بلومبيرغ: قطر تستضيف اجتماعا لبحث إنهاء الحرب بين روسيا وأوكرانيا    مخاوف من قتال دموي.. الفاشر في قلب الحرب السودانية    سوق العبيد الرقمية!    صلاح في مرمى الانتقادات بعد تراجع حظوظ ليفربول بالتتويج    أمس حبيت راسك!    راشد عبد الرحيم: وسقطت ورقة التوت    وزير سابق: 3 أهداف وراء الحرب في السودان    علماء يكشفون سبب فيضانات الإمارات وسلطنة عمان    معتصم اقرع: لو لم يوجد كيزان لاخترعوهم    (المريخاب تقتلهم الشللية والتنافر والتتطاحن!!؟؟    الصين تفرض حياة تقشف على الموظفين العموميين    وكالة الفضاء الأوروبية تنشر صورا مذهلة ل "عناكب المريخ" – شاهد    والي ولاية الخرطوم يقف على إنجاز الطوف المشترك لضبطه متعاونين مع المليشيا ومعتادي إجرام    دخول أول مركز لغسيل الكلي للخدمة بمحلية دلقو    والي ولاية الخرطوم يقف على إنجاز الطوف المشترك لضبطه متعاونين مع المليشيا ومعتادي إجرام    "منطقة حرة ورخصة ذهبية" في رأس الحكمة.. في صالح الإمارات أم مصر؟    مصادر: البرهان قد يزور مصر قريباً    شركة توزيع الكهرباء في السودان تصدر بيانا    تصريحات جديدة لمسؤول سوداني بشأن النفط    برشلونة: تشافي سيواصل تدريب الفريق بعد تراجعه عن قرار الرحيل    إيفرتون يصعق ليفربول بثنائية    لطرد التابعة والعين.. جزائريون يُعلقون تمائم التفيفرة والحلتيت    إقصاء الزعيم!    الحلم الذي لم يكتمل مع الزعيم؟!    دخول الجنّة: بالعمل أم برحمة الله؟    حدثت في فيلم كوميدي عام 2004، بايدن كتبوا له "وقفة" ليصمت فقرأها ضمن خطابه – فيديو    السودان..رصد 3″ طائرات درون" في مروي    كواسي إبياه سيعيد لكرتنا السودانيةهيبتها المفقودة،،    في أول تقسيمة رئيسية للمريخ..الأصفر يكسب الأحمر برعاية وتألق لافت لنجوم الشباب    خادم الحرمين الشريفين يدخل المستشفى    عملية عسكرية ومقتل 30 عنصرًا من"الشباب" في"غلمدغ"    جريمة مروّعة تهزّ السودانيين والمصريين    شاهد بالصورة والفيديو.. شاب سوداني يترك عمله في عمان ويعود للسودان ليقاتل مع الجيش في معركة الكرامة.. وثق رحلته من مسقط حتى عطبرة ليصل أم درمان ويحمل السلاح ويطمئن المواطنين    شاهد بالصورة والفيديو.. "دعامي" يظهر في أحضان حسناء عربية ويطالبها بالدعاء بأن ينصر الله "الجاهزية" على "الجيش" وساخرون: (دي بتكمل قروشك يا مسكين)    شاهد بالصورة والفيديو.. إعلامية مصرية حسناء تشارك في حفل سوداني بالقاهرة وتردد مع الفنانة إيلاف عبد العزيز أغنيتها الترند "مقادير" بصوت عذب وجميل    تطعيم مليون رأس من الماشية بالنيل الأبيض    إثر انقلاب مركب مهاجرين قبالة جيبوتي .. 21 قتيلاً و23 مفقوداً    العين إلى نهائي دوري أبطال آسيا على حساب الهلال السعودي    مدير شرطة ولاية نهرالنيل يشيد بمجهودات العاملين بالهيئة السودانية للمواصفات والمقاييس    سعر الريال السعودي مقابل الجنيه السوداني من بنك الخرطوم ليوم الإثنين    صلاح السعدني ابن الريف العفيف    أفراد الدعم السريع يسرقون السيارات في مطار الخرطوم مع بداية الحرب في السودان    بالصور.. مباحث عطبرة تداهم منزل أحد أخطر معتادي الإجرام وتلقي عليه القبض بعد مقاومة وتضبط بحوزته مسروقات وكمية كبيرة من مخدر الآيس    جبريل إبراهيم: لا توجد مجاعة في السودان    لمستخدمي فأرة الكمبيوتر لساعات طويلة.. انتبهوا لمتلازمة النفق الرسغي    عام الحرب في السودان: تهدمت المباني وتعززت الهوية الوطنية    مضي عام ياوطن الا يوجد صوت عقل!!!    مصدر بالصحة يكشف سبب وفاة شيرين سيف النصر: امتنعت عن الأكل في آخر أيامها    واشنطن: اطلعنا على تقارير دعم إيران للجيش السوداني    إصابة 6 في إنقلاب ملاكي على طريق أسوان الصحراوي الغربي    مفاجآت ترامب لا تنتهي، رحب به نزلاء مطعم فكافأهم بهذه الطريقة – فيديو    راشد عبد الرحيم: دين الأشاوس    مدير شرطة ولاية شمال كردفان يقدم المعايدة لمنسوبي القسم الشمالي بالابيض ويقف علي الانجاز الجنائي الكبير    الطيب عبد الماجد يكتب: عيد سعيد ..    بعد نجاحه.. هل يصبح مسلسل "الحشاشين" فيلمًا سينمائيًّا؟    السلطات في السودان تعلن القبض على متهم الكويت    «أطباء بلا حدود» تعلن نفاد اللقاحات من جنوب دارفور    دراسة: القهوة تقلل من عودة سرطان الأمعاء    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



نحو تفكيك خطاب ومشروع رئيس مجلس الوزراء د. عبد الله حمدوك (6-6)
(فرضيات ومنطلقات الخطاب الفكرية وتجلياتها)
نشر في الراكوبة يوم 28 - 09 - 2021


سبتمبر 2021

يا سارية: الجبل الطبقي
ثورة ديسمبر وتحديات المشهد الطبقي الذي تناساه التكنوقراط

كم سرنا في حرب الطبقات الحرّى
غيرنا البلدان كثيرا
(اكثر من تغيير حذاء بحذاء)
وحزِنا ، ارّقنا الهمُّ
إن شاهدنا ظلماً مرتاح البال
أو قهراً مستعراً دون نضال

كم كنا ندرك !
كم كنا نعلم !
