملاً لجواز سفر بريطاني. ولا يمنح القانون البريطاني حق لم شمل الوالدين للقصّر الذين يصلون إلى المملكة المتحدة حتى وإن حصلوا على حق اللجوء. فوفقاً لقانون الهجرة البريطاني، يمكن لأي شخص بالغ حصل على حق اللجوء، إحضار شريك الحياة والأطفال الذين يبلغون سن السابعة عشر كحد أقصى (بشرط ألا يكونوا متزوجين وأن يكونوا معتمدين على اللاجئ). الكلمة الوحيدة التي قالها تاج الدين بالعربي أثناء المقابلة، كانت عندما سألته عن أكثر ما يفتقده حالياً بعد مضي أربع سنوات له بعيداً عن عائلته. "حنان أمي". يقول تاج الدين بهدوء: "كنت أعرف دائماً أنّ أمي موجودة إن أردت أي شي. أذكر كيف كانت تكلفني بمهام جلب أغراض أو أي شيء آخر وتعطيني نقوداً بالمقابل. لا أعرف كيف أقول ‘حنان الأم ‘ بالإنجليزية". "عندما أتصل بها تقول لي إنهم جميعاً بخير وليسوا بحاجة للمال، وتطلب مني ألا أعمل كثيراً، بل أن أركز على دراستي وأن أبتعد عن المشاكل وعن الناس السيئين". عام 2017، تأسس في بريطانيا ائتلاف اسمه ( Family Together) أو العائلة معاً، من قبل عدة منظمات، أبرزها أمنستي والصليب الأحمر وأوكسفام إلى جانب المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين، لمطالبة الحكومة البريطانية بالسماح لعدد أكبر من اللاجئين بلم شمل عائلاتهم، كي لا تضطر تلك العائلات لخوض رحلات تتخللها المخاطر. كما ركزت الحملات على توضيح شكل الحياة التي يعيشها الأطفال اللاجئون وحدهم في المملكة المتحدة. وحالياً يجمع تاج الدين الوثائق المطلوبة لكي يتقدم محاميه بطلب لتوحيد عائلته، فهو يريد أن يجرب حظّه وليرى إن كان سيرى أخته وأخويه وووالديه معه في بريطانيا – أم لا. بي بي سي