"غريم حميدتي".. هل يؤثر انحياز زعيم المحاميد للجيش على مسار حرب السودان؟    الحراك الطلابي الأمريكي    تعويضاً لرجل سبّته امرأة.. 2000 درهم    معمل (استاك) يبدأ عمله بولاية الخرطوم بمستشفيات ام درمان    سعر الدولار مقابل الجنيه السوداني في بنك الخرطوم ليوم الثلاثاء    سعر الريال السعودي مقابل الجنيه السوداني من بنك الخرطوم ليوم الثلاثاء    سعر الدرهم الإماراتي مقابل الجنيه السوداني ليوم الثلاثاء    سعر الدرهم الإماراتي مقابل الجنيه السوداني ليوم الثلاثاء    نهب أكثر من 45 الف جوال سماد بمشروع الجزيرة    ابتسامات البرهان والمبعوث الروسي .. ما القصة؟    انتدابات الهلال لون رمادي    المريخ يواصل تدريباته وتجدد إصابة كردمان    أنشيلوتي: لا للانتقام.. وهذا رأيي في توخيل    بعد فضيحة وفيات لقاح أسترازينيكا الصادمة..الصحة المصرية تدخل على الخط بتصريحات رسمية    راشد عبد الرحيم: يا عابد الحرمين    بعد أزمة كلوب.. صلاح يصدم الأندية السعودية    الإمارات وأوكرانيا تنجزان مفاوضات اتفاقية الشراكة الاقتصادية الشاملة    القلق سيد الموقف..قطر تكشف موقفها تجاه السودان    الداخلية السودانية: سيذهب فريق مكون من المرور للنيجر لاستعادة هذه المسروقات    السودان..مساعد البرهان في غرف العمليات    تدرب على فترتين..المريخ يرفع من نسق تحضيراته بمعسكر الإسماعيلية    تعلية خزان الرصيرص 2013م وإسقاط الإنقاذ 2019م وإخلاء وتهجير شعب الجزيرة 2024م    الزمالك يسحق دريمز في عقر داره ويصعد لنهائي الكونفيدرالية    إيران تحظر بث مسلسل "الحشاشين" المصري    شاهد بالفيديو.. سائق "حافلة" مواصلات سوداني في مصر يطرب مواطنيه الركاب بأحد شوارع القاهرة على أنغام أغنيات (الزنق والهجيج) السودانية ومتابعون: (كدة أوفر شديد والله)    شاهد بالصورة والفيديو.. طلاب كلية الطب بجامعة مأمون حميدة في تنزانيا يتخرجون على أنغام الإنشاد الترند (براؤون يا رسول الله)    شاهد بالفيديو.. الفنانة ندى القلعة تواصل دعمها للجيش وتحمس الجنود بأغنية جديدة (أمن يا جن) وجمهورها يشيد ويتغزل: (سيدة الغناء ومطربة الوطن الأولى بدون منازع)    شاهد بالصور.. بالفستان الأحمر.. الحسناء السودانية تسابيح دياب تخطف الأضواء على مواقع التواصل بإطلالة مثيرة ومتابعون: (هندية في شكل سودانية وصبجة السرور)    يس علي يس يكتب: روابط الهلال.. بيضو وإنتو ساكتين..!!    تجارة المعاداة للسامية    سرقة أمتعة عضو في «الكونجرس»    بايدن منتقداً ترامب في خطاب عشاء مراسلي البيت الأبيض: «غير ناضج»    تدمير دبابة "ميركافا" الإسرائيلية بتدريب لجيش مصر.. رسالة أم تهديد؟    حسين خوجلي يكتب: البرهان والعودة إلى الخرطوم    شاهد بالصورة.. بعد أن احتلت أغنية "وليد من الشكرية" المركز 35 ضمن أفضل 50 أغنية عربية.. بوادر خلاف بين الفنانة إيمان الشريف والشاعر أحمد كوستي بسبب تعمد الأخير تجاهل المطربة    قوة المرور السريع بقطاع دورديب بالتعاون مع أهالي المنطقة ترقع الحفرة بالطريق الرئيسي والتي تعتبر مهدداً للسلامة المرورية    السينما السودانية تسعى إلى لفت الأنظار للحرب المنسية    بيان جديد لشركة كهرباء السودان    أمس حبيت راسك!    دخول أول مركز لغسيل الكلي للخدمة بمحلية دلقو    شركة توزيع الكهرباء في السودان تصدر بيانا    تصريحات جديدة لمسؤول سوداني بشأن النفط    لطرد التابعة والعين.. جزائريون يُعلقون تمائم التفيفرة والحلتيت    دخول الجنّة: بالعمل أم برحمة الله؟    الملك سلمان يغادر المستشفى    عملية عسكرية ومقتل 30 عنصرًا من"الشباب" في"غلمدغ"    جريمة مروّعة تهزّ السودانيين والمصريين    تطعيم مليون رأس من الماشية بالنيل الأبيض    بالصور.. مباحث عطبرة تداهم منزل أحد أخطر معتادي الإجرام وتلقي عليه القبض بعد مقاومة وتضبط بحوزته مسروقات وكمية كبيرة من مخدر الآيس    لمستخدمي فأرة الكمبيوتر لساعات طويلة.. انتبهوا لمتلازمة النفق الرسغي    مضي عام ياوطن الا يوجد صوت عقل!!!    إصابة 6 في إنقلاب ملاكي على طريق أسوان الصحراوي الغربي    مدير شرطة ولاية شمال كردفان يقدم المعايدة لمنسوبي القسم الشمالي بالابيض ويقف علي الانجاز الجنائي الكبير    الطيب عبد الماجد يكتب: عيد سعيد ..    بعد نجاحه.. هل يصبح مسلسل "الحشاشين" فيلمًا سينمائيًّا؟    السلطات في السودان تعلن القبض على متهم الكويت    «أطباء بلا حدود» تعلن نفاد اللقاحات من جنوب دارفور    دراسة: القهوة تقلل من عودة سرطان الأمعاء    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



ميزان المدفوعات ومزايا وأضرار تعويم معدل سعر الصرف
نشر في الراكوبة يوم 16 - 03 - 2021

في شأن تعضيد الاقتصاد المدني ودعم الحكومة المدنية (12 – 100)
حسين أحمد حسين
مدخل
نحن نعيش اليوم في عالمٍ إن وقعَ في جزءٍ منه حدث ما، يؤثر ذلك الحدث في جميع أرجائه. ودونكم كساد 2008 الذي بدأ بقضية تسليف عقاري في أمريكا، وانتهى بين عشية وضُحاها إلى خسائر بجميع المؤسسات المالية في العالم، وأدت إلى انهيار التمويل؛ وما بجائحة كورونا وتداعياتها منَّا ببعيدة.
