عندما يحاول قائد الجيش السوداني، الجنرال عبد الفتاح البرهان، والقادة السياسيون الذين نسجوا معه اتفاق عودة عبد الله حمدوك ، استخلاص دروس الانقلاب الفاشل والاتفاق الذي أعقبه، سيكتشفون أن التعويل على حمدوك لتحييد المجتمع الدولي وتجنب الضغط الأمريكي ووقف المساعدات والعقوبات كان مجرد مغامرة خاسرة، لأن عودة حمدوك لم تجلب لهم أي فائدة، وهاهى أمريكا تقول للبرهان وحمدوك معًا أن الاتفاقية نفسها عمل ناقص وأنها لن تعيد النظر في قرارها بوقف المساعدات ما لم يكن هناك تغيير ملموس باتجاه تنفيذ مطالب الشعب والالتزام بالوثيقة الدستورية.فى وقت يكشر فيه الشارع عن انيابه. يبدو ان قائد الجيش مدعوما بالكتلة العالقة مع الانقلابيين لم يتخلى بعد عن فكرة استخدام الجيش لاغراض سياسية ، ولا عن حكاية أن الجيش وصى على السودان، ولم يغير بعد فهمه للتحول الديمقراطى باعتباره يعنى عنده التحول العسكرى، ومن الواضح ان همه الأول ما يزال تجنيب الجيش المساءلة عن جرائم القتل وتمكينه من الاحتفاظ بمصالحه الاقتصادية. الجنرال سالف الذكر يريد دولة سلطوية فوضوية وحكما مدنيا تحت اشرافه، كان هذا موقفه قبل الانقلاب ولايزال عليه بعده. ان محاولة رصد الفائزين والخاسرين من الانقلاب ستجد ان الجنرال السابق ذكره يتصدر قائمة الخاسرين وان الجماهير هى الفائز الاول بلا منازع ... بغباء العسكر المعهود كتب الجنرال اتفاقا لا تختلف مقدمته عن بيان الانقلاب الذى تلاه يوم 25 اكتوبر ، وفى الحالتين كما نعلم قال ان دافعه هو الحفاظ على الوطن والالتزام بالوثيقة الدستورية. وفى الحالتين خاب ظنه، فقد ألهم الاتفاق والانقلاب قبله قوى الثورة ونشطها وشجعها لرفض الامر الواقع وعلى رأسه وجود الجيش على مسرح السياسة، وألب عليه الخارج الذى ظل يذكره على الدوام بان الوثيقة الدستورية تشترط بوضوح ان يكون الحكم مدنيا. وأن الاتفاق يحمى فقط مصالح العسكر وبعض القادة السياسيين ولا يخاطب مطالب الشعب المحددة فى السلام والحرية والعدالة. وبمعنى اخر عندما يقول الامريكيون ان الاتفاق ليس كافيا فهذا يعنى ان المنظور الخاطىء الذى يتبناه الجنرال سالف الذكر وحلفائه لا ينسجم مع تضحيات الملايين التى واجهت العنف بشجاعة واسقطت نظام المخلوع عمر البشير لكى ياتى تغيير يجعل اصواتهم حاضرة فى كل الاوقات حول اى طاولة تبحث فى جذور المشكلة السودانية من أجل حلحلتها للابد، كما أنه اى المنظور يشى باستنكاح ملحوظ انتقل لمؤيديه بالذات عندما يتفننون فى تبرير الانقلاب والاتفاق، ناهيك عن ان الاتفاق مع حمدوك نفسه يبدو كمساومة متفق عليها بينه وبين العسكر والمهرجين من القادة السياسيين وجزءا من فيلم يجسد الكوميديا السوداء بخاصة عندما ترى شخص مثل المحامى نبيل اديب الذى يترأس اخطر لجان الفترة الانتقالية – التى ينتظر نتائجها آسر شهداء ثورة ديسمبر – يخوض مع الخائضين ويشارك فى الوساطة ، ربما لأن عبارة الصلح خير فى عقله الباطن تعنى ان تحكم العسكر كفيل باراحته وقتل موضوع التحقيق فى جرائم فض الاعتصام !! إن الاراء التى عبرت عنها الخارجية الامريكية بالامس تقول بوضوح أن الجنرال سالف الذكر وحمدوك بلا شرعية.وان الشرعية عند الجماهير المخلصة لقيم الثورة ومبادىء الديمقراطية، والتى تملك القدرة على تغيير الواقع ولديها دافع لتطبيق الحكم المدني، وتعنى ان سلطة الانقلاب ماتزال موجودة وان الاتفاق لم يغيِّر شيئا وان امكانية محاولة العسكر سحق الاحتجاجات الشعبية بقانون الطوارىء تبدو واردة بناء على قناعة العسكر الغبية بان استخدام الجيش لقمع المظاهرات يؤدى لتآكل الديمقراطية. ان توالي الضغوط من الداخل والخارج على الجنرال سالف الذكر وحمدوك من شأنه أن يحقق اختراقا لصالح الجماهير، وقد يتمكن حمدوك بعقليته المساومة تخفيف اثار الضغوط والاقتناع بأن ما تبقى من زمن الفترة الانتقالية يعد جهادا اكبر بالنسبة له ان كان جاداً، فيحاول اصلاح اخطائه الكارثية التى تظهره كادارى فاشل