(أ) في البدايات هذا المقال سيثير حفيظة "وليدات الإنجليز", فهم معنا في كل الملفات العالقة, لكن بقدر من سوء النية في قلب الرجل يمكن أن يسمم الكرة الأرضية. قلت إنهم "معنا", فمن نحن ومن هم؟ الأنا وال"نحن" في سودان إنتمائي وسودان الأغلبية من أبناء وطني في الجنوب والشمال والشرق والغرب: "الأغلبية الصامتة" الذين عانوا ويظلون يعانون لا لشيئ سوى أنهم سودانيون. في الجانب الآخر يوجد "هُم", وهم الأقلية الإنتهازية. وهؤلاء لا يختلفون كثيرا عنا في الشكل والمظهر الخارجي؛ وأسماؤهم كذلك كأسمائنا. لكن "الفرز" من جانبنا يحصل مثل ضبط موجات الراديو تماما حين يفتح الرجل فمه ليتحدث؛ ومثل إستقبال الصور في عدسة العين مما يبدو أمامها. الفرز إذن بيننا وبينهم في لسان الخطاب وفي الأفعال. وكما ذكرت أعلاه هم معنا في كل الملفات, لكن سوء النية في قولهم وفعلهم يفضحهم "مهما تجملوا". سوء النية بنية التخريب, إشاعة البلبلة, التخذيل وغير ذلك مما سيرد بعد قليل. والذي يفضح من قولهم وفعلهم أكثر من أي شيئ آخر هو الإستماتة في الولاء للأجنبي ومصالحه على حساب مصالح جمهور أهل البلد. "وليدات" الأجنبي (بما يشمل وليدات أتباع الإنجليز, مثل وليدات المصريين, وليدات الشوام وقس على ذلك) لن يسرهم هذا المقال بالتأكيد. مثل جار السوء الذي وإن أحياه الله في القرية والحي عشرات السنين يظل يحمل في قلبه رغبة كامنة في "بيع العشرة" و"الإلتفاف" على السكان عند أول سانحة بانتهازية منقطع نظيرها. منقطعٌ نظيرها لأن العشرة والعشيرة (حتى العشيرة التي تحتوي أغرابا) تفترض "الأمان" بين أفراد العشيرة, ومن الفرد تجاه من يعيش معهم – ونحوه بالطبع. فالقاتل حين يقتل والسارق حين يسرق يخونان الأمان في حدود فعلهما, دون إضرار بمفهوم الأمان المجتمعي الذي يمثل عهدا بصون النسيج الإجتماعي والسلام المحلي من الضرر الجماعي للكل. سرقة السارق تمس الصالح العام في مكان الجرم والجزء من العشيرة الذي تضرر من ذلك الإنتهاك وتبعاته. أخيرا التعدي يشمل أيضا تداعي بقية ذلك الجسم الإنساني تأثرا من الفعل المرتكب. (ب) ترقب الإنقلاب على المجتمع الكبير: سيكلوجية زرع الأشواك للآخرين لكن الإلتفاف على السكان من الأقلية الإنتهازية في المجتمع هو نقلة في سوسيولوجيا الضرر تتعدى الفرد ومحدودية الأثر الجماعي للضرر إلى أذى بليغ يطال روح العشيرة نفسها – تمزق المجتمع الكبير. ولكي يحدث التمزق فهناك سلسلة من الأفعال تنشأ عن إنفصام في نفسية الإنتهازي تجعله يرى مجتمعين بدل مجتمع واحد: المجتمع الكبير الذي يعطي الأمان لأفراد للعشيرة, المجموعة والأمّة على اختلاف سماتهم الشخصية؛ وتجمعا بديلا يرى فيه الإنتهازي مصالحه (أو إنتماءه, أو انتماءه ومصالحه معا) ومصالح أقلية تشبهه في النزعة للضرر كركيزة لنشاطه الوجودي. إذا كانت بعض المناحي الإجتماعية تأخذ الإنسان كوحدة للتحليل الإجتماعي (1), فاقتراحي أن "الإنتهازي" المشار إليه يمكن أن يؤخذ كوحدة لتحليل منشأ المشاكل الكبيرة في المجتمع المفتقد ل أو الذي تم إفقاده الأمان. وهذا إجراء مآلاته إنقلاب الإنتهازي أو سمه "إلتفافه" على المجتمع الكبير بنية مبيتة في عرقلة الصالح العام. ما أتحدث عنه ليس فقط مخلوقا يتسم بالإنكفائية, الإنعزالية, أو