وبزيادة وتيرة العولمة، التي زادت فيها التجارة الدولية وحركة رؤوس الأموال بأسرع من زيادة الناتج المحلي الإجمالي لجميع دول العالم وأصبحت أكثر حرية (خلا في عام الكورونا)، فإنَّ تعرُّض دول العالم (لا سيما الثالث) لمشاكل موازين المدفوعات وتذبذبات أسعار الصرف قد تضاعف أيضاَ.
وسوف نتطرَّق في هذه الإطروحة ما إذا كان على الدولة ترك معدل سعر الصرف فيها لتحدده قوى السوق مع احتمال عدم الاستقرار الذي قد تفرزه هذه السياسة، أو ما إذا كان عليها أن تربط سعر صرفها بعملة أخرى (كالدولار مثلاً)، أو على الأقل تحاول من تقليل تقلبات سعر الصرف عبر تدخلات البنك المركزي في سوق التبادل مع العالم الخارجي.
أهداف سياسات الدولة الداخلية والخارجية
لكل دولة أهداف عديدة داخلية وخارجية بطبيعة الحال. والأهداف الداخلية عادةً ما تكون متمثلة في زيادة معدل النمو، وتخفيض البطالة، وضبط الحسابات القومية والقطاعية بمنع الفساد وجعلها مؤاتية للسياسات الداخلية، والتعامل بشكل حاسم مع كل أمرٍ يَهُز ثقة المواطن في نظام الدولة المصرفي.
أمَّا الأهداف الخارجية فتتمثل في تجنب عجز الميزان التجاري وميزان المدفوعات، وتشجيع التجارة الخارجية، ومنع التقلبات الحادة المتلاحقة لمعدل سعر الصرف، وتخفيض معدلات التضخم ومنع تذبذبها والسيطرة عليها، وبناء احتياطي نقدي من العملات الصعبة يعزز الملاءة المالية والائتمانية للدولة.
ويجب أن نعي أنَّ أهداف السياسة الداخلية وأهداف السياسة الخارجية أهداف متصارعة ومتضادَّة، وتغليب أيَّهما على الآخر يحدد وجهة سياسة الدولة العامة (البارادايم). وبالتالي إذا أرادت الدولة زيادة معدل النمو الاقتصادي وتقليل البطالة، فذلك يعني أنَّ التضخم قد يزيد وقد يختل ميزان المدفوعات ومعدل سعر الصرف ويتآكل الاحتياطي النقدي وتفقد البلد ملاءتها المالية والائتمانية. وإذا أرادت الدولة السيطرة على التضخم واختلال ميزان المدفوعات والميزان التجاري ومعدل سعر الصرف وبناء احتياطي نقدي من العولات الصعبة، فإنّ معدل النمو الاقتصادي سوف يتناقص وستستفحل معه زيادة معدل البطالة.
وبالتالي التوازن الداخلي للاقتصاد (زيادة معدل النمو وإنقاص البطالة؛ مطالب ثوَّار ثورة ديسمبر المجيدة) يتحقق – بحسب النموذج الاقتصادي المعمول به في الدولة – حينما يكون الاقتصاد في حالة عمالة كاملة إذا كانت الدولة كينزية المنهج، أو عندما يكون معدل التضخم مستقراً إذا كانت الدولة تستخدم النموذج الكلاسيكي أونموذج النقديين (أى عندما يكون الاقتصاد في وضعه الأفقي على منحني فيليب – Philips Curve).
أما التوازن الخارجي فيتحقق حينما يكون ميزان المدفوعات في حالة توازن. وبالتالي في حالة التعويم فإنَّ التوازن يكون في المعنى الضيق لتوازن الميزان التجاري وحساب رأس المال. وفي حالة معدل سعر الصرف الثابت، فيكون التوازن الخارجي في الإطار الضيق المتمثل في توازن التدفق الكلي للعملة؛ ويحدث هذا عندما يكون طلب العملة وعرضها متساويين عند السعر الثابت لمعدل سعر الصرف؛ مع الحاجة بطبيعة الحال لتدخل الدولة عبر احتياطيها من العملات الصعبة من وقتٍ لآخر؛ أي حينما يكون هناك عجز في الميزان التجاري ويتم تلافيه بفائض ميزان المدفوعات وحساب رأس المال؛ والعكس بالعكس.
الصراع بين التوازن الداخلي والخارجي
هناك إجماع من كل الاقتصاديين بأنَّه من الصعب تحقيق التوازن الداخلي والتوازن الخارجي في لحظةٍ واحدة. وذلك لأنَّ أهداف التوازن الداخلي مرتبطة حصراً بالاقتصاد القومي داخلياً، أما التوازن الخارجي فيرتبط بعلاقات الاقتصاد الخارجية.
ويتحقق التوازن الداخلي حينما يكون مستوى توازن الدخل القومي عند المستوى المطلوب. أما التوازن الخارجي بمعناه الضيق فيتحقق حينما يكون الميزان التجاري وحساب التمويل في حالة توازن. أما بالمعنى الضبابي فيتحقق التوازن الخارجي حين يكون إجمالي توازن تدفق العملة مرتبط بسعر صرف معلوم/ثابت. كما أن التوازن الخارجي في حالة سعر الصرف العائم (حيث لا تدخل من الدولة في تغيير معدلات سعر الصرف)، يكون بتساوي الطلب على العملات والمعروض منها المتحدديْن بواسطة قوى السوق التبادلي.
وبالتالي إذا حاولت الدولة التدخل في التوازن الخارجي لصالح أهداف السياسة الداخلية بتغيير سعر الصرف فإنَّ ذلك سوف يؤثر بشكل واضح في أهداف السياسة الخارجية، والعكس بالعكس.
