علي يس * في خطابه – أمس الأول – كان التركيز الأبرز للسيد رئيس الوزراء، متعلقاً بالسياسات الاقتصاديّة التي أثمرت تضخُّماً غير مسبوق ، و انفلاتاً في أسعار السلع الأساسيّة اللازمة لاستمرار حياة الناس لم يعايشوا مثله من قبل ، و كان تأكيده أنّ هذه السياسة لم يفرضها عليه أحد (يعني لا البنك الدولي و لا غيره، كما يشيع في كثير من مواقع التواصل الاجتماعي أو في كتابات بعض الاقتصاديين ) و أنّها السبيل الأوحد / الذي لا بديل له / لمعالجة تشوهات الاقتصاد تمهيداً للانطلاق إلى دولة الكفاية و الرفاه.. * و لعلّ بعض ما رأى السيد رئيس الوزراء ضرورة البوح به للناس ، معرفته بما يقوله الكثيرون من أنه و حكومته يعيشون في أبراجٍ عاجيَّة ، مفنداً تلك الدعوى ، و مبرراً إيّاها في ذات الوقت بكونه لا يظهر كثيراً في الإعلام ، و لا يتحدث كثيراً لأنّه – حسب الخطاب – يريد أن يترك المجال لسياساته أن تتحدث.. * و لكن الحديث الذي تقوله سياسات حكومة السيد رئيس الوزراء ، في الحقيقة ، يفهمُه القليلون جداً ، فسياسات الدكتور حمدوك ، للأسف ، لا تتحدث بلغة يفهمها عامّة الناس .. الناس – في الشأن الاقتصادي – يفهمون لغة واحدة ، هي لغة السوق .. هي لغة الخبز و الخضار و الوقود .. و هذه لم تعد تتحدث في الحقيقة ، بل أصبحت (تفعلُ) بالناس ، ركلاً وصفعاً ، ما يشغلهم عن الاستماع إلى أيّ حديث آخر ، خصوصاً حديث المتفائلين الذي يبشر الجائعين دائماً بوجود (ضوء في آخر النفق)..(( أصبحتُ أتوتَّر كثيراً حين أسمع هذه العبارة البالية ، عبارة "الضوء في آخر النفق" ، ربما لكثرة ما تم استهلاكها بمعنى و بغير معنى )).. * في الحقيقة يبدو أن "جمهورية السودان " هذه ، و منذ استقلالها ، وُلدت داخل نفقٍ مظلمٍ ليس له آخر ، و ظلت تتخبط في ظلام النفق طوال عمرها ، و ظل حداة ركبها من ساسة المصادفات المربكة ، يتفاءلون دائماً بأنهم يرون ضوءاً في آخر النفق ، و ظل الناس ، متخبطين في الظلمات ، يبحثون عن ذلك الضوء فلا يرونه ، فيطمئنون أنفسهم بأن الحكومة ترى ما لا يرون .. تحدث السيد رئيس الوزراء عن الشقاق داخل الجسم السياسي الحاضن للثورة ، منذراً – بحق – من أن أجسام قوى الحرية و التغيير إذا لم تهتد إلى موازنات توحدها فسيكون مستقبل البلاد مظلماً .. و لكن حديث الشقاق و التوحد هذا يلفت الأبصار توَّاً ، ليس فقط إلى مكونات الحرية و التغيير ، بل إلى صلب حكومة حمدوك ذاتها ، التي اقتضت المحاصصات غير الرشيدة أن تكون حكومة شقاق في ما بين مكوناتها نفسها .. فما يزال حديث الناس عن المساجلات ما بين السيد وزير المالية من جانب ، و لجنة تفكيك التمكين من جانب آخر ، تعبِّر ليس فقط عن اختلاف الرؤى ، بل عن تناقضها .. حديث السيد رئيس الوزراء عن إقرار العدل و بناء مؤسساته كان ، على إيجازه ، مجرد أمنيات ظلت تتردد على مدى عامين ، في وقت يرى فيه السيد رئيس الوزراء ، كما يرى كل الناس ، أنه لم تسفر حتى الآن عن محاكمة واحدة عن قصاص لقتلى أو عقاب لفاسدين .. بل و يرى الناس ، خلال عامين ، عدداً مقدراً من المجرمين يفرون عبر "صالة كبار الزوار" إلى خارج البلاد .. يبدو واضحاً أن السيد رئيس الوزراء لم يقل شيئاً جديداً ، الجديد الموجع هو – حتى اللحظة – ما تقوله سياساته. المواكب