قاضي محكمة عليا سابق قرأتُ الكثير من تعليقات الأحبة عن اسباب تركي العمل بالقضاء. لا أدِّعي بطولة زائفة ولا اعرف دروب السياسة ابداً. إن لساني يلهج بالشكر لشباب المقاومة وبالدعاء الصادق لشهداء الثورة المجيدة؛ وهم أكرمُ منًا جميعًا؛ وهم من أتوا بنا للعمل في القضاء بعد ان فصلنا عمر البشير في عام 1990م ظلماً وجوراً ليتمكن في وقتٍ وجيز من جلب قضاة عقائديين اقسموا قسم الولاء للحركة الاسلامية. حلّ هؤلاء القضاة بدلاء للقضاة المتدربين تدريباً عالياً والذين يتسمون بالمهنية العالية الرفيعة. عدنا للعمل بفضل الثورة العظيمة (ثورة ديسمبر)؛ وشرعنا في العمل المُضني مند اليوم الاول ومعي نفرٌ كريم من القضاة العائدين ولم نتوقف لهنيهةٍ واحدة عن كتابة توصياتنا الإصلاحية ومخاطبة رئيس القضاء في اجتماعات مشهودة وكذا نائب رئيس القضاء حتى ملّ القضاة منا. وبعد إنتشار تركي للعمل في القضاء وجدتُ غاضبين غضباً مُضرياً عن إنسحابي من المعركة كما يسمونها؛ وأجدُ لهم العذر في هذه الغضبة النبيلة. ولكن يعلم الله انني نحتُ الصخر بأظافري طيلة هذه الأشهر ومعي زملاء آخرون كما أسلفتُ. ان الدمار الذي رأيته بأم عيني في السلطة القضائية لا يمكن ايجازها في سطور قليلة ها هنا، ولكن نحتاج حقاً لمجلداتٍ ضخمة تسبر غور الفساد وضعف القضاء والقضاة وانعدام الثقة في تحقيق العدالة تلبيةً لشروط الثورة التي رفعها شعبنا في الحرية والسلام والعدالة. ان ما دفعني بصورة مباشرة لترك العمل هو شعوري بتأنيب الضمير الذي لازمني منذ إنقلاب عبدالفتاح البرهان على الوثيقة الدستورية على مرأى ومسمعٍ من العالم. لماذا يصمتُ القضاة؛ سيما قضاة المحكمة العليا الذين اقسموا على حسن تطبيق القانون وصون وحماية الدستور؟ ماذا بشأن المجازر التي ترتكبها القوى الأمنية بأمرٍ مباشرٍ من الإنقلابيين؛ ولماذا لا نتوقف عن العمل مثلاً إحتجاجاً على ذلك، إنّ القضاةُ لا حول لهم ولا قوة فهم ليسوا بسياسيين حتى يحتموا بأحزابهم وليسوا بنشطاء يشاركون في المواكب الهادرة التي تجوب شوارع البلاد. عندما قام عبدالفتاح البرهان بإنقلابه العسكري طرحتُ سؤالاً على نفسي؛ هل يُمكن لي ومعي ثلاث من قضاة المحكمة العليا؛ اي والله؛ ان نتوقف عن العمل إحتجاجاً على قتل أبنائنا وبناتنا في المواكب؟ قلّبنا الفكرة أربعتنا ورأينا ان هذه الخطوة هي اقرب للإنتحار. لم نخشى ونهابُ من فصلنا عن العمل ابداً فقد فُصلنا فصلاً جائراً عند قدوم نظام البشير. عندئذٍ صارت المُعضلة فردية وصار السؤال مُلِّحاً أكثر من ذي قبل: هل نبقى تحت إمرة عسكريٍ مغامر جاء ليقتل ويغتصب ويعذب ويعتقل ويعيد البلاد لمربعٍ خطير؛ ام أكرم لنا ترك العمل والعمل من الخارج في فضح النظام الديكتاتوري الذي جثم على صدر البلاد؟ وجاءت الإجابة حاسمة لا لبس فيها ولا غموض؛ لن أظل وليوم واحد في العمل في ظل نظامٍ جديد جاء يحكم من اول يوم بالقوة والغدر والتخفي والمؤامرة وقتل الأبرياء السلميين. قررتُ بعد أن أستخرتُ ربي ان أترك العمل بالقضاء والعودة لصفوف شعبنا كأحد أبنائه؛ مناضلاً بالشعر والنثر؛ فاضحاً في كل محفل دمار السلطة القضائية وفشل قضاتها وعدم رغبتهم في تحقيق الإصلاح الهيكلي المنشود. اننا نملكُ رؤيةً شاملة للإصلاح وهي جاهزة قدمناها من قبل في مؤتمرٍ للقضاة في حضور السيدة نعمات عبدالله رئيس القضاء السابق. هذه الرؤية والخطة الإصلاحية تنتظر من يأتي لتطبيقها ولا يتأتّى ذلك الا بتعيين رئيس قضاءٍ شجاع يعيد للقضاء شموخه وهيبته المفقودة وما النصر الا من عند الله.