تصحيح الأوضاع في سوق العملات في حالة السعر الثابت لمعدل سعر صرف العملة:
في هذه الحالة، ما لم يكن الطلب على العملة وعرضها متساويَيْن في سوق التبادل مع العالم الخارجي، وما لم يكن إجمالي تدفق العملات في حالة توزان عند السعر الثابت، فإنَّ البنك المركزي سيكون مضطراً للتدخل في سوق التبادل الخارجي (سوق العملات) شارياً أو بائعاً للتأثير في عملية عرض النقود وبالتالي لتعزيز سعر الصرف الثابت (هذا إذا كان البنك المركزي مسيطراً على الكتلة النقدية، وليس ثمة طباعة لها أو تزوير خارج نطاق صلاحياته وصلاحيات وزارة المالية والتخطيط الاقتصادي).
ويجب الإنتباه هنا: إلى أنَّ زيادة ونقصان عرض النقود فوق توازن سعر الفائدة أو أقل منه يشي بأنَّ درجة استجابة الاقتصاد للسياسة النقدية ضعيفة، ويشي بأنَّ الحكومة غير مسيطرة على الكتلة النقدية في البلد؛ الأمر الذي قد تكون له انعكاسات سالبة تحتاج الدولة لمعالجتها بشكل سريع؛ وهذه الانعكاسات قد يكون من من بينها الكساد؛ وتلك المعالجات قد يكون من أهمَّها تغيير العملة، وذلك لمعرفة معدل سعر الصرف الحقيقي.
تصحيح الأوضاع في سوق العملات في حالة تعويم معدل سعر صرف العملة وتحرير السياسة الداخلية
في حالة تعويم معدل سعر الصرف، تتوقف الاختلالات الإجمالية لميزان المدفوعات، حيث المشتغلون في سوق التبادل الخارجي سيعدِّلون معدل سعر الصرف على مدوناتهم باستمرار، حتى يبقى الطلب على النقد الأجنبي وعرضه في حالة من التوازن.
وبالتالي تحت ظل هذه الأوضاع فإنَّ السياسة الداخلية سوف تتخلَّص من ضغوطات ميزان المدفوعات عليها، والتي عادة ما تُصاحب معدل سعر الصرف الثابت. ومع هكذا سياسة أيضاً، تنعدم الحاجة "من الناحية النظرية" لوجود احتياطي نقدي من العملات الصعبة، لأنَّ البنك المركزي لن يكون مضطراً للتدخُّل أصلاً لدعم معدل سعر الصرف، حيث أنَّ أيَّ اختلالات في ميزان المدفوعات سوف تُصحِّحُهُ قوي السوق بالزيادة أو النقصان، وبالتالي الحكومة سوف تكون حرة في اختيار السياسة الداخلية التي تعجبها (لكنَّنا من الناحية العملية نحتاج للاحتياطي النقدي من العملات الصعبة كمحفِّز للاستثمار الأجنبي ولتحويلات السودانيين العالملين بالخارج، ولتعزيز الملاءة المالية والائتمانية للدولة، لا سيما إذا كانت بنية النظام الاقتصادي للبلد ضعيفة، وإذا كان النظام المصرفي غير موثوق به).

أقول ما أقول، وأنَّ الأمر في الواقع ليس دائماً بهذه البساطة كما يشي ما بين الهلالين أعلاه. إذْ حتى في ظل التعويم الشامل الكامل، فإنَّ الضغوطات على السياسة الداخلية قد تنشأ بفعل حركة السوق نفسها – زيادة ونقصاناً/تذبذباً – لتصحيح معدل سعر الصرف (وهي أحد منفرات الاستثمار الأجنبي وتحويل مدخرات المغتربين).
فمثلاً، تخفيض معدل سعر الصرف يزيد من أسعار الواردات. وإذا كان الطلب على الواردات طلباً غيرَ مرن (أي مرتبط باستيراد الضروريات)، فإنَّ ذلك سيؤدي إلى معدَّلات عالية من التضخم، والتي قد تتفاقم بخاصة لو أنَّ أسعار الضروريات المنتجة محلياً على شحها قد ازدادت هِيَ الأخرى بالمجاورة. وكما هو معلوم فإنَّ تذبذب معدلات التضخم أسوأ في تنفير المستثمرين الأجانب والمغتربين من التضخم العالي المستقر، لأنَّه يعكس عدم قدرة الدولة على السيطرة الكتلة النقدية؛ وهو أمرٌ يستوجب تغيير العملة كما قلنا وسوف نكرِّر.
كيفية التعامل مع الصدمات الداخلية تحت نظام تعويم معدل سعر الصرف
إذا افترضنا أنَّ هناك زيادة في الطلب الكلي أدت إلى ارتفاع التضخم، ولو افترضنا أنَّ السياسة النقدية للبلد أبقت على أسعار الفائدة عند مستواها العالمي، ولنفترض أيضاً أنَّ التضخم العالمي صفر؛ فكيف يتصرف نظام معدل سعر الصرف مع صدمة ارتفاع الطلب الكلي؟ في هذه الحالة سنجد أنَّ معدل سعر الصرف سينخفض ببساطة ليُحافظ على تنافسية صادرات البلد والصناعات البديلة للواردات.
والآن دعونا نخرج من حيِّز التنظير ونذهب عنوة إلى حيِّز الواقع، ونلغي مسألة أن اقتصادنا يحتفظ بمعدلات سعر فائدة عند مستوياتها العالمية. وبالتالي لو حدثت زيادة في الطلب الكلي، وتسببت في ارتفاع سعر الفائدة وارتفاع التضحم، فإنَّ ذلك سيكون بسببين إثنين؛ إما نتيجة الطلب على العملة وهي التي قادت إلى ارتفاع الفائدة، أو نتيجة تدخل البنك المركزي المتعمد لخفض معدل التضخم وارجاعه لمعدلاته المستهدفة.
وعليه سيكون عندنا تأثيران واقعان على معدل سعر الصرف. فالزيادة في الطلب الكلي وارتفاع معدل التضخم سوف تؤدي إلى اختلال الميزان التجاري الذي سيؤدي بدوره إلى انخفاض معدل سعر الصرف. وكلما كانت معدلات الفائدة عالية كلما كان هناك فائض في حساب التمويل، وذلك لأنَّ الممولين سيقدمون على شراء عملة البلد. وهذا الواقع سوف يؤدي بدوره إلى ارتفاع معدل سعر الصرف. وبالتالي ما إذا كان معدل سعر الصرف الحقيقي عالياً أو منخفضاً، فذلك في الحقيقة يعتمد على أيِّ الأثرين أكبر.
