قد يصعق البعضُ لهذا العنوان اندهاشاً وسخطاً، أو لربما يصفق له البعضُ ابتهاجاً وتشفياً… لكن قبل الدخول في أعماق المقال، عليك _عزيزي القارئ_ بالاستنجاء والاستجمار بماء التحرر المقدس، والوضوء بماء الهدوء، والاستنشاق والاستنثار بهواء الصدق، وافرش سجادة ربط الواقع بالماضي القريب والمتوسط، واخلع عنك حذاء العصبية والعاطفية العمياء، ويمِّم وجهك شطر الواقع المجرد، ثم كبّر معي سبعاً على سذاجة قادتنا في التعاطي مع الأزمات والعقبات السياسية العابرة والمزمنة… وأقرأ المقال بكلّ تأنّي. * لا يختلف اثنان حول حقيقة أن ثمة ثلة اجتماعيّة صغيرة في السودان، ما فتئت ترى وتؤمن بأنها ما خُلقت إلا لتسود وتتحكم في شؤون البلاد وحكمها، مهما كلفها ذلك من ثمن. وانطلاقاً من هذا الإيمان الراسخ، فقد ظلت تلك الفئة_ عسكرية ومدنية_ سائدة على البلاد منذ استقلالها وحتى لحظة كتابة هذه السطور. تخللت فترة سيادتهم الطويلة ممارسات أرغمت أجزاء مختلفة من البلاد لمقاومتها بشتى السُبل، أبرزها سبيل البندقية التي لها منطقها الخاص في إسماع مطالب الشعوب وارغام الثلة للإذعان ولو لفترة ما، لكن ما تلبث أن تتحيّن الفرصةَ للانقضاض على الخصوم ونقض ما تم توقيعه. يتجلى ذلك في جميع الاتفاقيات الموقعة بين تلك الثلة المتحكمة وبين الثائرين.. ابتداءاً من اتفاقية أديس أبابا للسلام في 27 فبراير/شباط1972 بين {حركة أنانيا 1} الجنوبية وحكومة جعفر محمد نميري، التي تم إلغائها بجرة قلم ودون سابق إنذار، ضمن قوانين سبتمبر 1983 التي أعلن من خلالها الرئيس نميري تطبيق الشريعة الإسلامية .. مروراً باتفاقية الخرطوم للسلام، ونيفاشا، وأبشي، وأبوجا، وسيرت الليبية، والقاهرة، وأسمرا، والدوحة.. وإنتهاء باتفاقية جوبا للسلام. و لم تحظى أي منها بالتنفيذ حسبما نُص وخطط لها.. بل غالباً ما يتم التوقيع مع فصيل دون آخر، بغية إضعاف المقاومة، كما هو شائع بصورة أكثر وضوحاً في عهد النظام (العائد).. الأمر الذي يجعل العودة إلى المربع الأول أو الاستسلام المهين خياران لا ثالث لهما أمام الموقعين ! لا أنكر أن (قحت1) قد لعبت دوراً سلبياً في التعاطي مع ملف شركاء السلام، حينما أبعدت الجبهة الثّورية عن الوثيقة الدستورية، ومن ثم قابلت الاتفاقية والموقعين بشيء من العدوانية. كما لا أنكر أن الدور الذي لعبه المكون العسكري في سبيل الوصول إلى اتفاقية جوبا للسلام كان ايجابياً.. لكن ما لا يخطر على البال، هو أن تستطيع تلك الثلة هذه المرة بواسطة البرهان العسكري، أن تسقط أكثر من عصفورين بحجر واحد، حينما أفلحت في جرِّ أكبر حركتين مسلحتين في دارفور إلى الاصطفاف بجانب القتلة المنبوذين ضد إرادة الشعب السوداني الثائر العنيد، والارتماء بكل ثقلها ومبادئها وتاريخ نضالها الطويل في أحضان الثلة من الشق العسكري.. على اعتبار أنه أقل الطرفين نبرة في العداء.. وبيده تنفيذ الاتفاقية أو إلغائها. وبذلك فقد استطاع البرهان أن يجد له _شعبية من وسط ضحاياه_ تؤهله للحصول على الشرعية، ولو بشكل نسبي، لمجابهة الأسرة الدولية والمراقبين الاقليميين. وبذات القدر استطاعت الثلة أن تشلّ حركةَ حركتَي مناوي وجبريل ذات الشعبية الكبيرة عن أي تقدم أو صعود للمشاركة الحقيقة في حكم البلاد، بعد انتهاء الفترة الانتقالية… بعد أن انسحب بساط التأييد الشعبي الذي كانتا تتمتعان به من تحت اقدامهما، خصوصاً في دارفور وأقاليم أخرى وأطراف العاصمة الخرطوم. وبما أن عقليةَ الثلةِ تهدف ابتداءً إلى التخلص من الخصوم -الغرباء- بشتى السُبل؛ فلا استبعد البتة أن يكون بين المكونين المدني والعسكري -الثلة- تفاهم مسبق لإزاحة الحركات التحررية من المشهد. مثلما حدث إبان الفترة التي اعقبت مقتل زبير محمد صالح حينما اتضح للثلة أن أبناء الهامش على بعد قاب قوسين أو أدنى من الوصول إلى مناصب الخطوط الحمراء التي لا ينبغي لأحد من خارج الثلة تسنمها.. فجاءت مسرحية {القصر& المنشية } التي صدقها الجميع، ولم تُكتشف حقيقتُها الا قبيل وفاة عرابهم الترابي. إن ما جرى من اعتقالات وسط وزراء وقيادات {قحت 1} -شئنا ام أبينا- سيجعل منهم أمام الشعب السوداني والعالم أيقونات للثورة، رغم الإخفاقات الكبيرة التي صاحبت فترة بقاءهم في الحكم.. مما سيضمن لهم الفوز في الانتخابات القادمة بلا منازع. وفي المقابل، لن تستطيع الحركتان الصمود أمام صناديق الانتخابات، بسبب اختيارهما الانبطاح لِلَعقِ {بوت} العسكر. إن خيار الاصطفاف بجانب العسكر -من بين عشرات الخيارات المتاحة- في هذا التوقيت المفصلي من تاريخ السودان، لهو اختيار لحبل المشنقة بعينه. لأن أية قطرة دم سُفكت أو ستسفك بعد هذا الانقلاب العسكري؛ سيكون للحركتين منها نصيب مثلما على الدعم السريع والقوات المسلحة، لذلك، اتوقع ان تشهد الأيام والشهور المقبلة إسراعا غير عادي في تنفيذ ملف الترتيبات الأمنية.. ليس بغرض الإيفاء بتنفيذ الاتفاقية ، وإنما بغية إفراغ معسكري الحركتين من قوات ، وتجميع ما بأيدي قواتهما من سلاح من جهة؛ وإشراكهما في الولوغ في دماء الشعب السوداني من جهة أخرى. وبذلك سيصبح الجنرالان بلا شعبية، بلا سلاح، بلا قوات، بلا كرامة وسط المجتمع.. وحينها سيتم الإطباق عليهما بتهم جنائية، بلا أية مقاومة… و ليس للسمكة خارج الماء سوى مصير واحد. و سيرجع البرهان إلى ثكنته كقائد للجيش أو كرئيس منتخب للسودان.. بينما ستتبعكما لعنة الشعب السوداني ، ولعنات ضحايا البرهان وحميدتي القابعين في معسكرات الذل والموت من النازحين واللاجئين إلى يوم تُبعثان. ومع ذلك يبقى السؤال: ماذا انتما فاعلان اذا نفض البرهان يده عن اتفاقية السلام وزَجّ بالموقعين في المعتقلات؟ وما المانع من أن يتجرأ البرهان إلى إلغاء اتفاقية جوبا للسلام مثلما استطاع أن يلغي احسّ مواد من الوثيقة الدستورية والزج بمن وقعها معهم في المعتقلات؟ هل ستعودان إلى المربع الأول و{الفَرَي فَرَي} مثلاً؟ أخيراً: غداً ستكشف الأيام ما سكتت عنها الألسن والأقلام. أقلام متّحدة