أن الحقدَ علي الإجرام
وأن السخط على المجرم
سيشوه حتماً قسمات الوجه
وأن الغضب تجاه الظلم
يبح الصوت
آهٍ .. آه
ونحن نصوغ أساس الود لكل الناس
قد أجبرنا زمنٌ قاسٍ
أن لا نلقى هذا الود
لكن أنتم
حين يجئ ذاك العهد
عهدُ الود
والانسان أخ الانسان
عهد الصدق
رودوا ذكرانا فى تحنان
وخذوها فى رفق

بيرتولد بريخت (إلى الأجيال القادمة)

مشهد طبقي محوري أول:
ينطرح تعقيد المشهد الطبقي بضراوة يومية ويتجلي فى مشاهد عديدة منها ظاهرة رجال الأعمال-الساسة والتي تخص فساد الطفيلية عندنا أكثر من تجليها في دول الإستبداد الشرقي وكذلك طفيلية التراكم العالمي في عقر داره. لهذه الظاهرة تجايات عديدة منها أن البنية الطبقية الطفيلية التي كانت عبارة عن تجار شيل وسماسرة محاصيل قبل نصف قرن خل محلها سماسرة وتجار عملة ومهربين وأثرياء جدد أعضاء مجالس الإدارات عبر صيغ تخزين البضائع والمحاصيل وتجهيزها لهندسة وصناعة وخلق الأسواق السوداء ، والمشاركة والمضاربة فى المصارف الاسلامية تحت قيادة الأخوان المسلمين (راجع الهادي هباني ، حول قرار السماح بالتمويل العقاري ، سبتمبر 2021) ؛ ورجال أعمال ساسة جزارين وخضرجيّة وبائعى صمغ وبلح ولساتك وعربات وسكر وغسّالين (أقصد للأموال) وتشّاشة عقارات يستولون علي الأرض السودانية مقاسمة مع "عِريب الزيوت أبّان عقالات" الى آخر مشهد اللامعقول حيث تتبخّر مليارات الدولارات من العقود والقروض والمعونات والمنح ويتم بيع الصفقات قبل أن تصل الميناء ، ثم تتحول الأرباح مغسولة ومكوية الى دبى ومليزيا ومصر الخ. هذه الظاهرة عقبة كؤود أمام مرحلة الثورة الوطنية الديموقراطية المدنية ومطالب ثورة ديسمبر من حرية ، سلام شامل وعدالة إنتقالية وإجتماعية. لا بد للحراك الثوري أن يحدث إختراق لإسئصال هذه الظاهرة و القضاء عليها بإسترداد أموال الدولة التي إنتزعتها المؤسسات العسكرية ومليشيا الدعم السريع وأصبحوا بنعمتها رجال أعمال-ساسة جاهزين لتصفية الثورة وسرقتها علي عينك يا تاجر كما أبنت في موضع آخر من هذه المقالات. عبثاً يود هؤلاء إقناع الثوار أن هذا أمر دونه خَرْطُ القتاد. دعنا نتأمّل ونفكّك ما قاله حرفياً رئيس مجلس السيادة البرهان قبل أيام وعلي رؤوس الأشهاد فى خطابه أمام جنود المدرعات عقب المحاولة الإنقلابية الأخيرة لنتعرّف علي ذهنية وخطاب ممثل رجال-الأعمال الساسة: "القوات دي هي البتحمي التغيير دا و بتسوقو سواقة محل ما دايرة توديهو , مافي زول بسوقوا تاني, نحن دايرين نوديهو … نحن دايرين نودي البلد دي لإنتقال". ويفترض ويفرُض في ذات اللحظة ممثل الساسة-رجال الأعمال أن "القوات المسلحة هي من يقود التغيير!! ومن منحها التفويض لتقوده ( محل ما دايرة توديهو ) … القوات المسلحة وفقا للأعراف و القوانين هي حامية لنفس الإتفاق الذي يتحدث البرهان عن سواقته من أي سواقة أخرى حتى منها هي , وهذا ما أقسموا عليه ، و البرهان الذي يحاول أن يرسّخ في رؤوس قواته بأنهم يمكنهم أن يجهضوا الثورة لو أرادوا و يدعوهم للتشاور في حال لم تُعجبهم الأمور ليقولوا بصوت عالي للحكومة أنهم غير مرغوب بهم ، ما هي إلا محاولة للتحريش (أضيف التحرّش) و حشد الدعم من داخل المؤسسة العسكرية ضد الحكومة ، و إعلان صريح للحرب أو التخطيط لإنقلاب آخر قادم بلا شك, في بحثه المتواصل عن تفويض" ( راجع مجاهد بشري، من كان بيته من زجاج ، 21 سبتمبر 2021). خطاب البرهان المجوبك المتناقض عكس تخوف كبار الجنرالات المنعّمين فى بحبوحة شركات المؤسسات العسكرية والأمنية من ضيق وتبرّم الرتب الدنيا في الجيش كونه اعترف بأنهم يعانون مثلهم مثل بقية الشعب السوداني. من هذا الباب ستأتي ريح عاصفة مكبوتة وإنفجار لا محالة قادم ضد كبار الجنرالات المتخمين.
نهب وسيطرة المؤسسات العسكرية (كدولة عميقة) علي موارد الدولة هو الأساس المادي لظاهرة رجال الأعمال-الساسة التي تهدّد بتقويض عملية التغيير الثوري الديموقراطي الآن وهنا ، وعلي الثوار أن يهبوا سريعاً لتكوين حاضنة قاعدية سياسية علي مقاس الدم والثورة ، حاضنة تعي بأولوية هذه المهمة الآنية الجليلة.
مشهد طبقي طفيلي ثاني:
يتحالف رجال الأعمال الساسة مع راسمالية طفيلية أهم استراتيجياتها الظفر بإمتيازات الدولة ودعمها ، وحين نقول طفيلية نقصد الطفيلي الذى ينمو عالة علي غيره كما القُرادة في الحكمة السودانية التي قالت : أنا وأخوي الجمل مشينا جبنا العيش (الذُرة) من القضارف ، ومعروف أن وردية القُرادة كانت إمتصاص دم الجمل طيلة الرحلة. تأمّل معي نموذخ مشهد القُرادة المحلية الطبقي فى تحالفها مع بقية القُراد الإقليمي: مشهد أسامة داؤود رئيس مجموعة شركات "دال" وهو يجتهد فى إخفاء وجهه خلف محمد بن زايد في لقاء البرهان في مايو 2021 . تلك اللقطة تعبّر عن حقيقة علاقة الرأسمالية الطفيلية الخاصة مع السلطة السياسية للحصول علي إمتيازات عقود الدولة المجانية المدعومة ثم تدويرها بالتعاقد من الباطن ( شراكة تحت التربيزة فاسدة طبعاً مع رجال الأعمال الساسة). هذا يؤكد أن معظم أرباح "القطاع الخاص" هي في واقع الأمر تتم مراكمتها عبر ريع سياسي حقيقي تحتلبه الراسمالية الطفيلية عبر إمتيازات السلطة. هذا جزء مهم حين نتحدث عن الرأسمالية الطفيلية في الجنوب الكوني ؛ ومن الجانب الآخر تخلّق المؤسسة العسكرية ككيان تجاري ذو علاقة حميمة مع وب الخطاب الاسلامي (السودان، مصر، اندونيسيا الخ ) . هكذا تتجلي العولمة وتعبر عن نفسها إقليمياً ومحلياً. هذا نموذج غير منتج للرأسمالية الطفيلية والتخلف عندنا ، وعبرها يتم تحديث الفقر وبيعه عبر عطايا وفتات برامج صندوق النقد ومنظمات التجارة العالمية و"أصدقاء السودان" ، تقرأ أصدقاء الساسة.
