هذا الشباب الثائر من أجل العزة والكرامة والحرية لا يستحق كل هذا التعذيب والتقتيل بالرصاص الحي . لم يخرجوا طلباً لكراسي السلطة ولا دفاعاً عن جاه ولا مصالح ولا أموال اكتسبت بطرق غير مشروعة ، وإنما خرجوا لتحرير الشعب من الظلم والاستبداد الذي طالت وتمددت لياليه الحالكة السواد. هذا الجيل لم يجد من يفهمه ، لأنهم من طينة أخرى ، بل من كوكب آخر . ناضل السودانيون حتى تحرروا من الاستعمار الأجنبي ، فوجدوا أنفسهم يخضعون لاستعمار عسكري من بني جلدتهم . ذهب استعمار كان يفيد ويستفيد وجاء استعمار لا يفيد ولا يستفيد . استعمار عسكري كلما أخرجناه من الباب دخل علينا من الشباك حتى شتت وحدتنا وفرق جماعتنا وأورثنا الهوان والضعف والخوار . فخرج عليه شباب لله درهم ، لا يخضعون ولا يستسلمون ، عذب وسحل وقتل وألقى في النيل وصلب في جذوع النخل ، فلم تنكسر إراتهم ولا لانت عزيمتهم . شباب يريد أن يعيش حراً كريماً في بلاده رغم أنف الطغاة وفلولهم وأشياعهم ورغم سلاحهم وقسوة قلوبهم . شباب بهذه الإرادة والعزيمة حتماً سينتصر وإن اجتمعت معهم الانس والجن . تقول الحكمة الرومانية "لا تسأل الطغاة لماذا طغوا بل اسأل العباد لماذا ركعوا للطغاة". أو كما قال مارتن لوثر كينق "لا يستطيع أحد ركوب ظهرك إلا إذا كنت منحنياً". فالظلم يحيا بالسكوت ويتنفس بالخنوع ويقوى بالخضوع ، وشباب الثورة لا يسكت ولا يخنع ولا يخضع . قال الدكتور سعد الدين الهلالى ، أستاذ الفقه المقارن بجامعة الأزهر ، إن تسفيه عقل الإنسان أمر مرفوض دينياً كون الله سبحانه وتعالى خلق آدم عليه السلام وجعل الملائكة يسجدون له تكريماً له ووضع فيه العقل ، مشدداً على أن التجاوز فى حق أبن آدم بالتعدى بالسب والقذف أو الضرب والقتل محرم تماماً فى الدين الإسلامى ، وتابع :" وهذا أمر تكليف من الله الخالق .. والناس فى حاجة للدين وليس العكس .. وعلى المظلوم أن ينتصر لنفسه بالحق مش أنه يبات مظلوم ويرضى بالخنوع كون رضاه بالخنوع يجعله راضياً بان يظل الظالم فى ظلمه". عندما كان صدام حسين يحاكم في قضية الإبادة الجماعية للأكراد فيما عرف بحملة الأنفال التي قتل فيها 180 ألف كردي في عهد صدام حسين ، قال صدام للقاضي (يقولون صدام حسين ديكتاتور) فرد عليه القاضي (أنت لست دكتاتوراً ، أنت لم تكن دكتاتوراً) فتبسم صدام حسين رضاً بكلام القاضي ، وواصل القاضي كلامه قائلاً (أنت ما دكتاتور ولكن الشعب هو الذي يصنع الدكتاتور). هكذا تصنع الشعوب الخاضعة الخانعة الطغاة. شاعت في العالم ، عبر التاريخ ، سير حكام عديدين ، ارتبطت أسماؤهم بصفة "الطاغية". وليس أقل هؤلاء شهرة : حنكيز خان وهولاكو وموسوليني وهتلر وستالين وفرانكو وتيتو وشاوشيسكو وموبوتو . إذ حكم هؤلاء جميعاً ، شعوبهم ، بقدر كبير من الاستبداد ، وكانت ضحاياهم بالآلاف ، وأحياناً بالملايين . وفي أفريقيا من أمثال الموزمبيقي روبرت موغابي والكاميروني بول بيا واليوغندي عيدي أمين واليوغندي يوري موسوفيني والغيني الاستوائي تيودورو أوبيانغ نجوما والليبي معمر القذافي والسوداني عمر البشير الذين قتلوا مئات الآلاف وارتكبوا المجازر والإبادة الجماعية حتى أصبحوا وصمة عار في جبين أفريقيا . منهم من قتل قتلةً بشعة كالقذافي الذي استخرج من جحر كالخنزير البري وحشر في دبره عود ، ومنهم من ينتظر مصيره المظلم . القائد المغولي جنكيز خان الذي اشتهر بدمويته وبطشه ، وارتكب مجازر راح ضحاياها الملايين . أحرق الكتب