حتى الشوفينية (الشوفينية القبائلية مثلا), بل هو يتعدى ذلك إلى تربص كامن بالأغلبية التي يعيش بينها. من وجهة نظر نفسية, فهذا الكائن الإنتهازي تجسيد لباثولوجيا إجتماعية منبعها الرغبة في حرمان الآخرين من الخير. أو سمّه إن شئت إلحاق العقاب بالأغلبية. التوجه إذن سلبيّ الوقع على البيئة وينتج عن شخصية فاقدة للتعايش (2) تبغض أكثر ما تبغض السلام الإجتماعي والمنفعة العامة. فالوجود بعيون تلك الشخصية يمثل ترقبا مستمرا للحظة الإنقلاب على الجماعة. وحتى تحين لحظتها الموعودة فإن نزعتها غير السوية تتمثل في اللجوء بقدر ما تستطيعه "لمفاقمة المشكلات" بدل حلها بإختلاق أمور فرعية, تقديم نصيحة غير أمينة, سكب مزيد من البنزين على النار, إلخ. والشخصية المقصودة تحس بالراحة إزاء ضعف الأواصر الموجبة بين الناس وتحدد خيارات إسهامها في العلاقات الإجتماعية على هذا الأساس (إيقاع الضرر أو على الأقل منع المنفعة). هذا عالم خلق ليزرع الأشواك في الطريق. (ج) سيكلوجية "الإضرار": إضطرابات سلوكية؟ الذين عاشوا مثلنا في مجتمعات أنقلوساكسونية (3) يدركون أن ما يسمى بالتعددية الثقافية هناك, لا يعني إقامة العدل في تمثيل كل الثقافات, بل في تلاعب كبير جدا وصولا لممارسة ضبط إجتماعي قمعي أو Repressive social control على الأقليات. الفروقات المحلية إذن تستخدم كذريعة بإسم الإختلافات لتطويع, عزل, تحييد كما "توزيع الأقليات" لترقية "الأكثر تعاونا" من غيره. بيت القصيد أن هذا الترتيب يحتاج إلى لاعبين متعاونين لتحقيق أحد الأهداف الرئيسية: السيطرة على الأقليات. من تجربتي الشخصية, هؤلاء المتعاونون يعانون من إضطرابات سلوكية. فهم بداية لا يعتبرون أن قلب الإنسان وعاء يفيض فيمتلئ للآخرين. بل هو وعاء تشرب منه ثم تدلقه على الأرض نكاية بمن يريد الشرب بعدك, أو إن لم تستطع قلب الإناء بعد الشرب, فعلى الأقل تبصق عليه إفسادا لمائه. وهم في المقام الثاني يتوقون "للتنصيب" من صاحب المقام الأعلى منهم فيستطيعوا الهيمنة على رفاقهم. كل هذا العناء لأجل أخذ شارة "الغفارة" من مستعمر العمارة للهيمنة على سكانها بإسم المستعمر! مما نعرفه اليوم, التجارب الفاشية التي حدثت في الجزر البريطانية (4) لم تك لتنجح دون إزاحة ممنهجة للسويّ والمحترم في الشخصية الوطنية هناك. والإزاحة المعنية تقتضي "بالضرورة" تنحية الوطني متزامنا مع تنصيب الإنتهازييين الذين يعانون من إضطرابات سلوكية بشواهد مؤكدة: العنف في أول حيازة لتفويض باستعمال السلطة؛ إحتقار الذات تقربا للسلطان (تقربا لمن يدفع أكثر في الحقيقة)؛ ترقب الفرصة للتنمر على الآخر, الكذب والتدليس في الوقائع والمحاضر وما يمكن أن تصل الوضاعة بشأنه للغش في السجلات, وقس على ذلك. وما حدث في بريطانيا حدث كذلك في المستعمرات. فالجاسوس والمحتقر نفسه والمتواطئ والخائن الذي هو على أحر من الجمر ليأخذ "شارة الإستعمار" عونا على "أهله" كل منهم مشروع نموذجي للشخصية الإضطرابية التي أشواقها الإجتماعية ترنوا إلى ما وراء الحدود في إنتظار لا ينقطع لقوات أجنبية تتحد معها للإضرار بالأمان الإجتماعي وتغييرا للبناء المجتمعي في بيئتها المحلية تفوز منه بدور "غفير عمارة" للإنجليز. (د) إبحث في التاريخ تجد