يتم إعادة ضخ الفائض الإقتصادي لإعادة إنتاج الراسمالية الطفيلية في أنشطة الإستثمار ذات العائد السريع (المصارف ، التأمينات، استيراد وتصدير السلع الأساسية ، تخزين السلع ، السوق الأسود ، المضاربة، غسيل الأموال ، التهريب الخ).
ومثلما "شنت الراسمالية الطفيلية حرباً اقتصادية على حكومة الصادق المهدي الأولى مستعملة السوق الأسود والتأثير على سعر النقد الأجنبي حتي إعترف رئيس الوزراء حينها الصادق المهدى بهزيمة السوق الأسود للحكومة (صدقي كبلو ، حول النخبة والطبقة والجهوية والإثنية) ، يتم الآن سيناريو مشابه باستعمال التضييق الإقتصادي من وقود تحت سيطرة شركات النفط الرمادية الكيزانية ، والسوق الأسود والتهريب والمضاربات في النقد الأجنبي بالإضافة الي قلقلة الأمن فى المدن و9 طويلة وإستخدام فلول الإدارة الأهلية (ترك فى شرق السودان) لإختراع أزمة سياسية تخوّل الجيش لإستلام السلطة مباشرة أو غير مباشرة عبر إنتخابات أشبه بغنتخابات 2020. وللأسف تشن الراسمالية الطفيلية الجديدة حملة بمعرفة وقيادة وزراء المرحلة الإنتقالية (بشقيهم المدني الغافل والعسكري) لتمرير قوانين الضرائب والإستثمار وقانون النقابات 2021 وإعادة قانون مشروع الجزيرة 2005 وقانون تنظيم التعليم العالي والبحث العلمي 2021 ؛ جميع هذه القوانين تم إصدارها دون مشورة العاملين بتلك المؤسسات. مشروع التراكم الراسمالي المعاصر وقوامه الإستغلال المطلق لابد له من آيديولوجيا مطلقة دموية ، لذلك لا ولن يقبل بنظام إنتقالي شبه عادل. الشاهد أن تحالف رجال الأعمال الساسة والراسمالية الطفيلية المقدّس يتبرّم ويهفو لفرض عنفه الدموي القديم لإستمرار تراكمه الطفيلي ، كما يخططون لإختطاف الثورة التي تطالب بمحاكمات إنقلابيي يونيو، وتسليم عمر البشير للجنائية، ومستحقات العدالة الإنتقالية والسلام، والقصاص من مهندسي مجزرة فض الإعتصام. تيقّن الشق العسكري الآن أنه لن يستطيع فرض سيطرته وهيمنته الإقتصادية والسياسية المطلقة في ظل المد والنهوض الجماهيري الثوري رغم ضعف وبطء الشق المدني الذى أجاز بضع قوانين أحرجت وأثارت حنق جنرالات الجيش والميلشيا رجال الإعمال شديدي الجشع وسريعي الغضب في مجلس السيادة الذين يودون إدارة الإقتصاد الوطني على عواهن إستغلاله العنيف البشع والدموي.
سقف أشواق الشريحة العليا من الطبقة الوسطي: لا عين رأت ولا أذن سمعت
هناك مشهد طبقي ذو علاقة بطموحات الشريحة العليا من الطبقة الوسطي التي تهفو للصعود الطبقي بإستثمار فضاء المناهج والثقافات الطفيلية الفاسدة وبالتأكيد غير السوية أخلاقياً التي ترعرعت تحت رعاية نواميس حركة راس المال الإحتكاري المعولم وعمولاته وغسيل أمواله ، تهفو هذه المرة للإستوزار الذى تتيحه المراحل الإنتقالية الهاملة. يمكن متابعة ذلك عبر مشاريع المحاصصات والمحفظة و"ثمرات" حيث شطب معها الساسة والناشطين رجالات الهبوط الناعم وعدهم الأول وإلتزامهم بأن لا ولن يستوزروا وسيظلون اوفياء متفانين لمتابعة ومراقبة الفترة الإنتقالية لإنجاحها. و"قبل ما تمر لحظة واحدة بحرارة الحب" غمرهم وسبق عليهم الكتاب فتورطوا أخلاقياً شر ورطة في الفضاء التنفيذي وناموا عرايا "أم فككو" بدون سلوك (من خالد سلك) فى سريره الوثير. وبذكر برنامج ثمرات ربما يطل علينا وزراء الإدارة الأهلية والأوقاف الجدد لترويج برنامج ثمرات الكئيب بآيٍ من الذكر الحكيم حيث يقرأون علينا "وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ كما فى البقرة ، أو " وَمِنْ ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا".
هناك طبعاً الوجه الآخر من العملة المتمثلة فى الشرائح الدنيا من الطبقة الوسطي التي يشفق العمال علي مستواها المعيشي مسغبةً وضنكاً. يتضح من إحصائيات الفقر والتجويع والجغرافيا السياسية في شمال افريقيا أن وطء الأزمة اعمق بكثير منذ نصف قرن أو يزيد. المهم هنا وانا اقتطف سمير أمين أن "متوسط الدخول الحقيقية" في المنطقة ربما ارتفعت قليلا ، وهذا مؤشر يؤول عليه الاقتصاديون التكنوقراط، ولا يفرح به حقل الاقتصاد السياسي لسبب واحد هو ضعف القيمة العملية لمؤشر المتوسط الحسابي التقليدي والبحث عن مؤشرات أخرى مثل العدالة الإجتماعية ومؤشر السعادة. يزعم جلال أمين أن الشريحة العليا من الطبقة الوسطي المصرية ، مثلا، قد زادت شريحتها العليا من 5٪ الي 15٪ ، أما شرائح الطبقة الوسطي الدنيا ومن تحتها من شرائح فقد تمددت كثيراً ، من 10-30٪ ( راجع جلال أمين ، 2001) . فيما يخص السودان فإن وضع الشرائح العليا من الطبقة الوسطي كان احسن حالا فى الماضى حين بدأ جنرالات المؤسسة العسكرية والأمنية والنخب السياسية في الاتحاد الاشتراكي في الإثراء باستخدام المؤسسات العسكرية رويدا رويدا. كان ذلك علي حساب ذوى الدخل المحدود من عمال ومهنيين (من أطباء وقانونيين ومعلمين ومحاسبين وأساتذة جامعات) داخل وخارج القطاع الحكومي، لذلك كان المهنيون رأس الرمح في المشاركة الثورية في انتفاضة 85، مقابل غلبة نفوذ العمال في ثورة اكتوبر. بإنقلاب الاسلام السياسي الكيزاني استمر صعود جميع الشرائح من جنرالات الطبقة الوسطي والإنتهازيين من بطانة حزب الأخوان المسلمين دون مؤهلات إنتاجية (مادي أو رمزية) سوى إسلام الأخوان المسلمين و/أو الفهلوة الإنتهازية بما سمي فى أدب المجتمع المدني بالمحسوبية واللصوصية الخ.
