حينما نرتدي معطفًا دافئًا، أيام البرد الشديد، فأنه يُطْبق على أجسادنا في حنو جميل، باعثٍ على الإحساس بالدفء، ثم يصبح الدفء لذيذا، فنعتاده، وننسى المعطف ولا نحس بوجوده البتة، وكأن الدفء أمرٌ فينا بالطبيعة ، بل وكأننا نحن من نصنعه بكل سهولة ويسر ودون عناء ، وقد يصل بنا الحال إلى أن نملّه ونلعنه زهدا وضجرا ومكابرة وعنادا. ولكنْ ما إن نخلع المعطف حتى نحسّ بالصدمة الكبرى وندرك أنه كان يحمينا من برد قارس تنثال ثلوجه علينا من كلّ ناحية حتى من داخلنا، ذاك المعطف هو الوطن، ومتى نزعناه أو اُنتُزِعْنا منه تفتحت فينا مسامات الإحساس بفقد دفءالعشيرة والأهل والأصحاب والأماكن، وهاجت الذكرياتُ وأوجعنا البرد الأوطان معاطف دافئة لا نحسّ بها إلا حين يصدمنا برد الاغتراب ويوجعنا ألم البعد عنه، هنا فقط تكون ذاكرة الكلمات لدينا قد اتسعت، وصارت منظارًا يكبّر الأطياف ويقرب منا كل اللحظات الدافئة التي كانت داخل الوطن فتبدو لنا تفاصيله أكثر وضوحًا ومُتَبلة بالحنين والاشتياق. لقد ظلّ الاغتراب يمنح نصوصَ الكتاب من المرارة ما يُنسي حلاوة كتابتِها، ومن الحلاوة ما يُنسي مرارةَ التذكر فيها. وأنا حينما أكتب في ليل غربتي البارد أجد كلّ التفاصيل الصغيرة قد نهضت واقفة أمامي، بل صارت أماكن الصبا تناديني بشوق إليها، وأحيانًا تحضر أطياف أهلي وأحبابي، فإذا هم حولي أكاد أشمّ عطر وجودهم، أمّا الأصدقاء والمعارف والجيران فأراهم كما هم حين فارقتهم، لم يكبروا، ولم يجر عليهم الزمن جريانَه، فهكذا يحضر أمامي الوطن بكامل فتنته حضورًا دافئا جميلاً لا أمل من كتابته ولا أكتفي من الاستدفاء بتأمله . الكاتب المهاجر يجد في أماكن اغترابه فضاءات ملهمة لنصوصه ولكنه دوما يستدعي الوطن وصور ناسِه وأماكنه وطرقاته وحواريه في مهرجانات للإبداع تجري فيها الكتابة مثل نهر رقراق، بل ويظل الكاتب ذاته يجري في أنحاء غربته، باحثًا فيها عن معان جديدة يصوغها شعرًا أو نثرًا أو سردا أو رواية أو قصة لترتاح روحُه من إحساسها بمواجع الترحل. وثلوج الاغتراب فتكون كتابتة صادقة محفورة في عميق التجربة، لا تحتاج إلى أن يتعاطف معها أحد ذلك أن النص المجروح بغربته يُسْمع صداه من الأبعادِ ، ولكن يظل الكاتب هو من يحتاج أن يتعاطف معه الوطن وأن تحنو عليه الذكريات ذلك بأن تبعث فيه الأمل الكبير بأن معطفه بخير .. وسيكون دائما بخير ..