علي يس ** في السودان يحتفي الناس بالبكاء أكثر من احتفائهم بالضحك ، حتى إنهم يجعلون للبكاء بيتاً ، إذ يسمون البيت الذي ودّع عزيزاً لديه (بيت البكا) ، بينما لا نجدهم يسمون البيت الذي يستقبل مولوداً (بيت الضحك) !!.. ثم لا نجدهم يخترعون مثلاً شعبياً لذم البكاء بلا سبب ، بينما يؤكدون أن (الضحك بلا سبب ، قلة ادب ).. ** وفي العالم كله ، يحتفي الناس أيّما احتفاء ، بالممثل الذي يحسن تقمص انفعالات الشخصية التي يحكيها ، و أعقد تلك الإنفعالات و أصعبها على الإطلاق هي انفعالات الحزن ، الألم و الخوف ، أي الانفعالات التي تؤدي إلى البكاء ، والممثل الذي يستطيع البكاء بإتقان هو ممثل قدير، بشهادة الناس جميعاً .. هذا في العالم ، أما في السودان ، فإن [تمثيل البكاء – أو – بكاء التمثيل ] هو دور تتدرّب عليه المرأة منذ صباها الباكر ، لأسباب إجتماعية و ليست فنية .. و تستطيع ثلة كاملة من النساء، في أي حي من أحياء السودان ، أن يتسامرن و يضحكن بحبور و طرب ، طوال الطريق إلى "بيت البكا" ، حتى إذا بلغن باب البيت المقصود جرت دموعهن مدراراً ، و تهدّجت أصواتهن و انخرطن في بكاءٍ مرير ، على فقيد ربما لم يعرفنه طوال حياتهن .. أما التي لا تجيد أداء هذا الدور الإجتماعي ، فسوف تكون مضحكة للنساء جميعاً !!.. ** المقابلة بين الضحك و بين البكاء ، أمر شائع في الأدب العربي ..[ضحك المشيب برأسه ، فبكى].. بل و في القرءان العظيم [وأنه هو أضحك و أبكى] ..[و تضحكون ولا تبكون].. غير أن الضحك ، في مفردات القرءان الكريم يتفوّق على البكاء ، (ضحك و مشتقاتها وردت في القرءان تسع مرّات ، بينما وردت "بكى" و مشتقاتها سبع مرّات ، أمّا الإبتسام فمرّة واحدة ، منسوباً إلى نبي الله سليمان عليه السلام [فتبسّم ضاحكاً من قولها] .. ولعلّك ترى أن التبسُّم ورد في القرءان كمقدِّمة للضحك، لا كانفعال مستقل .. ** علماء الحيوان يؤكدون أن الضحك و البكاء لا يقتصران على جنس الإنسان وحده ، وأن الحيوانات بدورها تمارس الضحك و البكاء .. ونحن لا نستطيع أن نؤكد – بالملاحظة المجرّدة وحدها – أن كلباً ، أو قطّاً ، أو "عتوتاً" قد مارس الضحك ، و إن كنّا أقوى على ملاحظة البكاء – أو ما يشبه البكاء – لدى العديد من الحيوانات .. فالكلب الذي يتعرّض للضرب يصدر صوتاً لا تشك في أنه ضرب من البكاء.. أمّا الخيل و الحمير ، فإنّ عيونها تدمع ولكن دون إصدار صوت .. بينما نجد أن الدجاجة الغاضبة ، أو المهلوعة ، تصدر صوتاً أشبه بإطلاق الشتائم ، ولن تستطيع اعتباره بكاءً على أية حال … ** بل إن علماء النبات ، بدورهم ، يؤكدون أن النباتات تفرح و تحزن ، و بالتالى تضحك و تبكي ، ولكن بما يناسب طبيعتها .. ** العلاقة بين الضحك و بين البكاء ، تبدو أحياناً كما لو كانت علاقة "دائرية " أو "ديالكتيكية " .. فذروة الضحك تؤدي إلى إدماع العينين ، أي إلى البكاء!! و قمة الفرح قد تدفع إلى بكاءٍ حار !! والبكاء عند "المهسترين" الذين يعانون ألماً عصابياً طاحناً ، يتحوّل إلى ضحك مجنون !!.. ** و أطباء النفس يزعمون أن الضحك و البكاء يشتركان في أداء مهمة نبيلة ، لجسم و نفس و صحة الإنسان ، يسهمان في ضبط التوازن الكيميائي و الهورموني بالجسم ، و يمتصان التوترات النفسية ، و يساهمان في إعادة التوازن العاطفي .. ** أما بكاء "العُشّاق" ، فهو باب عريض في أدب البكاء ، ولكنني لن أتحدث عنه. المواكب