لم يحقق شيئا من اجندات الجماهير سواء على صعيد الاستقرار السياسي او الاقتصادي، كونه ربما بناء على فهم خاطىء لثورة الجماهير يرى انها خرجت فقط لرفع اسم السودان من قائمة الارهاب واعادته لصندوق النقد وليس من اجل تغيير الظروف المريرة التى سودت عيشتها و كبلتها على مدى ثلاثين عاماً، وتظهره كمفاوض فاشل ايضا حيث فاوض ووقع على اتفاق بائس ومبتسر مع البرهان علما بان التسريبات كانت قد ذكرت انه اعترض فقط على مقدمة الاتفاق التى كانت تقول ان الاتفاق يستند على قرارات قائد الانقلاب التصحيحية فاستبعدوها وهم يقولون له بس كدة ؟! نشيلها علشان خاطر عيونك، لقد استغل الانقلابيون حمدوك اسوا استغلال من أجل ايجاد صبغة سياسية للاتفاق واكتشف الجميع ان حمدوك نفسه بلا سند شعبى ولا يستند على قاعدة سياسية، فقد وقع على الاتفاق بصفته الشخصية مع علمه ان الجيش مازال مسيطرا على كل المفاصل التى حرمته من تنفيذ اى انجازات لصالح المواطن لأكثر من عامين، وهاهو الاتفاق عوضا يضيف له مصاعب جديدة متمثلة فى سكوته عن مصير الفلول الذين تمت اعادتهم للوظائف الحكومية بعد الانقلاب، علاوة على انه سيعد شريكا فى المسئولية اذا استخدم العسكر القوة ضد المتظاهرين، بينما على الطرف الاخر يمكن ان تؤدى عقلية العسكر المتشددة التى يسيطر عليها الشك وانعدام الثقة الى تفاقم الخلاف وعدم القدرة على السيطرة على الاوضاع خاصة مع تشدد دول الترويكا على المواضيع التى ترفع ضغط دم العسكر وتصيبهم بالمناخوليا مثل اجراء تحقيق شامل وشفاف ومستقل حول المذابح التى ارتكبت بحق المحتجين واعادة شركات الجيش لسلطة الحكومة المدنية ، وسيعجز الجنرال سالف الذكر فى خاتم المطاف عن ايجاد مساحة كافية للمناورة تحفظ ماء الوجه. ان محاولة العسكر مواصلة برنامجهم بدون تعديل او تنازلات فى ظل رفض المدنيين لن يقودهم الى بر آمن، وبالعكس سيفرز اجندات اكثر شراسة فى مناهضة المؤسسة العسكرية، ولن يتبقى امامهم سوى التفكير فى انقلاب اخر ، آملين ان تكون الثالثة ثابتة. باتت اصوات السودانيين التى تطالب بنقل السلطة كاملة على الفور للمدنيين مسموعة فى جميع أنحاء العالم، وصارت روح (حملتهم الدائمة) أكثر انتشارا وأكثر تشجيعا لمواقف ورؤي الشباب المتحمس، وقد آن الأوان لخلق قيادة للشارع الملتهب وتنظيمها وتدريبها لكى تقول كلمتها الفاصلة .. ينبغي ان يكون افساح المجال أمام لجان المقاومة وتنظيمها نحو كيان واحد جامع يمسك بزمام الامور المهمة الوطنية الأولى فى هذه الظروف، ان تعزيز الصعود السياسي للجان المقاومة التى تضم الشباب فى البوادى والحضر يجب أن يتصدر أولويات المرحلة ليس لانهم يبتكرون وسائل جديدة لمقاومة الطغمة العسكرية فحسب، بل لأن حتمية بناء السياسات على أساس التقدير الكامل للظروف المحلية تجعل منهم الشخص المناسب فى المكان المناسب . إن التكامل بين سطوة الشارع وهمة لجان المقاومة ودأبها وبين الضغوط الخارجية من شانه أن يغل يد العسكر ويهزم جشع القادة السياسيين ويحقق رغبات الجموع فى تأمين المسار الانتقالى باتجاه التحول الديمقراطى و الحكم المدنى المستقر. بتعطشه للدماء صار الجيش السودانى العنصر الأكثر وحشية فى المشهد السودانى ، وبات لزاما على عناصره القيادية تحكيم العقل والعودة الى الثكنات باعتبارها الوسيلة الوحيدة لتخفيف اثار الضغوط وتنظيم إرادات السودانيين المتصارعة نحو التحول الديمقراطى ، الوسيلة المثلى لصنع التسوية الطوعية الشاملة التى تخلق استقرار وطنهم ووحدته ونهضته وتحترم تنوعه وتجهض المؤامرات الساعية لتفكيك البلاد فى آن. ان اهتمام الولاياتالمتحدة المتزايد بالشأن السودانى وتركيزها على قيم الديمقراطية وحقوق الانسان فى اطار جهودها المساندة للحكم المدنى فى بلدنا ، يعد دليلا على أنها بدأت فى تغيير سياستها فى إفريقيا التى كانت تركز على الصين وباتت تركز عوضا على رغبات الأفارقة وطموحهم فى بناء بلدانهم عن طريق الديمقراطية !!! [email protected]