ضمن هذا الفضاء والخطاب تم إفقار العمال والمهنيين وإضعافهم ماديا وسياسيا ومعنويا وقانونيا إلا أنهم قد اخترعوا حيلة ذكية أثبتت نجاحها في قيادة الشارع السوداني إبان ثورة ديسمبر وهي بناء مؤسسات نقابية ثورية موازية للنقابات الرسمية.
تلك الشريحة العليا من الطبقة الوسطى فى كل فضاء ووادٍ يهيمون والآن طلاب الرزق والسلطة والجاه ما استطاعوا اليه سبيلا في قطاعات العقارات وراس المال المالي والمصرفي الإسلامي ، أو سماسرة في كل قطاع تتيحه مؤسسات الراسمالية الطفيلية ، تشاشة في السوق فى الشارع فى المسرح. وضمن هؤلاء: جنرالات المؤسسات العسكرية والأمنية والجنجويد والرأسمالية الطفيلية والتجارية التي تتخلّق وتنمو الآن بشكل كروناوى ( من وباء الكرونا ، كوفيد) سرطاني.
موقف وزمكان وتطلعات شرائح الفقر:
أدي التخلف التنموي الزراعي والصناعي الراسمالي التابع غير المتوازن في السودان منذ الإستقلال وخصخصة القطاع العام ونهبه (بدعم صندوق النقد) منذ نهاية سبعينيات القرن الماضي الي كساد الأرياف وتضخم الحضر والقطاع غير الرسمي (باعة متجولون، وتشاشة، وفريشة، وسماسرة الخ) بفعل نزوح جماعي من الريف الي المدن. لا صندوق النقد ولا مشاريع المؤسسات العسكرية والأمنية ومليشيا الجنجويد المنهوبة راغبة أو قادرة علي حل هذه الأزمة ولكنها عملت علي استثمارها كسوق رابح ورخيص للتجنيد وبيع الذمم. تخلّقت فى رحم هذا الوضع الاقتصادي الاجتماعي السياسي ،المزري والمذري معاً، فئات وطبقات غفيرة من الشباب والنساء لفظهم الواقع الطفيلي الي التحرك نحو فضاء الرفض الثوري والشوارع والإنفجار. نعم هناك تحالفات فوقية سياسية ومجموعات نقابية منظمة تقود عملية سياسية ونقابية وتعبّر عن هذه الازمات ، وربما لا تكون تلك القوي علي قلب واحد في زمكان ما. إنه لمن باب أضغاث الأحلام والأوهام ومن قصر وبؤس الفلسفة والمنطق والحكمة الرهان علي أن الكتل الجديدة من التكنوقراط وبقايا الحركات التي حملت السلاح وأحزاب الهبوط الناعم ستغل يد جنرالات المؤسسات العسكرية والأمنية والمليشيات التي تجلس علي استثمارات وشركات ومصالح ضخمة ؛ ذلك كون مصالح بعض محسوبي احزاب الهبوط الناعم والطائفية ورجالات الإدارة الأهلية تتقاطع مع مصالح المؤسسات العسكرية وينظرون ملء أعينهم وأبصارهم وقلوبهم نحو التربّح السريع من إعادة إنتاج ووراثة بنيات النظام البائد والدولة العميقة وخطابها ومشاريعها. أعتقد أن المخرج الوحيد للأزمة هو التمسّك بخطاب ومشروع تحالف بنيات ومؤسسات ثورة ديسمبر السياسية والإجتماعية (حزبية وغير حزبية) التي لم تتورّط في بيع سراويلها للعسكر.
يبيع خطاب التحالف السوداني الإنتقالي الحاكم (التي يطلق قادتها أنها الكتلة الثورية أو كتلة التغيير) الذي يتخلّق ويتدفّق عبر الوسائط الاجتماعية أنه نواة مشروع تسووي إصلاحي ضروري وأنه بداية تنمية ديموقراطية والإدعاء أنه حطاب العصر والحداثة وكمشروع مفتوح ومعروض للبيع والشراء في أسواق الله أكبر التي تسمي العولمة والتي باع لنا من قبل النظام العسكري الدكتاتوري المتأسلم ضمنها جُل أراضي السودان تحت مسمي "الاستيلاء علي الأرض" … ذات المشروع يبيعه لنا د. حمدوك مجدداً تحت مسمي " الإنفتاح الاقتصادي"، وليس في نيته نبش وإبطال تلك القوانين والعقودات التي ثار ضدها الثوار ودفعوا ثمنها الباهظ شباباً تتكدّس جثامينهم الآن في العراء دماءً قانية فوق النهر وتحته وفي المشارح.
لقد موضع د. حمدوك ظهره بعيداً عن جماهير الثورة منذ أن رفس نعمة الشرعية الثورية والتفويض الثوري و تربّع فوق عرشٍ رؤيوي استراتيجي وتكتيكي نيولبرالي قوامه ثلاث: أنه رئيس وزراء للجميع ، وراهن علي "الإنفتاح الاقتصادي" في خطابه ومبادراته في يوليو ، وعلي "الشراكة النموذجية" بين المؤسسة العسكرية والمكون المدني. حين أدي د. حمدوك اليمين الدستورية كرئيس للوزراء في أغسطس 2019 قال إن "مكافحة الفساد وتحقيق الإصلاح من أولويات الحكومة السودانية" . الآن في يوليو 2021 استجداه صندوق النقد في تقريره الأخير (تجده ضمن المراجع) أن يكوّن مفوضية للفساد وقانون الفساد!!! ذلك أن جوهر روشتة الصندوق البائسة يتعلق بالنظام المصرفي والنقدي الفوقي (بإقتصاد الطلب وليس العرض والإنتاج). ثم التزم د. حمدوك حينئذ تحت اليمين الدستورية بأن "القطاع المصرفي في السودان على وشك الانهيار، ونحتاج إلى خطة محكمة لإنقاذه". ثم ذكر "نجحنا في خلق شراكة وتناغم كامل يعكس المعنى الحقيقي للديموقراطية" !!.