وفي عالم اليوم ذي التدفقات النقدية العظيمة وسرعة دوران الرساميل، فإنّ الأثر على حساب التمويل سيكون هو الأكبر، وبالتالي سيرتفع معدل سعر الصرف. وكلما تمعظمت مرونة الفائدة بالنسبة لهذه التدفقات الخارجية، ستكون هناك زيادةَ في معدل سعر الصرف. ولكن في الحالتين – وكنتيجة لأثر حساب التمويل – فإن معدل سعر الصرف التوازني سيكون أعلى من معدل تعادل القدرة الشرائية للعملة المحلية (PPP) مع عملات العالم الذي يعنينا في التجارة الخارجية، وهذا سوف يؤثر على سلع الصادر والصناعات البديلة للواردات. ويحدث ذلك لأنَّ معدل سعر الصرف لم ينخفض بما يكفي ليحتفظ بتنافسيته للواردات، وبالتالي سيظل الميزان التجاري في حالة عجز (وذلك لضعف مرونة العرض)؛ بينما حساب التمويل وحساب رأس المال سيكونان في حالة فائض.
وهناك خطر آخر ما انفكَّ يطل برأسه في السنوات الأخيرة هو "تجارة المناقلة" (الاقتراض عند معدلات منخفضة للفائدة لعملة من العملات والاستفادة منها في تمويل أنشطة وشراء أسهم بعملات أخرى ذات معدلات فائدة عالية)؛ الذي من شأنه التأثير السلبي على معدل سعر الصرف وبالتالي الزيادة المحسوسة في عجز الميزان التجاري؛ حيث المستثمرون العالميون عادة ما يستفيدون من الفروقات في معدلات الفائدة الإسمية بين الدول.
كيفية التعامل مع الصدمات الخارجية تحت نظام تعويم معدل سعر الصرف
لنفترض أنَّ بقية العالم قد تعرض لحالة كساد (ولكن دون تغيير في معدلات سعر الفائدة العالية – وهذا افتراض نظري). في هذه الحالة فإنَّ الطلب على صادراتنا سيقل بسبب الكساد، الأمر الذي سيؤدي إلى انخفاض معدل سعر الصرف لا محالة. وذات انخفاض معدل سعر الصرف في الظروف العادية من المفترض أن يؤدي إلى زيادة الطلب على صادراتنا ومنتجات الصناعات البديلة للواردات. وهذه الزيادة في الطلب على صادراتنا، من المفترض أن تساعد من جديد في تحييد الأثر السلبي من الدخول في حالة كساد. وهنا – ومن حيث التنظير فقط – فإنَّ تعويم معدل سعر الصرف يبدو وكأنَّه يؤدي إلى عزل الاقتصاد القومي من تذبذبات الاقتصاد العالمي.
قلتُ ما قلتُ أعلاه من حيث منطق النظرية بغرض تِبيان حركة السوق. أما في الواقع فالصدمات الخارجية تأتي في كل وقتٍ وحين، بالقدر الذي يُربك سلاسة التنظير بعاليه ذات نفسها، والذي يعتمد عليه أنصار التعويم. غير أنَّ هناك ريبة دائمة وعدم وثوق فيما يحمله المستقبل لمسار معدل سعر الصرف تحت نظام التعويم، الأمر الذي يجعل نظام التعويم يتعقَّد بفعل أنشطة المضاربين، بحيث كلما توقع المضاربون تغيير في معدل سعر الصرف، فإنهم سيدخلون مشترين أو بائعين ما عندهم من عملة؛ وذلك ما يجعل معدل سعر الصرف يتذبذب في ظل نظام التعويم؛ وكفى بالتذبذب منفراً للرساميل.
وإذا افترضنا وجود زيادة في معدل التضخم في السودان مثلاً فوق المعدلات العالمية (330.78%)، مع ثبات معدلات الفائدة العالمية، فإنَّ هذا الواقع سيؤدي لانخفاض الطلب على صادراتنا وعلى عملتنا السودانية (بفرضية أن مرونة سعر الطلب أكثر من واحد صحيح). ولنفترض أيضاً ثمة وجود زيادة في الواردات وزيادة في الكتلة النقدية (عرض النقود)، فحين ينخفض معدل سعر الصرف، فإنَّ المضاربين سيسلكون أحد سبيلين:
1/ جعل المضاربة مستقرة؛ وهي حالة تتم في الواقع حينما يعتقد المضاربون أنَّ التغيُّر في سعر الصرف سيزول عما قريب. وهنا ربما توقع المضاربون أنَّ البنك المركزي سيرفع معدلات سعر الفائدة، أو لربما سعى لخيارات أُخرى من شاكلة تخفيض التضخم. وهنا سيشتري المضاربون المزيد من العملة المحلية ويحجمون عن البيع – وذلك يعني أنَّهم يتوقعون زيادة في معدل سعر الصرف – وبالتالي توقع المضاربين هذا سوف يتسبب في زيادة سعر الصرف الذي توقعوه فعلاً.
وفي العموم جعل المضاربة مستقرة، حالة تحدث متى ما اعتقد المضاربون أن معدل سعر الصرف مبالغٌ في ردة فعله تجاه الوضع الراهن للاقتصاد.
2/ جعل المضاربة غير مستقرة؛ وهى حالة تتنزل في الواقع حينما يعتقد المضاربون أنَّ تغيرات معدل سعر الصرف سوف تستمر في نفس الاتجاه السائد. وهنا في هذا المثال سنجد أنَّ المضاربين قد يعتقدون أنَّ التضخم لا يمكن السيطرة عليه. وبالتالي سوف يتوقعون استمراراً في انخفاض سعر الصرف مما يدفع بسياسة البيع العاجل ويشجعونها قبل أن يضطرد انخفاض معدل سعر الصرف.
