هناك خطأ يتكرر في كثير من حالات النزاع المستعصية على الحل بوضع اللوم على الأممالمتحدة. فهي منظمة وليست فردا، وهي تهمة لها أنصارها كون هذه المنظمة نجحت في حل نزاعات وفشلت في أخرى، وفشلها أكثر من نجاحها. وعندما تنجح في حل نزاع ما تقدم التهاني للأطراف المتنازعة وأحيانا يمنحون جوائز نوبل وعندما تفشل الجهود الدولية يتفق أطراف النزاع رغم اختلافهم على كل شيء، بوضع اللوم على المنظمة الدولية، لأنها المطية الأكثر سهولة. وإنصافا للحقيقة، وليس دفاعا عن المنظمة الدولية، فاللوم في غالبه يجب أن يوجه لأطراف النزاع أساسا خاصة ولمموليهم وداعميهم ومسلحيهم ثانيا. ففي كل حالة نزاع يبدأ أحد طرفيه أو كلاهما بمحاولة حسمه بالعنف والسلاح. وعندما يفشل هذا الطرف بحسم الصراع لصالحه وتمتد الأزمة طويلا ويصبح الثمن غاليا وتأخذ الحرب أو المواجهات أو العنف، أشكالا متنوعة، تشمل الاقتصاد والسياسة والمواصلات والاتصالات، والاستثمارات والاستقرار وتذمر الشعب، ثم تصاب المؤسسات بالدمار ويسقط المدنيون ضحايا للنزاع ويتبع ذلك إدانة المجتمع الدولية لاستهداف المدنيين والصحافيين ونشطاء المجتمع المدني، ثم تتفاقم المعاناة لدى الناس العاديين فيبدأ المجتمع الدولي بعقد لقاءات للدول المانحة لجمع التبرعات لتأمين الاحتياجات الإنسانية، وكلما طالت الأزمة زاد تململ المجتمع الدولي فتقل التبرعات أو عدم الالتزام بالعهود المقطوعة في مؤتمرات الدول المانحة، ثم يبدأ التبرم بحالة الجمود والتي ممكن أن تستمر لسنوات أو لعقود من دون أفق للحل، كما هو الحال في الصحراء الغربية وقبرص وجنوب لبنان والصومال والكونغو والآن اليمن وليبيا وسوريا والسودان موضوع هذا المقال. السودان بعد انقلاب 25 أكتوبر في إحاطته الأخيرة لمجلس الأمن في نهاية شهر آذار/مارس حذر ممثل الأمين العام الخاص في السودان، فولكر بيرتس، الطبقة السياسية في السودان قائلا: «الوقت ليس في صالح السودان، وأتحدث معكم اليوم بإحساس من الإلحاح، الذي يشعر به أيضا أصحاب المصلحة السودانيين القلقين على استقرار وبقاء بلدهم. أن المخاطر كبيرة، وتطلعات السودانيين – نساء ورجالا، إلى مستقبل ديمقراطي مزدهر بقيادة مدنية، معرضة للخطر. وإن لم يتم تصحيح المسار الحالي، ستتجه البلاد نحو انهيار اقتصادي وأمني ومعاناة إنسانية كبيرة». فاللوم يقع أساسا على النخبة التي لا تريد تصحيح المسار حسب خطة الطريق التي أطلقتها الأممالمتحدة للعودة إلى المسار الديمقراطي الانتقالي الذي اتفق عليه. ففي أعقاب استقالة رئيس الوزراء، عبد الله حمدوك، في 2 كانون الثاني/يناير، قاد بيرتس، جهودا واسعة للحوار بين جميع مكونات الطيف السوداني. فعلى مدار خمسة أسابيع، استمع إلى آراء السودانيين بشأن الخروج من الأزمة واستعادة الانتقال الديمقراطي الموثوق فيه. وقد أجرت البعثة الأممية أكثر من 110 اجتماعات تشاورية مع أكثر من 800 مشارك، وتلقت أكثر من 80 تقريرا مكتوبا، حول الأزمة وسبل الخروج منها. وقال جاء المشاركون في جلسات الحوار من كل أجزاء السودان، وثلثهم من النساء. وقد كان هناك توافق في الآراء بين السودانيين على عدد من المسائل الهامة ومنها: – الحاجة إلى إنهاء العنف فورا وخاصة العنف الذي تمارسه الأجهزة الأمنية؛ – ضرورة تشكيل حكومة تكنوقراط غير مسيسة تسير بالبلاد في الفترة الانتقالية لغاية الانتحابات المقررة عام 2023؛ – الحاجة إلى تشكيل مجلس تشريعي انتقالي ليكون بمثابة هيئة رقابية ويتبنى تشريعات مهمة في الفترة الانتقالية؛ لكن العسكر صموا آذانهم وأمعنوا في الاستهتار بمشاعر الشعب السوداني الأصيل فاستمرت المظاهرات الشعبية في الخرطوم والمدن الأخرى، ووجهت بالقوة ما أدى إلى مزيد من حصد أرواح المحتجين أو إصابتهم بجراح في أعيرة حية. وقد زاد حجم الاعتقالات التي تستهدف قادة الاحتجاجات وأعضاء لجان المقاومة وقادة سياسيين، والكثير منهم حُرموا من الوصول إلى محامين أو الاتصال بعائلاتهم. كما استمرت ظاهرة إرهاب النساء والتعرض لهن والتحرش بهن كي لا تأخذ الاحتجاجات شكلا مدنيا راقيا. فمنذ 22 آذار/مارس، حتى نهاية الشهر نفسه أبلغت 16 سيدة عن تعرّضهن للاغتصاب خلال المظاهرات في