لا تستند الادارة السياسية منذ القدم حتى المرحلة المعاصرة على رمزية تفصيل التشريعات، وحياكة النصوص، وتحقيق الانجازات باستقلال عن المخاطبة اللفظية للقائد او المسؤول. فالمخاطبة اللفظية تظل اهم وسائل الاتصال السياسي مع الجمهور او المجتمع بوصفها خازنة الحقيقة من جهة المسؤول، والمعبر عنها بسبل متنوعة تتخذ الاقناع بالمعلومات الشيقة المهمة، والاثارة لخلق الاستمالة المطلوبة، واعطاء الصدقية اللازمة لرواية القائد. فحتى الآن لا يمتلك احد الرواية الكاملة للانقلاب التي تمكن الناس اعتماد مصدرها والبناء عليها. فالفريق عبد الفتاح البرهان، والسيد الدكتور عبد الله حمدوك رئيس الوزراء لا يرغبان في مخاطبة الناس بالرواية التفصيلية للمحاولة الانقلابية، وكانهما يصنفان حق حصول الشعب على المعلومة كحق خاص بهما، وبمجلسيهما، فيتمسكان بلغة كئيبة ومحافظة وعمومية تبدا بمغازلة الثورة بالترحم على الشهداء وتنتهي بوعود مفتوحة مفخخة. فالمخاطبة انواع ولها ظروفها التي تستوجب اختيار ايهم اشد ملاءمة للظرف او المناسبة. فمن المعلوم ان مخاطبة المناسبات الرسمية كالاعياد، والمؤتمرات، والورش، والجلسات الرسمية تستدعي التحضير كتابيا بلغة رصينة مكتوبة مسبقا وصادرة افكارها من مجال وروح المناسبة ومجتمعها العلمي، او الفئوي، او السياسي، الدولى، او الاقليمي. ولكن فان القائد السياسي الحقيقي وفي اوقات كهذه يخاطب شعبه بكل اريحية وتفاصيل ويعمل على تمليكه لكافة الحقائق حتى يخلق معه تواصلا مباشرا وحيويا يُشعره بانه صاحب حق اصيل في معرفة ما يجري من احداث، وخاصة فيما يتم من وقائع ذات درجة عالية من الحساسية احياناً. ان عدم القيام بذلك يخلق حاجزا نفسيا بالغا بين القادة وبين اصحاب المصلحة والشأن العام. فلا تلوموا الناس عندما لا يصدقوكم، وينظرون اليكم بشذر، فانتم من تدفعوهم بسبب مخاطبات نمطية الى عدم الثقة فيما تقولون وتقرؤون من الورق يا (حمدوك). اطلق العنان لمشاعرك الطبيعية كمواطن عادي ، ودع الناس ترى تدفق المعلومات منك كى تتعرف على حركة جسدك، وخارطة روحك بنشاطها وانفعالاتها حتى تصدقك. فنحن كشعب نعلم تمام العلم ان ما تقراه من الورق لم تكتبه انت بل كاتب خطاباتك الذي له اهميته بالتقاليد الكتابية التنفيذية الرسمية ولكن ليس في كل الاحوال، وبالتالي لا يتفاعل التاس بما تقراه بالنحو الذي ترجوه وتتخيله لانه غير مكتوب بمداد افكارك، او روحك. فالملاحظة المتكررة تقوم في انك ومنذ بداية توليك لمهامك بالقراءة المكتوبة المعدة سلفا في كل المناسبات، ولو كانت مناسبة تتطلب الكشف عن تفاصيل غير معلومة للشعب عن الواقعة مما يجعل جسامة احوالها تتطلب المخاطبة الشفاهية الطبيعية. عزيزنا الدكتور عبد الله حمدوك ما هو ليس مطلوبا في ازمنة الازمات كتم الشفافية ومواراتها والتي ظلت تلاحقك كتهمة ثابتة ليس بسبب سوى ركونك الى مفهوم سالب وتقليدي لدورك في المخاطبة الجماهيرية وما فهمناه منك ذات اجابة على سؤال من احد الصحفيين بانك لا ترى اهمية لذلك بعدم رؤيتك للمخاطبة باعتبارها مُلزمة لك اذ انك، وحسب تفسيرك لذلك ترى مسؤولية القيادة مسؤولية جماعية كما قلت، وليس من الضروري ان يخرج المسؤول الاول في كل مرة للمخاطبة. فما يجب ان يقال هنا هو ان القيادة الجماعية عادة ما ترتبط بتنظيم الافكار واتخاذ القرارات ولكن لا تعفي المسؤول الاول من الحفاظ والمحافظة على حبل تواصل مستمر وحار مع شعبه الذي فوضه للقيام بالمسؤولية الجسيمة ولم يات به انقلاب او حزب يلزمه باتخاذ التكتم كسياسة اعلامية له. اما ما غاب حقا في ظرف المحاولة الانقلابية الفاشلة فهو المؤتمر الصحفي كأنجع اشكال الاتصال او التواصل السياسي بما يوفره من تفاعلية مع ممثلي الراى العام من صحفيين يستطيعون طرح كافة الاسئلة الحائرة التي تحتاج الى اجابات شافية ووقتية. كثيرا ما نبهنا وننبه الى ان واحدة من مشكلات المرحلة تتمثل في غياب الثقافة الادارية، والاعلامية على وجه الخصوص لدى حكام المرحلة ما لسبب سوى ضعف التجربة، وقلة المعرفة باهمية التواصل الاعلامي مع الناس، وتلك خطيئة تقع في ارتكابها كل القيادات التنفيذية من وزراء ومسؤولين بالحكومتين الاولى والثانية وكذلك الحاضنة السياسية المتحورة فاصبحوا يحكموننا من خلف ستار وحجاب اعلاميين، وقد حان الوقت لازالتهما ورؤيتنا لهم حتى نتعرف على حقيقةً الافكار التي تجرى بعقولهم وكيف يفكرون وكيف يتكلمون بهذه المرحلة المعقدة الدقيقة من تاريخ السودان. ترك الاحداث دون رواية رسمية محكمة توفر التفاصيل، تغري، وتسعى بالمحبة بين الحاكم والناس ، وخاصة بينه وبين البسطاء منهم فتوثق من عرى العلاقة واواصر الصلة به، وتمنع بالتالي خلق الروايات الموازية، الكثيفة، المترعة بالشائعة، والاخطاء، والخيال المضاد، وهو ما نجده يملا الفراغ الذي يترك، والهوامش التي يهديها بحسن نية التنفيذيون فتتحول الى اهداف تدخل مرماهم، وتخفض من الصورة الذهنية لهم وخاصة بهذه المرحلة ذات الهشاشة الامنية الخاصة، والتي ربما كانت تحتاج الى تلقي التنفيذيين جميعا دون فرز لعدد من الدورات التدريبية الخاصة، المغلقة في بعض موضوعات الاتصال السياسي، وفنون الاداء الاعلامي، وهو ما لا يوفر له المسؤول وقتا، ولا يضع له اهمية على الاطلاق. الوظائف التنفيذية العليا مجال دقيق للدورات التدريبية التي تعطي ثمارها وتعزز محتوى الرسائل المبثوثة متى اتصلت بتحسين الخدمة الاعلامية المرجوة عبرها. [email protected]