وفي نهاية المطاف، فإنَّ حالة جعل المضاربة غير مستقرة بواسطة المضاربين قد تؤدي إلى اضطراد التقلب في معدل سعر الصرف؛ إلى الحد الذي ينخفض معه وبشكل كبير هذا المعدل دون معدل تعادل القيمة الشرائية للجنيه السوداني مع عملات العالم النشطة اقتصادياً مع السودان (PPP آنف الذكر). وعند هذه النقطة فإنَّ المضاربين المتفائلين بارتفاع معدل سعر الصرف من جديد سيبدأون في شراء الجنيه السوداني من ثان؛ الأمر الذي قد يدفع بمعدل سعر الصرف للارتفاع من جديد. وهذا الوضع يحدث عكسه تماماً مع المضاربين المتشائمين؛ وبالتالي تصبح المضاربة غير مستقرة ومعدل سعر الصرف غير مستقر؛ وذلك أيضاً أكثر تنفيراً للرساميل كما جاء بعاليه.
ومن الواضح أنَّ الحكومات تفضل جعل المضاربة مستقرة على عدم استقرارها. وذلك لأنَّ حالة جعل المضاربة غير مستقرة قد يؤدي إلى تذبذب حاد في معدل سعر الصرف، لا سيما إذا ارتبط الأمر بعمليات تزوير وطباعة للعملة خارج القنوات الرسمية. وبالتالي الارتياب الناتج من هذه الحالة سيكون له أثر مدمِّر على التجارة الخارجية (وهذا الواقع هو الذي جعلنا ننادي باستمرار بتغيير العملة للسيطرة الكتلة النقدية وإبقائها في قبضة الدولة داخل النظام المصرفي). ومن المهم في هذه الحالة أن تكون للحكومة القدرة على خلق جو من الثقة، وعلى الجمهور أن يعتقد أنَّ حكومتهم قادرة على منع الأزمات الاقتصادية.
ومحصلة هذه الجزئية أنَّ ما يتوقعه المضاربون سوف يحدث بالنسبة لمعدل سعر الصرف؛ وإذا قالوا أنَّ معدل سعر الصرف سينخفض فسينخفض، وذلك ببيع ما عندهم من عملة لجعل معدل صرف العملة يبدأ في الانخفاض؛ وهم الرابحون في نهاية المطاف في حالة وضعي المضاربة الإثنين.
مزايا (وهي نظرية بطبيعة الحال) تعويم العملة
1/ التصحيح التلقائي لمعدلات سعر الصرف ارتفاعاً وانخفاضاً بواسطة قوى السوق، وبالتالي فإنَّ معدل سعر الصرف سوف يتحرك بحرية نحو التوازن. وفي هذه الحالة فإنَّ اختلالات ميزان المدفوعات سوف تصحِّح نفسها بنفسها تلقائياً بدون تدخل من الدولة بأيِّ نوع من السياسات، والتي تحت أنظمة بعينها قد لا يُحسن استخدامها.
2/ لن تكون هناك مشكلة فيما يتعلق بالسيولة الدولية والاحتياطات النقدية من العملات الصعبة. وبالتالي لأنَّ البنوك المركزية ليست بحاجة للتدخل في سوق التبادل مع العالم الخارجي، ستنتفي حاجتها للاحتياطات النقدية من العملات الصعبة، لأنَّ كل شئ سوف يتحدد بواسطة قوى السوق.
3/ عزل الاقتصاد القومي من الأحداث العالمية الضارة به؛ حيث لن تكون البلد عرضة/متقيِّدة بمعدلات تضخم عالمية عالية غير متوقعة كما في حالة معدل سعر الصرف الثابت. بل بإمكانها أن تحدد معدل التضخم الذي تستهدفه، وسوف تكون البلد محمية من التقلبات الاقتصادية العالمية.
4/ الحكومة سوف تكون في حرية كاملة لاختيار السياسات المحلية التي تريد (يقولون أنَّ دولة الرئيس د. عبد الله حمدوك قد أنجز السياسة الخارجية لحكومته، وتبقَّى لها انجاز السياسة الداخلية).
مساوئ تعويم العملة
بالرغم من المزايا النظرية المذكورة بعاليه، فإنَّ التعويم له مساوئ عديدة وخطيرة:
1/ المرموق من الاقتصاديين الرأسماليين في عالمنا المعاصر (سوروز، ستِقليتذ، سلومان وآخرَيْن معه، وكلُّهُم أحياء الآن؛ أطال اللهُ في أعمارهم) يُكَذِّبون اليد الخفية في النظام الرأسمالي التي تصحِّح معدلات سعر الصرف واختلالات ميزان المدفوعات والميزان التجاري بشكل تلقائي. بل أنَّ جوزيف ستِقليتذ وصل مرحلة نفي وجود "عِلِم إسمه الاقتصاد من أساسه" في أحد مقالته؛ إذْ الموجود الآن، يقول ستقليتذ، هو محض علم سياسة (Politics).
ولو سلمنا جدلاً بأنَّ عدم التوازن المُتأتِّي من جعل المضاربة غير مستقرة بواسطة المضاربين في المدى القصير من الممكن تلافيه بالمضاربة الخالقة للتوازن والاستقرار كما جاء بعاليه، فإنَّها في عالمنا الملئ بالريبة وعدم الوثوق (حيث توجد الكثير من القيود على المضاربة في العملات في كل بلاد العالم)، وخضوع الثروات وسياسات الحكومات للتغيرات السريعة، وحينما تكون كميات كبيرة من أموال الائتمان/التسليف مأمونة عالمياً، فإنَّ المضاربة من الممكن أن يكون لها أثر فادح من عدم الاستقرار في المدى القصير، كما حدث هذا للدول الآسيوية في العام 1997، ولكل بلاد العالم في عام 2008 – 2009 بسبب الكساد.
2/ هناك ريبة دائمة بين التجار والمستثمرين من تقلبات معدلات سعر الصرف ومعدلات التضخم بالقدر المنفِّر للتجارة العالمية والاستثمار في المدى الطويل رغم سياسات التعويم. كما أن شروط الائتمان في المدي القصير قاسية، وكُلفة التأمين عليه عالية، لا سيما في زمن اقتصاد الكورونا. ولو نظرنا للقروض التي تلقتها حكومتنا الانتقالية الموقرة في العامين المنصرمين من عمر الثورة لوجدنا بها تلك القسوة وذات الكُلفة العالية (راجع أيضاً: د. بشير عمر 2001).