تأمّلت مليّاً ملابسات بدايات حمدوك ومنها أدائه اليمين الدستورية وقوله "أنا رئيس وزراء لجميع السودانيين" ؛ ومنذئذ إحتار الثوار إزاء هذا الخطاب الأيديولوجي المهذّب وماذا يفعلون مع هذا الإبتلاء الواضح المحدد المعالم. وفي ذات المنطلق الفكري نبحث عن ربكة خطاب ومشروع حمدوك ومواقفه الرؤيوية والاستراتيجية ، وهو خطاب لا علاقة له بمفهوم الثورة التي لم تحدث إرضاء للجميع وضمنهم قاتلي الشهداء الثائرين ، وإنما أتت لتصفية مؤسسة ومنظومة محددة المعالم. ولو افترضنا أن هناك قوي ثورية ستأتي لإكمال التغيير الثوري لابد أن تعي جيداً ومهما "توفرت لها مقومات الذكاء ووضوح الرؤية والقدرات القيادية الفذة" أن تنجز مطالب الثورة من أعلي بمعزل عن النشاط الثوري المستقل لجماهير المنتجين والمزارعين في المدن والأرياف والمهنيين والعمال وفقراء المدن والريف ومنظمات المجتمع المدني ولجان المقاومة كما علمتنا تجارب الماضي القريب في الفضاء العربي الأفريقي. ان تطبيق شعار ثوار ديمسبر (يا عسكري ومغرور ، كل البلد دارفور) لن يتأتّي بسلام محاصصات جوبا الذى لن يقر عيون النازحين شبه المفقأة ويحقق عدالة إجتماعية وانتقالية في ظل موروثات التنمية غير المتوازنة وهجرة الأرياف الي المدن.
خطاب د. حمدوك حَشَفاً وسوء كِيْلَة:
توهان وإرتباك بين خواء الإنفتاح والتوجّه المحلي
بتمجيد د. حمدوك للإنفتاح الإقتصادي المطلق وتبني سياسات الصندوق من جهة ، ثم طرحه لاحقاً عبر مبادرته الإعتماد على الموارد المحلية ، ساهم فى إحداث ربكة مفهومية. كان حَريٌ به منذ بدء مسؤولياته وأعبائه الوزارية تقديم أطروحة فكرية جدلية متماسكة توضّح القنوات المالية والتقنية والبشرية مثلاً التي يمكن أن تتدفّق عبرها موارد الإنفتاح والموارد المحلية وتتكاملان تنموياً. أزعم أن مصدر ربكة وقلة حيلة ولا مبالاة خطاب حمدوك حين إختار برنامج إنفتاحه الإقتصادي وركل توصيات اللجنة الإقتصادية للثورة، بل قال أنه لم يستلم برنامجها الإسعافي، ، أزعم أنه يتحرّي ويباصر ويرعي رؤاه وفلسفته وأجندته الخاصة التي تتعلق بعلاقته وتدريبه مع تلك المنظمات وشبكاتها، وبذلك إنفصمت عُرى الإرتباط الثوري الأخلاقي بين إستهدافاته الشخصية وإستهداف مؤتمر ثورة ديسمبر الإقتصادي.
لم ينشد د. حمدوك العدالة الإجتماعية التي كانت محور إستهداف إقتصاديي المؤتمر الإقتصادي وعلى رأسهم د. عبد المحسن صالح والذى يتناغم مع مشروع ثورة ديسمبر ، لكنه للأسف اختار منهج نمو (وليس تنمية) قصير النظر لاعلاقة له بالموارد المحلية من حيث كامنها أو طلبها وعرضها المحليين.
نعلم جميعاً أن ثورة ديسمبر إنطلقت لأسباب منها أن الثروات التي تراكمت من النفط مثلا "لم تذهب وبشكل غير مشروع لصالح حلفاء النظام فحسب ، بل تم نقلها عبر وسائل مختلفة إلى خارج البلاد… مما أدى إلى تقلص الاستثمار المحلي " ( د.عباس عبد الكريم). وأنخفضت الدخول والطلب المحلي والإنتاج المحلي ، فالعطالة.
لا غرو أن د. حمدوك يعلم جيداً أن ثورة ديسمبر قد ورثت منظومة إقتصادية ارتبطت عضوياً وبنيوياً بعنف وفساد السلطة السياسية ، وكان عليه أن يسعي لإسترداد "الاقتصاد المختطف ، ولكن جاءت الحكومة وحلفائها بتوجه لتقويض الثورة والعمل على ارتهان السودان للمحاور الخارجية سياسيا وللإمبريالية العالمية اقتصاديا" ( د.عباس عبد الكريم). لم يهتم حمدوك بإنشاء مرتكزات دولة تنموية تسيطر علي عوائد الصادر وتنهي العجز فى الميزان التجاري وميزان المدفوعات ، وأن "السيطرة على مسار التجارة الخارجية ستعنى السيطرة على سعر صرف الجنيه السوداني" ( د.عباس عبد الكريم). من تلك المنطلقات قرّر حمدوك باكراً التغاضي عن الأوراق التي اعدتها اللجنة الاقتصادية لقوى الحرية والتغيير حول قضايا الاصلاح الإقتصادي المؤسسي وقدمتها للحكومة التنفيذية في اكتوبر 2019.
لم تكن فى قدرة ومقدرة أو رغبة د. حمدوك أن يتجنّب طريقاً يؤدي الي نفق ديموقراطية مكبلة بسلاسل إدارة الإقتصاد نيولبرالياً مع إنفتاح نعلم سلفاً أن الاتحاد الأوروبي وروسيا والصين وامريكا يستثمرون فيه التناقضات بين الحلف الحاكم (مدني-عسكري، عسكرى-عسكري) لخدمة مصالحها في المنطقة محلياً وإقليمياً ودولياً. زبدة القول أن عضم ضهر سياسات تكنوقراط المرحلة الانتقالية هو إنتاج ديموقراطية ذليلة تابعة تهيئ اقتصاد تابع يعمل لتحديث مشاهد الفقر والإذلال. زبدة القول أن عضم ضهر سياسات تكنوقراط المرحلة الانتقالية هو إنتاج ديموقراطية ذليلة تابعة تهيئ اقتصاد تابع لتحديث مشهد الفقر والإذلال.
إن مساعي وسياسات تحالف حمدوك وتكنوقراطه مع أحزاب الهبوط الناعم فى الشق المدني ورجالات الإدارة الأهلية وبعض أقسام من المؤسسة العسكرية والفلول خارج السلطة ، و/أو داخلها بشكل غير مباشر ، هذه المساعي لا علاقة لها بمطالب ثورة ديسمبر. لم تكن ضمن رؤية حمدوك إستهداف إستراتيجية ثورية سياسية وإقتصادية لحمتها وسداها التمترس مع مصالح الجماهير من مهنيين وعمال ولجان مقاومة والأغلبية المسحوقة وهي العمل لإنجاز مهام وقضايا الديموقراطية القاعدية والسيادة الوطنية التي لا يمكن تجزئتها.