الإنتهازية وقد صنعوا لأنفسهم تاريخا ينفع أفلاما كرتونية في أسفاري الكثيرة بسبب العمل كنت مقيما بإحدى النزل ذات ويك إند بلندن. ولقيت سيدة أسكوتلندية متقدمة في السن. تحدثنا عن الفساد و"النصب" العلى عينك يا تاجر. وكانت خلاصة الحديث أن أكبر عملية نصب في تاريخ الجزر البريطانية كان تشريع إتحاد المملكة. إن عددا الرجال المفتقدين للكفاءة, الشرف, أو كليهما وأضحوا يعدون اليوم من الشخصيات التاريخية في بريطانيا ليبعث على العجب: جنرالات خونة تُسطر أسماؤهم في دفاتر مزخرفة للشرف؛ نصاب ينكح أخته يصبح رئيس وزراء العهد الذهبي للإمبراطورية (بنجامين دزرايلي)؛ "حرامي فضيات" ومجرم حرب أجبن من فأر يصبح القائد "الفاتح" للسودان (كتشنر)؛ فاشل عسكريا ومدلس تاريخ ومرتكب جرائم إبادة جماعية وصاحب بطولات هوائية من اختراعه يُنتخب بإسم ونستون تشرشل أعظم شخصية بريطانية في القرن العشرين. إن الذين يكتبون التاريخ للقراء الأميين ليسوا قلة في شمال موسم الهجرة وليسوا قلة في جنوبه أيضا. لكن جسارة الإنتهازية أنها حين تستسلم وتتحالف مع الغزاة مقدمة فروض الولاء والطاعة, ثم "تبعث لهم بفتيات القبيلة" (5) تجعل ذلك "بقدرة قادر" مناسبة للفخر الوطني يسري العمل به من تاريخه. حين يرحل أهل البلاد عن مناطقهم للعيش في أخرى فهم في تبديلهم لجغرافيا بأخرى يسمّون مهاجرون أو نازحين. لكن الإنتهازية حين تفعل ذات الشيئ تسعى لأن يسمى تبديلها للمكان "إستثمارا" في البيئة المحلية. ضع في اعتبارك أن الإستثمار المشار إليه هي منة على السكان تستوجب أن تلهج ألسنتهم ثناء وشكرا تجاه "إستثمار" الباشبوزق. (د) "الزيت": المخلوقات الإنتهازية وفقدان الأصالة لكن السؤال لماذا؟ ربما إحدى الإجابات هي "أنا خير منه". شرخ في الفطرة السليمة تنبذ المجتمع الكبير وانحياز دوما إلى إحداثيات زمن ومكان يحتقر البيئة المحلية: التراث, التاريخ .. والأصالة, الأصالة, الأصالة! السكان إذن يتم تحويلهم إلى أغراب "وهم في عمق بيئتهم": في أرضهم, مرعاهم, آثارهم, جغرافيتهم. إن اللص العادي والمجرم الإعتيادي لا رغبة له في الإحتكاك بمن سرق منه. فهو يسرق ويمضي إلى حاله. لكن اللص الأكثر نذالة بعد أن يسرق ما سرقه, لديه "قوة عين" تجعله يمشي مناديا بين الناس أن صاحب البيت "معدم" وياله من بائس مسكين. تلك الوقاحة التي لم يسبق مثلها في البلاد تبيّن للحصيف عبثية أيّ تعامل يليق بصفة متحضر. فالذي يفرز "وليد الإنجليز" من الكائن المعقول هو لامعقوليته: ليس فقط تعنته, وقاحته وازدراؤه للآخر, بل هو ممارسة التعنت بأكبر قدر من اللامعقولية: أي يمكن أن يأتي إلى منزلك ويتصرف كسيد البيت. هذا "الحق" في انتهاك الحدود جزء من تركة تاريخية ذات أوضاع سوسيونفسية مقلوبة. لآلاف السنين, كانت الحكمة والعلم وأخلاق الفرسان مقياسا لعلو المكانة الإجتماعية في بلادنا. كان كهنة آمون في بياض الجلابية السودانية الأنيق يرسمون بالكلمات في تناسق بديع: المهندس يطبب, والمعماري يمزج محاليله بدقة الكمال. والفلكي يضع المسائل الرياضية المعقدة في صيغة فلسفية, "قال ليك يا زول " ويضعون كل شيئ بمقدار. لكن منذ حوالي مائتي سنة تغيرت الأوضاع الرسمية. فأصبح "الفيلق" التركي الفاسد والفيلق الإنجليزي الأفسد منه (6) والفيلق الأجنبي بشكل عام هو مرجعية الشيئ الحسن. بينما "المهدية؟" عند القراي ومن قبله البدرييين وبقية وليدات الإنجليز تصبح هي الشيئ الدخيل. ولكي يمكن لهذا الوضع الغريب أن يتحقق ليس هناك سوى وسيلة واحدة: إلهاء الأغلبية فيصبح الطريق شاغرا لتصبح الأقلية على سدة الحكم. الأبعد من ذلك أنّ جعْل الأغلبية مشغولة ومنقسمة على نفسها هو بالضرورة إعطاء للأقلية الإنتهازية المسوّغ المنطقي للتدخل ك"حَكَم" يقضي بينهم. هذا الحكم قد يكون عسكريا أو مدنيا. قد يتسلل إلى أروقة الدبلوماسية كممثل "للوطن" أو يزرع نفسه كرئيس تحرير منصة إعلامية. قد يكون إسمه عبود أو الأصم أو صلاح قوش أو الدقير. لكن ما يفضحه أكثر ما يفضحه هو ولعه الذي يصل لدرجة التقديس للنفايات الإنجليزية: كتشنر, ونستون تشرشل, إيتش دجي ويلز, وحتى عرفان صديق. تهافته لنيل الحظوة للإجتماع بالأجانب – وعلى رأسهم مبعوثو البلاط الإنجليزي, متبوعا بقلادة "التبعية" للبلاط تمثل شرفا لا يدانيه شرف, وذروة انفعالاته التي تتأجج في بركانيات منامية. أو مثل "الشمس (حين) تنزل من السماء كالرصاص المصهور" (7) فتسيح دماغ أحد عبيد المتنبئ حين يرى ثورا يتوهمه منارة مسجد. من وجهة نظر باشبوزقية, تلكم التبعية ليس رابطة كيميائية عابرة, بل هو إتحاد دائم: إندماج جسد وروح الكائن الإنتهازي التابع في الذات الإنجليزية. هناك, "في أفق بعيد" حيث شهوة انفكاكه من "قيد الأغلبية" التي بعزتها يبدأ منفاه الفاقد لل .. أصالة. مازن سخاروف, 5 ديسمبر 2021 الهوامش ———— (1) هذا من اجتهاد عالم الإجتماع ماكس فيبَه. (2) بيد أن هذا "التعايش" المشار إليه لا نطرحه على علاته, فهناك ظروف تخلق الحاجة لرفض تعايش واقع\مفروض, أو مقاومته – الظلم والقتل والإعتداء على الكرامة كأمثلة. (3) تطرقت للأنقلوساكسونية بشكل مفصل في كتاب "الديمقراطية والتحيز", وإحدى الإستنتاجات بأسانيدها أنها هوية مزورة أو "ألْمَنة بالإكراه". (4) تجارب فاشية, مثل أول جيش جنجويد أول قوات "دعم سريع" مرتزقة في العصر الحديث (بداية الإستعمار الحديث في القرن السابع عشر متزامنا مع ظهور "شركات الإمتياز", راجع سخاروف المصدر السابق), الذي يسمى اليوم يسمى الجيش البريطاني. أما الفاشية نفسها فهي أيضا إختراع بريطاني. موسوليني مثلا كان عميلا بريطانيا مدفوع الأجر, أو "باشبوزق إيطالي". (5) روايات مثل "إرسال" إبنة كبير القبيلة إلى العدو, الذي, قال ليك أعادها لأهلها معززة مكرمة. يبقى يقابلني. لكن الخونة الذين أصبحوا أبطالا في بريطانيا لا يختلفون كثيرا عن أتباعهم من الخونة الصغار الذين يمارسون "استحمار التاريخ" بالتزوير وترديده حتى يصبح الباشبوزق سيدا. لكن ذلك لا يتحقق بسبب وجود الذاكرة الوطنية. ولا سبيل للمخلوق الباشبوزقي حتى حين يغتصب السلطة كوريث للإستعمار ويحكم بسلطة القمع سوى الإنتظار حتى تتباعد المسافة بين أجيال لا تعرف تاريخها. (6) إبتدأت سلسلة مقالات بموقع سودانايل عن "الفساد في بريطانيا" خاضت في أمر "برترند رسل" (الفاكيها في روحو) بشكل عابر, ثم ابتدأت التفصيل بتشرشل كحالة نموذجة للتدليس وفساد الرجل غير المناسب. (7) من رواية لعبد الرحمن منيف. == مازن سخاروف, مهندس وباحث سوداني [email protected]