3/ الاقتصاد الداخلي سوف يكون غير منتظمٍ وغير منظَّمٍ، وقد تلجأ الحكومة بسبب ذلك إلى اتخاذ سياسات تضخمية غير مسئولة، كما أنَّ الشركات واتحادات العمال قد تطالب برفع الأجور، وبالتالي ترتفع الأسعار؛ مع ما يخلقه ذلك في المقابل من فقدان الأسواق العالمية، واتباع سياسات انكماشية بواسطة الدولة (ثنائية التضخم – الانكماش). وبالتالي فإنَّ تدني سعر الصرف النتاج من ارتفاع التضخم هو نفسه سيشعل التضخم من ثان برفعه لأسعار الواردات وعموم السلع بالمجاورة.
4/ ليس صحيحاً في واقع التبادل العالمي اليوم أنَّ الحكومة في ظل نظام التعويم لا تحتاج إلى احتياطي نقدي من العملات الصعبة، بزعم أنَّ قوى السوق ستخلق التوازن في معدل سعر الصرف وميزان المدفوعات والميزان التجاري بشكل تلقائي ومن غير تدخل من الدولة.
فأهمية الاحتياطى النقدى من العملات الصعبة تكمن فى كونه غطاءَ العملة المحلية (السودانية) لدى الجمهور، وفى كونه رصيدَ الدولة للوفاء بإلتزاماتها تجاه المغتربين والمستثمرين الأجانب وديون العالم الخارجى وبعثات الدولة الدبلماسية وكل طالبي العملات الأجنبية للأغراض المشروعة من تعليم وطبابة بالخارج وغيرها، وفى كونه رصيدَها لشراء السلع والخدمات التى يحتاجها المواطنون والدولة لأطول فترة زمنية ممكنة، إذا لا قدَّر الله، حدثت كارثة (كجائحة كورونا الماثلة الآن) عطَّلت الحياة الاقتصادية بالكامل.
ويحدِّد الاقتصاديون الحدَّ الأدنى لهذه الفترة الزمنية بستةِ أشهر، وفيما دونها يُعتبر الاقتصاد فى حالة انكشاف كامل داخلي (العجز عن تغطية الطلب الكلي، وهو مسكوت سياسات مؤسسات التمويل الدولية والغير معترف به في أدبياتها، لتدرأ عن نفسها المسئولية الأخلاقية المترتبة على عدم تلبية الطلب الكلي بتركيزها على الانكشاف الخارجي) وخارجي (عجز الدولة عن تلبية إلتزاماتها تجاه العالم الخارجي). وهذه الستة أشهر هى الزمن القياسى المرن للدولة لتكون قادرة على إيجاد حلول للكارثة التى عطَّلتْ أو ساهمتْ فى تعطيل اقتصادها.
وبالتالى، فإنَّ عدم وجود احتياطى نقدى لدى الدولة له أثر تراكمى وتراكبى سلبى على مستوى الاقتصاد والمجتمع والسياسة والعلاقات الخارجية، خاصةً إذا ارتبط عدم وجود احتياطي نقدي من العملات الصعبة بحلقات لولبية معقدة من الفساد والإفساد كتزوير العملة؛ ويتجلَّى ذلك فى الآتى:
1/ مع حالة عدم وجود احتياطى نقدى من العملات الصعبة، تصبح الدولة فى وضعية الانكشاف بكلِّ أنواعه، وتكون بذلك غير قادرة على إطعام مواطنيها وصيانة نفسها وقطاعاتها المنتجة وكل موازناتها ستعتمد على الضرائب والتسول من العالم الخارجي، وتصبح عُرضة للمجاعات والجائحات والكوارث الطبيعية والحروب والكروب والعجز التام عن القدرة على الحياة وأداء وظائفها. فالإنسان إذا لم ينعم بضروريات الحياة من الغذاء المناسب والسكن المناسب الآمن والصحة الموفورة والتعليم والتدريب المناسبين ستقل فاعليته وإنتاجيته فإنتاجه المادي والفكري؛ وهكذا تنبئنا دورة حياة الإنسان الساعي للتمدن فى تداخلها مع الدورة الاقتصادية.
2/ عجز الدولة عن التأثير فى عرض النقود، وبالتالى عجزها عن التأثير فى سعر الصرف، والذى ينتهى بعجزها عن التأثير فى ضبط معدلات التضخم وتذبذبها.
فحين تهمل الدولة عملية بناء وتراكم احتياطيها النقدى من العملات الصعبة لأى سبب من الأسباب، فذلك يعنى أنَّ جزءاً من الطلب الكلى سيتم التخلى عنه بما يعني التخلي عن حيوات الناس كما جاء بعاليه؛ وهنا يتعطل الاقتصاد وينكمش. وإذا لم تسحب الدولة المكون المحلى (أى العملة المحلية) للاحتياطى النقدى – الذى تآكل – من السوق، يكون الاقتصاد فى حالة تضخم.
وإذا زادت الدولة من سعر صرف عملتها للحد من الطلب عليها وبالتالى للحد من التضخم، هرع الجمهور إلى السوق الموازى ليشترى منه العملات الصعبة لتلبية احتياجات الطلب الكلى من السلع والخدمات. وإذا أُغرِقَ السوق بسلع عالية الأثمان، ستضطرَّ الدولة إلى تخفيض وطباعة عملتها (دون غطاء من الذهب والعملات الصعبة بطبيعة الحال) وبالتالى يزداد الأثر التضخمى مع وجود سلع وخدمات لا يستطيع الجمهور شراءها، فيدخل الاقتصاد فى حالة ركود من جديد.
وثنائية الركود – التضخم هذه وإعادة إنتاجها على المستوى الكلى للاقتصاد، تُعرف بالركود التضخمى ((Stagflation؛ وهى ثنائية ماحقة للاقتصاد القومى، باعثة لإحباط الجمهور، ومدمرة للإنتاج، ومنفرة لتدفقات العملات الصعبة من كل المصادر. وقد حدثت هذه الظاهرة فى الدول الغربية فى العام 1973 حينما حجب العربُ البترول عن تلك الدول، وهى تحدث عندنا الآن فى السودان بسبب سرقة الإنقاذ لعائدات المشروعات التى اجترحتها وحجبتها عن الدورة الاقتصادية للبلد.
