أكثر من خمسين عاما من عمر الدولة السودانية بعد الاستقلال كانت حكما عسكريا. بالطبع كانت هناك دوما جهات مدنية دفعت لذلك وشاركت فيه منذ انقلاب عبود وصولا إلى انقلاب البرهان. محصلة ذلك هي ما عايشناه ونعايشه الآن وقد وصلت الدولة السودانية إلى ما تحت القاع و(صار الفشل كل يوم يولد فشل). رغم محاولات شرعنة الانقلابات إلا أنها لم تتمكن من اكتساب الشرعية واستمرت بفرض الأمر الواقع المحمي بالقبضة الأمنية وشراء الولاء والاستثمار في ضعف وتشرذم التنظيمات السياسية. وبالمقابل خلفت وراءها كوارث بدأت بنظام عبود الذي سمح لدولة أخرى بإغراق حضارة وتاريخ ونخيل وتهجير مواطنين لتكون بحيرة سدها داخل السودان. ثم أتى جعفر نميري الذي خلف وراءه قوانين سبتمبر، وتغلغل الإسلاميون في مفاصل السلطة والاقتصاد، وهو ما استغلته في عهد البشير الذي سقط تاركا خلفه إرثاً ثقيلاً من العزلة الدولية والكوارث الإنسانية والاقتصادية وجيشاً موازياً نرى تمدده كل يوم ليصنع دولة داخل الدولة. وما يحدث اليوم في ذات المسار، ولكن بخطورة أكبر بكثير. فعندما يخرج مستشار البرهان الإعلامي ليصرح بأن العسكريين أكثر الناس حرصا على الدولة المدنية والديمقراطية ويصرح منتقداً ما أتت به قحت في الفترة السابقة للانقلاب ثم يصرح مبررا أمر إقالة البرهان لمدير الإذاعة والتلفزيون بأن التلفزيون لا يجب أن يخرج عن استراتيجية الدولة، وأنه قد ضخم المظاهرات. ونعلم أن استراتيجية دولته المزعومة هي إعادة تمكين عناصر الإنقاذ في كل مفاصل الدولة بما فيها الإعلام بالطبع. وفي دولة الحزب الواحد يصدر القرار وتليه التبريرات حسب أهواء ذلك الحزب. السلطة الآن بيد تحالف الأحزاب المسلحة من جيش ودعم سريع تتبعهم حركات سلام جوبا ويقف خلف كل هؤلاء بقايا نظام الإنقاذ في تحالف مصالح اتفق على وأد الثورة وعرقلة مسار التغيير. هو تحالف هش سيفرقه صراع المغانم التي لا تضاهي مغانم الإنقاذ، فالأوضاع الداخلية والخارجية تغيرت كثيرا لتصنع واقعاً جديداً أكثر تعقيدا من آخر أيام الإنقاذ. الأكاذيب القديمة لن تصنع إنقاذاً جديدة. مداميك