يصدر حمدوك وتكنوقراطه من ذات منطلقات ومصالح راسمالية الإحتكارات المعولمة والساسة رجال الأعمال فى الجنوب الكوني وهم في قلب أنشطة الراسمالية التداولية (التجارية والمصرفية) الطفيلية التي يمكنها ، بقليل من التدبّر، الإستفادة من روشتة صندوق النقد الدولي. الشاهد أن روشتة الصندوق التي إستجاب لها د. حمدوك تلائم شهوة شركات المؤسسات العسكرية من رفع الدعم عن السلع (الوقود الخ) وتعويم سعر الصرف وزيادة تحصيل الضريبة غير المباشرة . فرض منهج الإنفتاح على رئيس مجلس الوزراء تبنّي ثلاثة برامج تسويقية كرشوة موظفي الخدمة المدنية بزيادة أجورهم/ن (الهيكل الراتبي الجديد) التي إبتلعها التضخم ، ثم رشوة الأسر الفقيرة العاطلة عبر الدعم المباشر للأسر (ثمرات) الذى تدفعه منظمات العولمة وستأخذ أضعافه لاحقاً، وتوفير السلع الضرورية بأسعار مُخفّضة عن طريق التعاونيات برنامج (سلعتي) (راجع حسام عثمان محجوب ، خطاب ما أريكم إلا ما أرى).
لقد أصبح التحرير الإقتصادي الذي تسوّقه مؤسسات العولمة مطية لإعادة انتاج المؤسسة العسكرية والمليشيات، وأنتجت وضعاً لاعقلانياً بمنطق اللبرالية الجديدة ذات نفسه حيث "لم تستطع مؤسسات القطاع الخاص تكوين درجة من الاستقلالية مع وجود المؤسسة العسكرية التي فرضت مناخا شبه احتكاري على القطاعات الاقتصادية الكبرى في السودان" كما وضّح شريف مراد. المحصلة النهائية التي أمامنا هي "تراجع وضعف المجتمع المدني السوداني" وحين جاء رئيس وزراء ثورة تأبّط فكرياً وبراغماتياً مشروع الهبوط الناعم ستقع البلاد فريسة فشل في الأسواق يؤدي إلى أزمات إقتصادية طاحنة تنذر بمرحلة أخري من ثورة ديسمبر. لن أُمل تكرار قناعتي بأن الثورات الكبري تأتي كصيرورات وليست ضربة لازب واحدة كما تعلمنا من الثورة الفرنسية التي استمرت عشر سنوات وستة شهور وخمس أيام تقريباً؛ أي من 5 مايو 1789 الي 9 نوفمبر 1799.
زعمي هنا أن د. حمدوك ساهم في تنسيق وترسيخ مشروع اللبرالية الجديدة رغم أنف ثورة ديسمبر. لقد ظلت الأحزاب السودانية تمارس معارضتها لنظام الاسلام السياسي (الإخوان المسلمين) من عدة منابر ، منها ما ظل يفضّل وراثة الدولة العميقة بأسلوب المساومة وتقسيم الكيكة مع النظام القائم لغاية شهر ديسمبر 2018 الذي تفجرت فيه الثورة ؛ وحملت تلك الجهات صفة الهبوط الناعم حتي يومنا هذا ، لا أستثني الحركات المسلحة في الهوامش السودانية. كما أن هناك منظومات وجماعات وأحزاب نافحت وما انفكّت ترفض هذه الهرولة ضيقة الأفق. هذا علي المستوي السياسي الفوقي، دعونا نحلل ماديا وموضوعيا ما حدث علي أرض الواقع من حراكات يومية متماسكة في مقاوماتها. أهم هذه القوي هم الطبقات الدنيا في مجتمعات المدن السودانية، وخاصة الشباب المهمشين من خريجين (من النوعين) الذين واللواتي فقدن الامل في حياة متواضعة كريمة واستمرت شروطهم الاقتصادية والاجتماعية في التدهور المريع من جراء سياسات وشروط اللبرالية الجديدة التي طبقتها حكومة الاخوان المسلمين بقيادة المخلوع عمر البشير والتي قوامها خصخصة وبيع مؤسسات اكبر مخدّم (وهو الدولة و/أو الحكومة، علي سبيل تقاربهما معاً بعد هوان ثلاثة عقود من الدولة الفاشلة). هذه الشرائح التي تضررت ورأت أن لا مناص من تقديم ما تبقي من أجسادهم المنهكة كشهداء ، فتقدمت نحو المقاصل والرصاص البربري من المؤسسات العسكرية الكوزانية والجيش الرسمي والجنجويد التي تمتلك أو تتحالف مع مؤسسات تجارية ومصرفية طفيلية عاثت فسادا معلنا موثقاً. هذه الفئات من الشباب التي فجرت الثورة لم تكن من الطبقة العاملة التقليدية والمزارعين التي قادت ثورة أكتوبر 1964 وهم خارج طلائع تجمع الطبقة الوسطي (تجمع المهنيين من أطباء ومهندسين وقانونيين ومعلمين الخ) التي تضررت من سياسات اللبرالية الجديدة التي افقرتهم ماديا وليس روحياً. لقد انضم مهنيو الطبقة الوسطي الي انفجار الثوار في ديسمبر وقادت نقاباتهم التي ابتكرت جسداً سياسياً موازياً لنقابات السلطة الدموية الفاشية ، واستثمروا خبراتهم النضالية في مقاومة سلطة الاسلام السياسي وقادوا بجدارة وفعالية جموع الثوار في معظم المدن السودانية. إذن هناك قسم من ضحايا سياسات اللبرالية الجديدة من الشباب انفجرت ، ويقيني أنها تتعلم يومياً من تجاربها الدموية وراكمت تقاليد تنظيمية وثقافات مقاومة وخطاب ثوري ولها لغتها الرندوكية الباذخة وحفظت أشعار المقاومة الحديثة من محجوب شريف وحميد والقدال وأغاني ثورية حاضرة ، وتسلّحت فكريا وثوريا وصنعت ثورة في طريقها للإكتمال.
إزاء هذا المشهد المادي والرمزي والموضوعي تسللت بعض قيادات تكنوقراط الكتلة التاريخية وتصدت لقيادة حكومة انتقالية وحنثت بوعدها للثوار بأنها لن تشارك تنفيذياً واستوزارياً في الحكومة الإنتقالية وستظل تراقب وتنتقد وتستعدل مواقف الحكومة الإنتقالية حين تفارق جوهر الثورة وشعاراتها ومواثيقها. لكن الوعي الثوري قال لجماعة الهبوط الناعم بوضوح: لقد جئتم شيئا إدّاً وأمراً فظيعاً منكراً. هؤلاء هم الجماعة التي استخدمها حمدوك لدعم مشروعه الفكري الآيديولوجي الجديد ، ولعله سيختار غيرها متى ما وجد نفسه معزولاً.