3/ إنَّ إضعاف قدرة البنك المركزى على ضبط التضخم بسبب عدم وجود احتياطى نقدى من العملات الصعبة، يضطرَّه إلى مضاعفة أثر السياسة النقدية بالتغيير فيها من وقتٍ لآخر. وبالطبع يقع جلُّ أثر هذا التغيير المستمر على القطاع الخاص؛ فيُعيق تنميته لأنَّه عادة ما يكون شديد الحساسية تجاه عدم الاستقرار النقدى وضعف ملاءة الدولة المالية والائتمانية. وكما هو معروف، فإنَّ هذا الأمر سيؤدى فى نهاية المطاف إلى مناخ غير ملائم للاستثمار المحلى والأجنبى على مستوى الاقتصاد القومى.
4/ عدم وجود احتياطى نقدى لدى الدولة، قد يضطرها لمنع علاج الحالات الحرجة بالخارج، وحرمان بنيها من التعليم والتدريب بالخارج، وقد يضطرها لبيع مشاريع أمنها الغذائي ومشاريعها الحيوية المنتجة والاستراتيجية لبعض الدائنين، وقد يدفعها فى أحايينَ أخرى لتعطى بعض المستثمرين الأجانب سلعاً للصادر كبديل للعملات الصعبة فنفقد كل أسواقنا العالمية؛ ولتُغريها بقبول العرض فقد تعفيها مِراراً تِكراراً من ضريبة الصادر؛ التى هى واحدة من أهم مصادر تمويل الخزانة العامة، وواحدة من أهم مصادر دورة بناء الاحتياطى النقدى من العملات الصعبة نفسها.
5/ هذا الأمر سيقود البلد إلى انتهاج دبلماسية رثة ومُخاتلة ومرهِقة؛ تنافق العالم بأنَّ الوضع الاقتصادى فى السودان على ما يُرام. والعالم يعلم من واقع الاحتياطى النقدى من العملات الصعبة للسودان، أنَّ البلد فى حالة انكشاف اقتصادى مزمن وحرج. ولكن ستسافر الوفود تلو الوفود على أى حال – مهدرةً المزيد من العملات الصعبة – لتتفاوض وتتسول لسد رمق المواطنين شهراً بشهر، واسبوعاً بإسبوع؛ والأمر ذاته يُراوح مكانه ويتدهور.
محصلة وحل
إنَّ مخاطر تعويم معدل سعر الصرف أكثر من منافعه. بل في الحقيقة لا يخلو معدل سعر الصرف الثابت أو الحر من المخاطر والمشاكل، ولكنها في حالة التعويم أعظم وأعقد. وبالتالي على الحكومة أن تتمسك بخيار معدل سعر الصرف المدار والبدائل الأخرى التي تقع بين الإثنين. أخذاً في الاعتبار أنَّ "السعر العائم المدار" يتطلب أن تكون الدولة على دراية بالتوقيت الذي يجب أن تتدخل فيه، وأن تكون على دراية بمعدل سعر الصرف الذي تريد تعزيزه، وكيف تكون قادرة على تعزيزه باضطراد في وجه ضغوطات المضاربة والمضاربين.
والأهم من ذلك كله والكلمة المِفتاح هي زيادة وتنوع الصادرات بشكل مستمر في إطار دورة بناء الاحتياطي النقدي (وفرة في الإنتاج من السلع والخدمات :- زيادة الصادرات وتنوعها بالقدر الذي تفوق الواردات :- موازنة عامة بميزان تجاري موجب وميزان مدفوعات متوازن = قدرة الدولة على بناء احتياطى نقدي من العملات الصعبة يؤمن لها الحياة الاقتصادية الاجتماعية والسياسية في البلد، وتلبية إلتزاماتها تجاه العالم الخارجي).
إجراءات معززة لعملية بناء الاحتياطى النقدى من العملات الصعبة
على مستوى وزارة المالية والإقتصاد الوطنى: تكوين الاحتياطى النقدى من العملات الصعبة لا يحتاج إلاَّ لإرادة سياسية تعيد قيومية وزارة المالية والتخطيط الاقتصادي على المال العام. ولكى نُعيد لوزارة المالية قيوميتها على المال العام فلابد من القيام بالآتى:
أ- إلغاء كافة صناديق الدعم (دعم الولايات، دعم الشريعة، دعم الطلاب، دعم المعاشات، إلخ) وإرجاع مخصصاتها ومركزتها بوزارة المالية والتخطيط الاقتصادي لمنع الفساد والتجنيب والصرف خارج الموازنة، وخارج الأُطر المالية والمحاسبية لوزارة المالية.
ب- إلغاء كافة الإعفاءات من الضرائب والجمارك والزكوات والإتوات التى تتمتع بها بعض الشركات الخاصة والأفراد والتي تم الحصول عليها بقرارات من مجلس الوزراء وببعض القوانين الخاصة دون وجه حق. وقد بلغت هذه الشركات 8683 شركة (راجع: ديوان الضرائب 2014).
ج- تحريم تجنيب الوحدات الإيرادية للمال العام من العملات المحلية والأجنبية وتجريمه بواسطة قوانين تُسن لهذا الغرض، أو ببساطة تفعيل قانون الإجراءات المالية والمحاسبية لسنة 1977، والمحافظة على استمرار دورة الاقتصاد الكلي في غاية السلاسة وكذلك دورة تدفق الواردات من السلع والخدمات الضرورية التي لا تتوفر محلياً، والعمل على إيجاد بديل محلي لها باستمرار، بسياسات إحلال الواردات، لمنع أيِّ حالة من حالات الانكشاف في المستقبل (راجع فيديوهات المرحوم الشريف حسين الهندي).
د- إدخال كافة حصائل الصادرات من البترول والذهب والمعادن النفيسة الأخرى وإرجاع جميع حصائل الصادرات الأُخرى الزراعية والحيوانية فى الدورة الاقتصادية من جديد. ويجب إدخال الزكاة في الدورة الاقتصادية للبلد بشكل مدروس بغرض المساهمة في عملية إزاحة الفقر كليةً من السودان. ولحسن الحظ توجد دراسة بهذا المعني أعدها أُستاذنا الجليل بروفسير الطاهر محمد نور ويجب الاستفادة منها.