والمخطوطات والمكتبات ، فخسرت البشرية الكثير من علومها ومعارفها وثقافتها وحضارتها نتيجة استبداده ودمويته. ورغم أن عدد ضحاياه غير معروف بدقة إلا أن المؤرخون يقدرون أن عدد سكان العالم انخفض بنسبة 11% بسبب حروبه العبثية . مات ميتةً مجهولة وقبره مجهول . موسليني قتل نصف مليون من الإيطاليين ، وفي 12 ابريل 1945 قبل ثلاثة أيام من نهاية حكمه أراد أن يتفاوض مع المجلس الوطني لتحرير إيطاليا على استسلامه ، فجاءه الرد لا تفاوض مع الطغاة ، فحاول الهروب من إيطاليا متخفياً ، وقبض عليه وأعدم رمياً بالرصاص وعلقت جثته من القدمين في إحدى ساحات مدينة ميلانو عند الخامسة والنصف من مساء يوم 28 أبريل 1945 . وأما الأيام الأخيرة من حياة هتلر، فكانت في مدينة برلين ، في الملجأ الذي كان قد نقل إليه قيادته في 16 يناير عام 1945. كان ممزقا بين آماله وأوهامه بإمكانية الانتصار على الجيش الأحمر السوفييتي ، الذي كان يزحف على برلين . كان هتلر شاهداً ، لا حول له ، على دخول القوات السوفييتية إلى برلين ، وعلى خيانة بعض المقرّبين منه ، فاختار أن يقتل نفسه منتحراً بالسم. هكذا تكون نهاية الطغاة بخيانة المقربين منهم وأولي نعمتهم . الإمبراطور الروماني نيرون الذي أحرق روما وجلس يتأملها مبتسماً وهي تحترق ، قتله وزراؤه المقربون شر قتلة . وصاح الامبراطور العظيم يوليوس قيصر وهو يتلقى الطعنة القاتلة (حتى أنت يا بروتس؟). وجاء البشير باللجنة الأمنية لحماية سلطته فغدروا به ووضعوه في كوبر . نعم إنه بروتس ، مع كل طاغية يوجد بروتس . وبروتس ينتظر الفرصة المواتية. الثورة الفرنسية ألغت الملكية المطلقة والامتيازات الاقطاعية للطبقة الارستقراطية ، والنفوذ الديني الكاثوليكي ، وأدت إلى خلق تغييرات جذرية لصالح التنوير عبر إرساء الديموقراطية وحقوق الشعب والمواطنة. وثورة ديسمبر المجيدة في السودان هي ثورة تحولات سياسية واجتماعية كبرى في التاريخ السياسي والثقافي للسودان وأفريقيا بوجه عام . ثورة تعمل على إلغاء الحكم العسكري وتسلط الطغاة والمستبدين ، وإنهاء مصادرة الحريات وانتهاك الحقوق والفساد ونهب المال العام . ثورة واعية من أجل الحرية والسلام والعدالة وحكم القانون في وطن يتساوى فيه الجميع. مثل كل شعوب العالم الحر يحلم الشعب السوداني بأن يقوده زعيم وطني حقيقي يسعى إلى ما فيه خير ونماء ورفاهية شعبه ، منتهجاً طريق الحرية والسلام والعدالة . وفي كل مرة تصطدم أحلام الشعب بأطماع العسكر في السلطة ، وفي كل مرة يخرج حاكم عسكري يسعى إلى إشباع رغباته في السلطة والمجد والخلود وإن كلف ذلك دماء الملايين من أبناء الشعب ، فالغاية تبرر الوسيلة ، وقد أوشك البشير على قتل ثلث السودانيين ليبقى في السلطة بفتوى من أحد عبدة السلطان . من يشاهد ما يحدث في السودان من قتل وامتهان لكرامة الإنسان وانتهاك للعروض والحرمات والبيوت لا يمكنه أن يبقى على الحياد مهما انحط وتدنى وسفل. سيأتي يوم ندرك فيه جميعاً أن مأساتنا الكبرى ليست في تزيين الباطل والأكاذيب المضللة التي ينشرها الخونة ، وإنما مأساتنا الكبرى هي الصمت المروع الذي اختاره البعض ونحن في منتصف المعركة. يمكن للطغاة ممارسة القمع والإرهاب بعض الوقت ، ولكن لا يمكن أن يبقى السودانيون على حالهم تحت القمع والاستبداد للأبد ، إذ أن التوق للحرية ينتصر في نهاية المطاف ، وسيأتي الوقت الذي تكون فيه الحرية والسلام والعدالة واقع لجميع السودانيين. [email protected]