الجيش: طريق المرور السريع إلى السلطة لماذا تسلك القوات المسلحة طريق المرور السريع نحو السلطة؟ كما كل الجيوش الأفريقية كانت بدايات قوة دفاع السودان نواة القوات المسلحة السودانية الحالية السودان كان "الدولة الأفريقية الوحيدة جنوب الصحراء التي خرجت من فترة الاستعمار بمؤسسة عسكرية تمتلك سمات جيش وطني مستقل". كيف نجحت القوى الحزبية في استخدام القوات المسلحة ثلاث مرات لإقامة أنظمة حكم عسكرية موالية؟ تطرق المقال السابق إلى الأدوار التي لعبها كل من طلاب كلية غردون والمدرسة الحربية في مقاومة الاستعمار. وأوضح أن طرائق تفكير طلابهما لم تنفصل عن قضايا وتطلعات بلدهما ومواطنيهما السودانيين، إلا أن أساليب عملهما السياسي كانت مختلفة، فاختارت جمعية الاتحاد السوداني بقيادة عبيد حاج الأمين- التي كانت تعبر عن الخط المدني لخريجي كلية غردون- البدء بترتيب البيت من الداخل، بتركيز نشاطها على معاداة من تعاونوا مع الاستعمار من السودانيين.. بالذات الزعماء الطائفيين ولجنة علماء السودان حينها، وشيوخ القبائل وكبار التجار. لقد جرت الأيام الفائتة أحداث أعادت المؤسسة العسكرية السودانية إلى الواجهة مرة أخرى. وتأتي هذه الأحداث بعد ثورة مدنية ديمقراطية هي الثالثة ضد نظام عسكري في السودان.. مما يستدعي السؤال المعضلة حول كيفية تحقيق المواءمة بين الحاجة لمؤسسة عسكرية قوية بما يكفي لحماية البلد.. وفي الوقت ذاته ضمان ولاء هذه المؤسسة للديمقراطية وللسلطة المدنية.. هذه السلسلة محاولة لابتدار نقاش حول المسألة. اتسم الصراع السياسي السوداني في فترات تشكله الأولى بضعف ارتباط الحركة السياسية بالبعد الجماهيري المباشر.. ويعود الأثر الأكبر في ذلك، لخضوع السودان لاستعمار ثنائي مشترك من بريطانيا ومصر، حتى وإن كانت هذه الثنائية مسألة شكلانية قانونية أكثر منها واقعة حقيقية، وذلك في ظل خضوع مصر نفسها في الفترة ذاتها لاستعمار بريطانيا.. ترتب على هذه الثنائية الاستعمارية وما خلقته من تحالفات داخلية مع مكونات اجتماعية سودانية، أن توفرت للحركة السياسية السودانية الفرصة لإبرام تحالفاتها مع هذه القوى الاستعمارية.. وظفت القوى السودانية الصراع الذي كان قائماً بين المستعمِرين المتنافسين: بريطانيا ومصر، بما يخدم صراعاتها هي وأهدافها ومصالحها السياسية.. وقد كان ذلك على حساب اهتمامها بخلق قواعد جماهيرية واسعة لترقية وتقوية هذه الأهداف، وهذه الأخيرة كانت ستوفر الفرصة الوحيدة المتاحة، ما إذا كان المستعمر جهة واحدة، كما في المستعمرات الأخرى بصفة عامة.. تتضح هذه الظاهرة في توجه قيادات كل من جمعيتي الاتحاد السوداني واللواء الأبيض واستعانتهما في نضالهما الوطني بالصحف المصرية وبالقيادات المصرية من أمثال عمر طوسون، بل وبالجيش المصري في السودان في أحداث ثورة 24.. وذلك بينما اتجه جزء آخر من المثقفين والقيادات الأهلية السودانية نحو المستعمر البريطاني، متخذين من مجلة (حضارة السودان) التي تأسست في فبراير 1919، منفذاً لهم لتحقيق الأهداف السياسية .. وبرغم محاولات جادة من المثقفين السودانيين للقيام بدور مستقل والتحول إلى (حركة شعبية مستنيرة فاهمة ديمقراطية) في أعقاب مؤتمر الخريجين، وبدء الحياة السياسية الحزبية في السودان، إلا أنهم لم يتمكنوا من شق طريق مستقل أساسه علاقة شعبية مسنودة بقاعدة جماهيرية واسعة، طوال ما تبقى من عقد العشرينيات بعد ثورة 24، وعقد الثلاثينيات وحتى منتصف الأربعينيات.. لقد كانت النتيجة مرة أخرى هي لجوء قيادات حركة المثقفين في مؤتمر الخريجين وفي الأحزاب السودانية الناشئة، منتصف الأربعينيات، إلى طائفتي الأنصار والختمية بقاعدتيهما الشعبيتين الكبيرتين، من أجل تحقيق أهداف سياسية وحزبية ووطنية.. شكلت هذه الظاهرة التي يمكن تسميتها بظاهرة "المرور السريع إلى السلطة" وأساسها عدم قدرة قيادات المثقفين والقوى السياسية والحزبية المدنية على بناء قواعد جماهرية