ه- فسخ بيع/خصخصة كافة الهيئات والمؤسسات والشركات الحكومية ذات الطابع الاستراتيجى/السيادى غير الخاسرة (The Commanding Heights of the Economy) وإرجاعها إلى القطاع العام (هيئة الطيران المدنى، هيئة الموانئ البحرية، المؤسسة السلكية واللاسلكية (شركات الاتصالات)، شركة السكة الحديد، شركات السكر، وشركات الأسمنت، شركات دباغة وتصنيع الجلود، شركة الصمغ العربى، شركة الحبوب الزيتية، مشروع الجزيرة والرهد وغيرها، وترك تلك الخاسرة ليبرع فى إدارتها القطاع الخاص).
فعدم وجود مشروعات استراتيجية وحيوية للدولة أضرَّ بالتنمية وبالطبقات الفقيرة والوسطى وبالقيم الكلية للمجتمع، وأركس الرأسمالية السودانية فى الطابع الخراجى وسيادة العقل الريعى، الأمر الذي يعني عجزها المستمر عن المساهمة في ترقية الحياة للأجيال القادمة بشكلٍ خلاَّق.
و- تحريم وتجريم وزارة المالية والجهات العدلية المختصة ل 173 ألف رسم ضريبى تُحصَّل من المواطنين من غير وجه حق ومن غير أُورنيك 15، كما أفاد الأمين العام لديوان الحسابات السابق.
ز- تفعيل إلغاء أىِّ تشريعات ولائية وعلى مستوى الوحدات والمحليات بالولايات تتعارض مع التشريعات القومية التى تمنع تحصيل أىِّ رسوم من أى نوع على منتجات الصادر من مكان الإنتاج إلى ميناء التصدير لا تقرها الدولة على المستوى القومى.
على مستوى المغتربين والمستثمرين الأجانب
ث- تغيير العملة لمعرفة العملة الصحيحة من المزوَّرة "والمُرَبْرِبة/المطبوعة خارج سلطات بنك السودان ووزارة المالية" ولمنع ظاهرة الاكتناز، والنهج الجازم بمحاربة الفساد وتعديل قانون التعامل بالنقد بما تقضيه أهداف ثورة ديسمبر المجيدة (الإعدام لأىِّ شخص يعمد إلى أخذ مال عام من غير وجه حق، ويعمد إلى أكل أموال الناس بالباطل، ويكتنز عملة محلية أو أجنبية قلَّت أو كثرت خارج النظام المصرفي بغرض الإضرار بالأمن القومي الاقتصادي والاجتماعي والسياسي).
ع- النية الصادقة لإعادة بناء الثقة فى النظام المصرفى (رغم فوات الأوان لعمل ذلك) بالقضاء كليةً على السوق الموازى ولو بتغيير العملة رغمِ كُلفتها، وبتوفيق أوضاع البنوك التى تعجز عن توفير السيولة لعملائها بالدمج أو حتى بالتأميم، ومنعها من ممارسة أي نشاط تجاري وحصر أنشطتها في الجانب المصرفي وخلق السلع المصرفية، واجتراح السياسات التى تخفِّض معدلات التضخم وتمنع تذبذبَه، وتعزيز تلك السياسات التى تساعد على بناء الاحتياطى النقدى من العملات الأجنبية.
ف- التفكير الجاد في إنشاء بنك السودانيين العاملين بالخارج (Sudanese Expatriate Bank – SEB)، وهو أحد مقترحات برنامج الإنقاذ الرباعي لسنة 1986. ونرى أنَّ هذا البنك قد تأخر كثيراً وهو البديل المستدام للاستدانة من العالم الخارجي، ولما يُسمي بالوديعة الدولارية أو منحة المغتربين، التي لن يُساهم فيها المغتربون إلاَّ باكتمال زوال أركان الدولة العميقة وسوقها الموازي من الوجود وإعادة كامل الثقة للنظام المصرفي. ولابد أن يقوم هذا البنك في أحد البلدان الحرة (لندن وغيرها) وبفرع رئيس في السودان.
ويستطيع هذا البنك أن يوفر 5 مليار جنيه استرليني في سنته الأولى لو اشترى كل فرد من ال 5 مليون مغترب ومهاجر بالخارج 100 سهم بقيمة 10 جنيه استرليني للسهم الواحد ولو بالتقسيط على سبح 12 شهر (الحد الأدني لتكلفة إنشاء بنك في بريطانيا 100 ألف جنيه استرليني زائد تكلفة إيجار مقر البنك، ونتبرع بدراسة جدوى البنك مجاناً).
ص- إعطاء كلَّ دارس يعود إلى البلد بشهادات عليا في مجال تخصصه، وكل مغترب يُحوِّل 50 ألف دولار، عبر فرع بنك السودانيين العاملين بالخارج في الخرطوم أو عبر عموم الجهاز المصرفى المُعافى، قطعة أرض من الدرجة الأولى (سكنية أو بغرض الإستثمار) فى المكان الذى يرغب فيه، مع توفير كافة الخدمات المصاحبة. ويجب أن يتضاعف هذا التحفيز بشكل مغرى للمغترب وأسرته مع تحويل ال 50 ألف دولار الثانية والثالثة وهكذا دواليك؛ وأن يُعطى إعفاءاً شاملاً كاملاً من الرسوم الجمركية وكافة الرسوم الأخرى لكلِّ ممتلكاته عند العودة النهائية.
ح- لابد أن يتبع سياسة التحرير الاقتصادى التى انتهجتها الإنقاذ من قبل وتريد أن تكرِّرها حكومة حمدوك الآن (والتى قد ذهب فيها كلاهما مذهباً فوق ما يطمع إليه النظام الليبرالى ومؤسسات تمويليه الدولية) منظومة متكاملة من المؤسسات التشريعية/و الدستورية والقانونية والمؤسسات الديمقراطية والحريات العامة ودولة القانون ودولة المؤسسات والشفافية، وحرية التملك واحترام العقود؛ وإلاَّ ستنتهى تحويلات المغتربين والمستثمرين الأجانب إلى جيوب احتكار القلة (جيوب كليبتوقراط الإسلام السياسى، أو الليبراليين الجدد) كما هو حادث الآن.
خاتمة
العهد الذي بيننا وبين هذه الحكومة هو قيام المجلس التشريعي والمحكمة الدستورية؛ رُفِعَت الأقلام وجَفَّتْ الصحف.
حسين أحمد حسين


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.