لم يتحرى حمدوك تبني مشروع وطني اقتصادي اجتماعي سياسي بديل قوامه العدالة الاجتماعية والعدالة الانتقالية ، وسعي مهرولاً نحو انفتاح اقتصادي خصخص من قبل القطاع العام و قبل برنامج التقشف وتجاهل موارد الدولة لدي شركات المؤسسات العسكرية ووافق علي ميزانية تتجاهل قطاعي التعليم والصحة لكنها تدعم الصرف علي المؤسسات العسكرية والأمنية وامتيازاتها. هذا هو جوهر مشروع حمدوك وتكنوقراطه الذي لا يختلف عن مشروع الاسلام السياسي التابع الخاضع للعولمة وأجندتها، ذات المشروع الذي هزمته ثورة ديسمبر.
خلافاً لذلك فإن نسحة اللبرالية الجديدة في الشمال الكوني تدعم الشركات والقطاع العام معاً ولا تود خصخصته علي غرار مدرسة شيكاغو التي تدعو لاقتصاد قطاع عام رشيق ؛ أما حين يختص الأمر بالجنوب الكوني فإن مؤسسات العولمة تفرض خصخصة القطاع العام ورفع الدعم علي حكومات الجنوب الكوني. الحكومة الفدرالية الأمريكية أكبر مخدٌم ولكن لا يودون أن تكون الحكومة الفدرالية السودانية اكبر مخدّم. في الشمال الكوني اهم شبكات النقل في المدن (مترو الأنفاق والقطارات تحت الأرض وفوقها)، والطرق المرصوفة والتعليم قبل الجامعي ودعم بحوث الشركات وكثير من الجامعات ، والمستشفيات مملوكة للقطاع العام (البلديات أو المحافظات أو الحكومة الفدرالية). دوح القطاع العام حلال علي بلابل الشمال الكوني ، لكنها حرام لطير الجنوب الكوني حسب روشتة صندوق النقد والبنك الدولي التي في قلب مشروع حمدوك وأفنديته. مشروع حمدوك مرتبك وملتبس وتحاصره قناعة أن الحل يقع خارج الحدود. التقنية والتنمية في الشمال الكوني مملوكة للشركات الاحتكارية التي يعمل حمدوك علي التعاون معها خارج ملكية ومشاركة القطاع العام السوداني بذريعة منطلق فكري قوامه الفيروس اللبرالي الجديد. هذا المشروع سيقوّض العمليه الانتقالية والتحول الديموقراطي الجذري ، ويهدف لنسف وتصفية الثورة ، بوعي أو بدونه.
مواقف وقرارات تكنوقراط الحكومة الانتقالية لا تخدم ثوار ديسمبر وفقرائها وانما تخدم مصالح الشريحة العليا من الطبقة الوسطي ومصالح الرأسمالية الطفيلية وشركات جنرالات المؤسسة العسكرية والجنجويد. تتطلّع جماعات الهبوط الناعم الي تسوية سياسية اقتصادية مع الإسلاميين لاقتسام الكيكة معهم كدولة عميقة علي المستوي العسكري وقطاعات المضاربات في السلع الاستراتيجية والطاقة وغسيل الأموال وتبييضها والسوق الأسود في العملات والتهريب. جوهر خطاب وممارسات تحالف العسكر والمليشيا وجماعات الهبوط الناعم والإسلاميين هو إستمالة الشرائح النقابية من الطبقة الوسطي في مجموعة تجمع المهنيين التي خانت مطالب ثوار ديسمبر وسال لعابها نحو بريق دهاليز الإغراء التي تبدو من نموذج نموء (مقابل التنمية) الليبرالية الجديدة (التحرير الاقتصادي والإنفتاح الاقتصادي). لقد أسفر مشروع حمدوك وتكنوقراط المرحلة الإنتقالية عن وجه كالح وعمل على:
* احتضان رجال الأعمال الجدد/القدامي في الرأسمالية التجارية والطفيلية والغرف التجارية والمستوردين والمصدرين الي آخر القائمة ، كونهم المستفيدين من النموذج الليبرالي الجديد. وهؤلاء يتطلعون للإنتفاع بما تجود به محاصصات وعمولات سلام جوبا والي ملء الفراغ الاقتصادي التجاري السياسي كساسة/رجال أعمال. تحلم الشريحة العليا من الطبقة الوسطي بالإنضمام الي تجار المضاربات وغسيل الأموال والسوق الأسود مستصحبة إرث ثلاثة عقود من الأخلاق الطفيلية.
* شق صف مؤسسات الطبقة الوسطي السودانية في تجمع المهنيين (محامين ، أطباء، صحفيين، مهندسين، صيادلة، قضاة، معلمين جامعيين وغير جامعيين الخ).
* إضعاف الطبقة الوسطي بسن ذات القوانين النقابية القديمة التي تبناها نظام الاسلام السياسي الكيزاني.
كلمة ختامية:
كتبت هذه المقالات كباحث أكثر من حزبي ، ولكن هيهات أن أدّعي المقدرة على فصلهما. كباحث حاولت هنا أن أخرج من القمقم الإقتصادي الأكاديمي الحار الجاف مع استصحاب السياسي، كون كل شيئ سياسي على كل حال ؛ الجغرافيا سياسية فى فضاء الجيوبوليتيكس وكذلك تتحالف السوشيولوجيا مع الثقافة فى الحقول العابرة للتخصصات. حاولت أيضا هنا أن أخرج من ضيق الأفق التكتيكي إلى رحابة النظر إلى حراك العولمة كسياق لئيم نتحرك ضمنه. أعتقد من الأصوب لثورتنا، نعم ثورة باعتبار أن الثورة عملية صيرورة قادمة، أن تضيء ظلمات الفجوة بين إرادة الثوار (الكنداكات) ووعيهم وصبرهم المؤدّب من جهة وبين وإرادة ووعي النخب المترددة التي تقاصرت رؤآها عن طلب العُلا فاختارت مناهج الإحسان والفتات الحسيرة من عولمة معاصرة في حالة أزمة إنفجار داخلي كما أطلق عليها سمير أمين. لذلك لا يجوز أن نبيع للعولمة حجابنا وسراويلنا وأصالتنا.
الشاهد أن جوهر نظام الانفتاح الليبرالي الجديد الذي يندفع د. حمدوك نحو كتنفيذي مخلص (بوعي منه أو بدون وعي) هو ظلم وإستغلال أغلبية الشعب بعنيف وقسوة. لذلك تقاطع استهدافه مع النظام الحاكم السابق، وتيقّن أن عليه أن يتصالح مع الإسلاميين براغماتياً (كونه رئيس وزراء للجميع) ، وربما يحتاج لاحقاً لخلق فضاء سياسي يستثمر برنامجهم الديني الايديولوجي المطلق لتبرير الاستغلال المطلق. ذلك هو "عضم ضهر وطايوق" رؤية ومشروع وبرنامج الجمع بين الأختين: الدين والسياسة ، أو قل الدين وبقايا الطائفية من جهة والدولة من جهة أخري.