كافية تدعم مساراتها النضالية، وميلها لتعويض القوة الجماهيرية بإبرام تحالفات مع قوى (جاهزة) سلطوية، كما كان الحال مع مصر وبريطانيا، أو مع قوى طائفية، كما فعلت الأحزاب مع الأنصار والختمية، إضافة إلى ارتباط نضالات وطنية سودانية مبكرة بالروح العسكرية (ثورة 24)، واختيار قوى الريف السوداني لصيغة الكفاح المسلح بعد الاستقلال – شكلت هذه العوامل مجتمعة العلاقة بين المؤسسة العسكرية والعملية السياسية في السودان السائدة حتى اليوم.. كما كل الجيوش الأفريقية كانت بدايات قوة دفاع السودان، نواة القوات المسلحة السودانية الحالية، عند تكوينها عام 1925، أشبه بقوات شرطية صغيرة العدد معنية أساساً بحفظ الأمن الداخلي. كان أول قائد سوداني لها هو اللواء أحمد محمد الذي تولى قيادتها من البريطانيين عام 1954، ثم أصبح الفريق إبراهيم عبود قائداً عاماً لها مع الاستقلال عام 1956. وقد تطورت قوة دفاع السودان بحيث قال عنها أحد المؤرخين العسكريين البريطانيين، إن السودان كان "الدولة الأفريقية الوحيدة جنوب الصحراء التي خرجت من فترة الاستعمار بمؤسسة عسكرية تمتلك سمات جيش وطني مستقل". لكن لم تمضِ إلا أقل من ثلاث سنوات على الاستقلال حتى أصبحت القوات المسلحة – راضية بهذا الدور – هي (الطريق السريع) للعبور إلى السلطة، حسب ما اعتادت عليه النخب السياسية والحزبية السودانية تاريخياً. نجحت القوى الحزبية في استخدام القوات المسلحة السودانية ثلاث مرات لإقامة أنظمة حكم عسكرية موالية لتلك القوى الحزبية، استمرت لفترات طويلة وانخرطت بها المؤسسة العسكرية السودانية في العمل السياسي المباشر معظم سنوات الدولة السودانية ما بعد الاستقلال: الأولى في 17 نوفمبر/ تشرين الثاني 1958م وحتى أكتوبر 1964، بقيادة الفريق إبراهيم عبود؛ والثانية في 25 مايو/ آيار 1969م وحتى أبريل 1985، بقيادة العقيد جعفر نميري؛ والثالثة في 30 يونيو/ حزيران 1989م حتى أبريل 2019، بقيادة العميد عمر البشير. وبرغم أن كل الانقلابات المذكورة وقعت بتدبير من قوى سياسية حزبية: الانقلاب الأول بتدبير من عبد الله خليل رئيس الوزراء وقتها وحزب الأمة، الانقلاب الثاني بتدبير من أحزاب اليسار، والانقلاب الثالث بتدبير من الجبهة الإسلامية القومية.. إلا أن العسكريين بدافع من طموحاتهم الشخصية والرغبة في الانفراد بغنيمة السلطة، انقلبوا في كل واحدة من هذه المرات الثلاث على الجهة الحزبية التي دفعت بهم إلى الانقلاب، ليتولوا الحكم بأنفسهم بعيداً عنها. تحولت بذلك الانقلابات والتدخل المستمر للمؤسسة العسكرية السودانية في السياسة والحكم إلى حالة إدمان مستعصية. لذلك، وبرغم أن الانقلابات العسكرية مثلت الميكانيزم الرئيس لتداول السلطة في أفريقيا خلال العقود الثلاثة الأولى بعد الاستقلال في الستينيات، حيث كانت الحكومات العسكرية تمثل أكثر من نصف حكومات الدول الأفريقية، إلا أن موجة الربيع السياسي الأفريقي بداية التسعينيات وبداية عهد جديد من التغيير الديمقراطي، قوض دعائم الحكم العسكري وشهد سقوط العديد من النظم العسكرية الأسوأ في معظم القارة، لم يشمل السودان ونظام البشير، الذي ظل قائماً، بسبب ذلك الاستعصاء، حتى نهاية العقد الثاني من القرن الواحد والعشرين، وترك السودان متخلفاً بذلك لنحو ثلاثة عقود عن مجمل القارة الأفريقية .. قاد هذا التوظيف السياسي للمؤسسة العسكرية السودانية، كما كان الحال مع معظم الجيوش الأفريقية، إلى أن تنفصل هذه المؤسسة الوطنية عن الشعب وتصبح – باستثناءات محدودة – أداة في يد الحكام العسكريين المستبدين، يستخدمونها أدوات للبطش والتنكيل بالمعارضين، بغرض تحقيق مصالحهم ورغباتهم ولتأبيد سلطتهم وبقائهم في الحكم، أو آلات حربية للحكام الإيديولوجيين يسخرونها ضد أقسام من الشعب للهندسة الاجتماعية وإعادة الصياغة السياسية والاجتماعية، كما فعل نظام الحركة الإسلامية طوال ثلاثين عاماً، كان فيها في الحكم قبل الثورة.