الخرطوم، لكن العدد الحقيقي قد يكون أكبر بكثير بسبب إحجام النساء عن الإبلاغ عن مثل هذه الحوادث. تراجع الدعم الدولي في السابع من آذار/مارس الماضي أعلن البنك المركزي تعويم العملة السودانية. وقد أدّى ذلك إلى انهيار فوري في قيمة الجنيه بأكثر من 35 في المئة مقابل الدولار الأمريكي. كما أن البلاد شهدت ارتفاع الأسعار بشكل كبير، خاصة أسعار الخبز والوقود والكهرباء والدواء والرعاية الصحية وأجرة وسائل النقل العام. السودان يخاطر بخسارة المليارات من الدعم الخارجي، حيث تم إيقاف المدفوعات من البنك الدولي وصندوق النقد الدولي والجهات المانحة الرئيسية الأخرى مؤقتا، وسيظل الدعم متوقفا طالما لم تكن هناك حكومة تقوم بوظائفها في المكان. كما أن الاستثمار الأجنبي قد توقف تماما وتراجعت الصادرات وزادت البطالة ما أضاف بعدا اجتماعيا واقتصاديا على الاحتجاجات السياسية التي بدأت تشهد شعارات تندد بارتفاع الأسعار وتدهور الأحوال المعيشية. صحيح أن المساعدات الإنسانية العالمية لم تتوقف لكن الاحتياجات اليومية في تزايد. السودان ما زال بحاجة إلى الدعم الدولي الذي لم يتوقف لكنه يتراخى بسبب الأوضاع الداخلية، فالبرنامج الإنساني التابع للأمم المتحدة في السودان يقدم المساعدات لأكثر من 10 ملايين شخص يعانون من انعدام الأمن الغذائي؛ و3.1 مليون نازح داخليا؛ وأكثر من 1.1 مليون لاجئ في السودان. للخروج من المأزق من وجهة نظر الأممالمتحدة ومبعوثها الخاص بيرتس، المطلوب الآن خريطة طريق للفترة الانتقالية إضافة لبرنامج حكومي يركز على مجموعة أهداف قابلة للتحقيق في المجالات الأساسية بما في ذلك نوع وتوقيت وشروط الانتخابات في نهاية هذه الفترة. وتشمل الخريطة أولا مصالحة داخلية تبدأ بإطلاق سراح جميع المعتقلين السياسيين بدون محاكة، ورفع سقف حرية الرأي والتعبير والتجمع والابتعاد عن استخدام العنف ضد المتظاهرين والمتظاهرات. ومساءلة كل من ارتكب جريمة ضد المدنيين خاصة أولئك الذين مارسوا العنف أو التحرش أو الاغتصاب ضد النساء. وثانيا العودة إلى اتفاقية الائتلاف بين قوى الثورة والجيش والتي أطاح بها ضباط الجيش بقيادة الثنائي البرهان وحميدتي. وتشمل الخريطة تحديد موعد جديد للانتخابات المقبلة يسمح فيها لكل الأطراف والفصائل والأحزاب أن تطرح برامجها بحرية وأن تعبئ جماهيرها على برنامجها الانتخابي بدون تدخل من السلطات. يجب الاتفاق بين المكونين العسكري والمدني على القواعد الدستورية المؤقتة، بما في ذلك الاتفاق على الأجهزة التنفيذية والتشريعية والقضائية للمرحلة الانتقالية وكذلك هيكلها ووظائفها. ويجب الاتفاق كذلك على معايير وآليات تعيين الوزراء ورؤساء الحكومات. ويجب أن تضم القوائم الانتخابية حصة للنساء، فلا مكان في عالم اليوم لعملية سياسية تقوم على إقصاء المرأة. هذا شيء من مخلفات الماضي وعهد البشير الذي كان يستعذب جلد النساء في الشوارع فقط إذا لبسن البناطيل. وقد أعلن بيرتس أن جولة جديدة من المحادثات المكثفة ستنطلق بعد شهر رمضان وتهدف إلى «العودة إلى النظام الدستوري والمسار الانتقالي، بحكومة مدنية ذات صلاحيات لقيادة البلاد خلال الفترة الانتقالية ومعالجة الأولويات الحاسمة». لكن المحادثات السودانية السودانية لن تنجح إلا إذا ساد مناخ ملائم إيجابي بين جميع الأطراف في البلاد، وهذا يتطلب إنهاء العنف وضمان الحق في التظاهر السلمي، وإطلاق سراح الموقوفين السياسيين ثم الدخول في مفاوضات جديدة وفي ذهن كل طرف الاستعداد لتقديم تنازلات مهمة من أجل مصلحة الشعب، والاستقرار والازدهار. وقد رحب الاتحاد الأفريقي ومجموع أصدقاء السودان بالعملية السياسية التي يقودها السودانيون والتي تُيسرها الأممالمتحدة وبعثتها في السودان ومجموعة دول «إيقاد» باعتبارها وسيلة لتحقيق تطلعات الشعب السوداني في الحرية والسلام والعدالة واستعادة الانتقال الديمقراطي في البلاد. فهل سينتصر الوطن على النزعات الفردية والسلطوية والمتوافقة مع أجندات خارجية لا تريد للسودان خيرا ولا يهمها من أمر السودان إلا توسيع دائرة التطبيع مع الكيان الصهيوني؟ وهل يقتنصون الفرصة الأخيرة قبل أن ينفض المجتمع الدولي من حولهم تماما؟ القدس العربي