لقد إختار حمدوك بكامل قواه العقلية وبصيرته أن يقول للشرعية الثورية انت عليّ كظهر امي ، فنأي عن قوة الشرعية وراهن جزافاً علي شرعية القوة (قوة الجنرالات الزائفة المتحالفة مع مليشيا الجنجويد) وتوازن الضعف. جوهر خطاب ومشروع حمدوك هو ان تحافظ المنظومة القديمة علي امتيازاتها وصلاحياتها ولكن عليها أن تتفضّل علي ثوار ديسمبر بشيء من فتات شركات القطاع العام المسلوبة وشيء من فتات مشروع الإحسان المنعوت بثمرات.!
وفي أحسن الأحوال نفاجأ بالمراوغة وعد الشفافية تجاه مؤسسات ومنظمات ثوار ديسمبر. والأسوأ علي الإطلاق هو أن تتم إهانة الثوار عبر البرود تجاه جثامين الشهداء الموزعة بين الأزقة العطِنة والمشارح والمقابر الجماعية لشهداء فض الإعتصام و في النهر الذي يطفح بالضحايا أو مكبلين في قاعه بالصخور والحجارة. كذلك يهين ذوي الشهداء وأصحابهم ومعظم الأسر السودانية بالبطء لكون الجميع قد ابتلي بفقد أو إستشهاد الثوار. قال نيلسون مانديلا حول تحمّلك إهانة الناس أمامك : ليس حراً من يهان أمامه إنسان ولا يشعر بالإهانة.
الإقتباسات والمراجع أعلاه تثبت عدم مصداقية إنتمائه لمطالب الثورة الإقتصادية المعيشية والسياسية والعدلية والتشريعية وحول السلام الشامل والعدالة الإنتقالية لشفاء ذوي الإبادات والقصاص لهم والنازحين، كما تثبت ضبابية مواقفه وسياساته ، وحين تكون سياساته واضحة تؤسس للتبعية وخصخصة موارد القطاع العام ، أو "عدم الجدية في إرجاع ما تم نهبه فى الداخل والخارج في الإمارات وتركيا وماليزيا ومصر وهولندا وأروبا. لماذا لا ندرس تجربة الفلبينيين الذين أعادوا بعد انتفاضتهم أموالهم التي نهبها ماركوس وزوجته.
إذا قدرنا ما استرجع داخلياً من أراضٍ وأموال فإنها لا تزيد عن 2 مليار دولار، بينما المنهوب بالخارج حوالي 165 مليار، فهو لا شيء بنسبة المنهوبات جملة. لا ينبغي أن نأتي في اللجان المطلوبة لاسترجاع الأموال بأشخاص لمجرد أنهم اقتصاديين، بل تكون من فرق استقصائيين ومتخصصين في القانون الدولي للأعمال، ولدينا متخصصون وخبراء في الخارجية السودانية وغيرها في هذه المجالات لكن القدر رمانا بتكالب الناس على لجنة لأن اسمها براق (راجع عبد الرحمن الأمين ، حديث الأرقام واللا معقول ، صحيفة الديموقراطي ، من ندوة بعنوان استعادة الأموال المنهوبة بين تباطؤ الحكومة والتعقيدات الخارجية).
عملت هنا علي تفكيك خطاب د. حمدوك كوني ذكرت الجزء وأردت الكل وهو تحليل بنيات التحالف الباطن والظاهر الذي يتخلّق بصمت حمدوك وتكنوقراطه أو مباركته عبر المواقف أو التغاضي عنها. وكوني عرفت د. حمدوك من قبل كثيراً ما أستدعي تعاطفاً ما تجاه ما وضع نفسه فيه ، تعاطفاً أقرب لتخوم الشفقة و الإستقامة. كتابتي هنا تعني جميع لاعبي الحكومة الإنتقالية في شقي المعادلة السياسية الذين يتحركون في فضاء يتغابون و/أو يغضون الطرف فيه عن تسمية الفيل في الحوش ويطعنون ظله. المحنة الأخلاقية الفضائحية والأمانة التي تنوء عن حملها الجبال هي أن الشق المدني يقنن ويبرر لقتلة حقيقيين قالوا بألسنتهم أنهم فضّوا الإعتصام و "يقوم ويقع" معهم، بل يبارك سوءتهم ضمن شراكة مريرة كما فعل حمدوك حين تم إستدعاؤه (وليس دعوته) لإحتفالية لمباركة وتمجيد وإعلاء شأن الدعم السريع!. لا يود حمدوك طبعاً أن يعكّر مزاج أو يغضب زبائنه الجنجويد والعسكر والفلول والراسمالية الجدد والقدامي الفاتحين أفواههم وقلوبهم لعطايا الخصخصة القادمة طيّ مشروع الإنفتاح وروشتة الصندوق وفتات الدول العربية المجاورة وغير المجاورة. قرّر د. حمدوك تجاهل ثوار ديسمبر وكنداكاتها وحواضنهم الحقيقية. لو فعل ذلك لخاطبه العسكر والجنجويد والمليشيات الجدد الذين تخلوا تماماً عن مشاريع حركات التحرر الأفريقية قائلين: فليدعُ ناديه ، سندعو الزبانية.
مراجع:
1. يا سارية الجبل: جاء فى أثر الميثولوجيا أن سارية بن زنيم الدؤلي صحابي مخضرم شهد الجاهلية والإسلام واشتهر بحادثة نداء عمر بن الخطاب لهُ من المدينة (عبر الأثير الروحي طبعا) قائلا: يا سارية الجبل بينما كان سارية يقود جيشا للمسلمين في بلاد فارس فوصل لهُ صوت الخليفة عمر بن الخطاب من المدينة وهو ببلاد فارس فانحاز إلى جبل فكان لهم الانتصار على الجيش الفارسي.
https://ar.wikipedia.org/wiki/%D8%B3%D8%A7%D8%B1%D9%8A%D8%A9_%D8%A8%D9%86_%D8%B2%D9%86%D9%8A%D9%85
1. مجاهد بشري، من كان بيته من زجاج: قراءة في خطاب البرهان أمام جنود المدرعات ، 21 سبتمبر 2021:
https://www.facebook.com/1042114841/posts/10223007088419295/
1. صدقي كبلو ، حول النخبة والطبقة والجهوية والإثنية ، سلسلة قضايا سودانية 2008.
2. جلال أمين ، ماذا حدث لمصر، 2001، القاهرة، دار الشروق.
3. Samir Amin, The Reawakening of the Arab World, Challenge and Change in the aftermath of the Arab Spring, Monthly Review Press, 2016, 2016.
4. في الاقتصاد السياسي للثورة:15-10 نحو تنمية قائمة على التوجه الداخلي: الطلب المحلى والدولة التنموية بقلم: د. عباس عبد الكريم
https://sudanile.com/archives/144262
1. حسام عثمان محجوب، خطاب "ما أريكم إلا ما أرى" الاقتصادي للحكومة الانتقالية ، سودانايل، 7 مارس 2021:
https://sudanile.com/archives/130957


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.